الاتكاء على التاريخ… الحالة الفلسطينية مثالاً – معين الطاهر
ثمّة إشكالية تجتاح عالمنا العربي والإسلامي، وتنعكس على الحاضر من أيامنا، تتمثل في الاتكاء على التاريخ، وخصوصاً نقاطه المضيئة، واستحضارها بصورة مستمرة، لتُشكّل بديلاً عن الواقع الراهن، وبعيداً عن أي فهم منطقي له. نهرب من الحاضر إلى الغائب، ونبدو ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين أسرى أوراق صفحاته، نتعلّق بأهدابه، ونعيش لحظتنا عبر ذكراه، فنتمسك بالماضي، ونفقد كل صلة بالحاضر.
من الجيد الاستفادة من دروس التاريخ، وأخذ العبر من انتصاراته وهزائمه، وتقلب الأحوال فيه، والاعتزاز بمآثره الكبرى، وتخليد ذكرى أبطاله العظام، والتمثّل بعطائهم وتفانيهم وسلوكهم وانحيازهم لقضايا الحق والعدل والحرية، واعتبارهم قدوةً تُحتذى للأجيال. ومن المهم أن نستذكر تطورات حوادثه، وتقلبات سياساته، وصولاً إلى ما نحن عليه الآن، فالجدير بنا أن نتعلّم من تاريخنا القديم والحديث، لا أن نعيش عليه، أو نعتاش منه.
ومن الشواهد على ذلك أنّنا نواجه تقدّم الغرب وقوته باستحضار الدلائل التي تثبت أنّ العرب هم أساس هذه النهضة، منذ نقل الغرب عنهم علومهم، وكأنّنا قمنا بدورنا فيما مضى من تاريخ غابر، من دون أن نُكلّف أنفسنا عناء البحث في أسباب تأخرنا وتقدم الغير. وفي فهمنا ديننا نمنح الشواهد التاريخية صفة القداسة، ونتبنى تأويل النصوص وتفسيرها بما لا يتناسب مع عصرنا وواقعنا، فنُلغي بذلك أساساً متيناً من أسس الفقه والاجتهاد، ونُغلق باب النهضة والتقدم، ونُفسح المجال لفقه الدم والتترس والتوحش بالظهور. ولا يعبّر ذلك إلّا عن الضعف في فهم حاضرنا، ومحاولة يائسة للهروب منه، عبر الاستقواء بالماضي، لعل في ذلك ما يريح ضمائرنا، ويعفينا من بعض مسؤولياتنا في إحداث التغيير المنشود، والإمساك بنواصي التقدّم، وصناعة تاريخنا نحن.
تنسحب هذه الظاهرة على الحالة الفلسطينية، وتنتشر في وسطها السياسي، فتمنع أي نقاشٍ جدّي عن الواقع الراهن، من خلال الهروب إلى زمنٍ آخر مضى عليه أكثر من ربع قرن، ويغيب الجدل السياسي تحت وطأة الاتكاء على تاريخٍ مجيد، فيمنع من رؤية الواقع، والسياسات الممارسة على أرضه، ويحول بذلك دون إحداث تغيير حقيقي في بنية المشروع الوطني الفلسطيني، ويتحوّل التنظيم والفصيل إلى تاريخٍ مضى، ورموزٍ نضاليةٍ عظيمة أدّت دورها الوطني، ومضت شهيدة إلى ربها. نتجاهل واقعنا المزري، ومسار التسوية الكارثي، والحلم الفلسطيني الذي أجهز عليه الاستيطان، والانقسام المريع في صفوفنا، لنتغنّى بمجد أبطال قد ذهبوا، من دون أن نذكر شيئاً عن حاضرنا ومستقبل قضيتنا ومشروعنا الوطني، فالعيش في الماضي أكثر راحةً للنفس من مواجهة الحاضر بكل آلامه .
في الانتخابات التي جرت، أخيراً، في جامعة بير زيت، وأسفرت عن فوز حركة حماس بفارق ضئيل على حركة فتح، تجلّت هذه الظاهرة بكل أبعادها، وهو أمر يحدث يومياً في كل مكان. كانت شعارات “فتح” الكوفية والبندقية والعلم الفلسطيني، وأنّها أول الرصاص، وصاحبة الطلقة الأولى، والحجر الأول، مستذكرة الكرامة وبيروت والشقيف وأبو عمار وأبو جهاد وغيرهم من القادة الأبطال، وهو مجد لا ينكره أحد.
هرب أبناء “فتح” من تساؤلات الكتل الأخرى عن “أوسلو”، والتسوية، والسلطة، والفساد، والتصريحات الأخيرة للرئيس محمود عباس، إلى ما كانت حركتهم تردّده في السبعينيات والثمانينيات. وهربت “حماس” من تساؤلات الكتل الأخرى عن سبب عدم إجراء انتخاباتٍ في جامعات غزة ونقاباتها، وعن الانقسام، وآليات إدارة القطاع، إلى الحديث عن المقاومة والصمود في اجتياحات غزة المتكرّرة. وفي النتيجة، حصل الفريقان على نسب متقاربة، وتزيد في مجموعها عن 80% من أصوات المقترعين، عبر الهروب من أسئلة الحاضر، واللجوء إلى التاريخ. وهي نسبة تكاد تكون ثابتةً قي أي انتخابات، بغض النظر عن الفائز فيها بفارق نقاط قليلة، أو استطلاع للرأي العام.
لا تتوقف هذه المفارقة على انتخابات الطلبة وسواهم، وإنّما تنعكس، أيضاً، على جمهور كل منهما، حيث يوفر الاتكاء على تاريخٍ مجيدٍ سابقٍ حصانةً تمنع من إثارة أي أسئلة جدّية تتعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني الراهن والمستقبلي، وتحوّل جمهور كل فصيل إلى ما يشبه العشيرة التي تدافع عن مكانتها بين العشائر، بغض النظر عن أي معيارٍ سياسيٍّ راهن، إنّما عبر اتباع أقوال شاعرها الذي يمجّد ماضيها وينسى حاضرها.
يلحق هذا النمط من التعبئة الجماهيرية ضرراً كبيراً في المشروع الوطني الفلسطيني، ويمنع من حشد الجمهور على أساس مشروع نضالي جديد، إذ ما الحاجة إليه، ما دمنا نُردّد شعاراتٍ فقدنا العمل بها منذ سنوات، لكنّها ما زالت صالحة للاستهلاك الجماهيري، لتبرير أي عجز عن ممارسة ما يشبهها؟ فما يدعونا إليه الآخرون، أو ينادون به، سبق وأن قمنا به منذ سنوات. تعيق مثل هذه النظرة للأمور تشكّل تيار وطني جارف، يلتفّ حول الثوابت الوطنية الفلسطينية، ويتخذ منها قاعدة لإطلاق المشروع الوطني الفلسطيني الذي يضم كل أجزاء المجتمع الفلسطيني في الداخل والشتات.
ثمّة أمل في أن نتخلص من الاتكاء على التاريخ إلى المبادرة في صنعه، وتحقيق دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط عبر انخراط الشباب كلهم، ومن الاتجاهات كلها في تيارٍ عابر للفصائل ينمو ويكبر عبر تصعيد النضال والكفاح والمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني. بذلك فقط، يتم التواصل مع التاريخ المجيد، بدلًا من الاتكاء عليه، وتوظيفه لتبرير أخطاء الحاضر.