الاستشراق الأميركي إضاءات على العوامل والجذور الثقافية – د. مسعد عربيد
الاستشراق الأميركي إضاءات على العوامل والجذور الثقافية – د. مسعد عربيد
توطئة
التمييز ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة والنظرة الفوقية إزاءهم أمر مألوف يعرفه كل مَن يعرف أميركا وسياساتها وكل مَن يقيم فيها أو يزورها. بل لا مغالاة إن قلنا بأن العرب الأميركيين لم ينجوا من مرارة وتبعات هذا التمييز منذ أن وطأت أقدامهم شواطئ الولايات المتحدة، وليس منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 كما يتوهم بعضنا.
يوحي الظاهر الأميركي بأن ثقافة التمييز العنصري ومفرداته المسيئة للجماعات الإثنية والقومية والدينية في الولايات المتحدة، هذه الثقافة قد اختفتت الى حدٍ كبير. وهذه الجماعات، بالمناسبة، هي ملايين المهاجرين الذين شكّلوا الكيان الأميركي كما نعرفه اليوم. غير أن هذا لا يعني زوال التمييز الفعلي والنظرة الاستعلائية المتأصلين في المجتمع الأميركي، بقدر ما يؤكد على التلاعب بالألفاظ والمفردات التي تتبدل في ذلك المجتمع بسرعة فائقة في محاولة دؤوبة لطمس الأبعاد والجذور الطبقية والاقتصادية للتمييز العنصري والتي كانت أصلاً الأساس والسبب الجذري في نشأة التمييز العنصري ونحت مفرداته.
لم نعد نسمع في أميركا، على سبيل المثال، العبارات النمطية stereotype حول اليهودي أو الصيني أو الإيرلندي أو حتى الأسود، تلك العبارات التي كانت دارجة لأمدٍ طويل في الحياة الأميركية، ولكنها لم تعد مقبولة اليوم، على الأقل في الخطاب العام السائد في المجتمع والإعلام والسياسة. وبالرغم من هذا، فإن التمييز ضد العرب ما زال يلقى قبولاً ورواجاً.
لا يقتصر هذا الموقف على معاداة العرب في المستوى السياسي – المتمثل في الدعم المستديم للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، ودعم الأنظمة العربية المرتبطة بالإمبريالية الأميركية، ومخططات الهيمنة على الوطن العربي بغية نهب موارده وأسواقه فحسب – بل وفي المستويات الإعلامية والثقافية والفكرية والأكاديمية التي تصيغ الانطباعات الشعبية والرأي العام. وبوسعنا أن نكثف هذا الموقف في الرؤية العنصرية والفوقية لما هو عربي ومسلم، وفي فضائه الأوسع، للآخر غير الأوروبي الأبيض وغير المسيحي. وهذا الاستنتاج، على ما فيه من تعميم، تسنده ظواهر ومشاهدات عديدة يستعصي اغفالها أو التغاضي عنها في المجتمع والثقافة الشعبية الأميركية.
ربَّ رأي يقول بأن هذه المقولة تنطوي على بعض التعميمات وتفتقر الى المعطيات الموضوعية أو الإحصائية. وهذا صحيح الى حدٍ ما. ولكننا كثيراً ما نلجأ الى التخمين والتعميم، خاصة إذا ما غابت المعطيات العلمية والموضوعية، مستندين في ذلك الى الأدلة والشواهد التي تقدمها الحياة وما تضمنه من تجارب وخبرات حسية. وحتى لو توفرت المعطيات والإحصائيات، فإن هذا لا يقلل من أهمية هذه الدلائل والشواهد.
تعريف
لا نتناول الاستشراق في سياق هذه الدراسة بمفاهيمه النظرية أو الأكاديمية أو كأدوات للدراسة والتحليل لدى المؤرخين والأكاديميين والأنثروبولوجيين، بل نتناولة كحالة ثقافية وذهنية/عقلية ذات أبعاد ٍ وتأثيرات عميقة في الثقافة والسياسة والمجتمع. وحيث أن ما يهمنا هو الوصول الى فهم نقدي لهذا الاستشراق إزاء شعوبنا، فإن التركيز على الجوانب الثقافية والعنصرية لا يقلل من أخطار المخططات الأميركية بل تظل هذه الجوانب مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتلك المخططات سواء كانت سياسية أو اقتصادية او جيو-إستراتيجية.
يرتكز الاستشراق الأميركي على ذات الركائز والدوافع التي قامت عليها العنصرية والفوقية الأميركية والتي شكّلت موقف الأميركي الأبيض من الآخر منذ نشأة المستوطنة الأميركية في أميركا الشمالية. وهنا، فإن الاستخفاف بشعوبنا وشعوب العالم الثالث مقابل المغالاة في فوقية أميركا وقدرتها، يشكّل أحد المكونات الأساسية لهذا الاستشراق.
يقوم الاستشراق الأميركي، إذاً، على عدة عناصر أبرزها:
1) التنميط العرقي الذي تحمله أغلبية الأميركيين حيال الشعوب والإثنيات الأخرى، وموقف الأميركي الأبيض المسيحي من الأخر، أي غير الأبيض وغير المسيحي.[i] وهو موقف يتمحور حول رسم صورة الآخر والشعوب الأخرى وتحديد الموقف منها من خلال اعادة صياغة العالم وفق “الصورة والمثال” الأميركيين.
2) تستمد هذه الثقافة الكثير من عوامل هويتها وقوتها من موقفها المعادي للآخر: للشرق. فعلاقة الغرب بالشرق، من منظور هذه الثقافة، علاقة محكومة بالتناقض. فهما (الشرق والغرب) من منظور هذه الثقافة لا يقفان على قدم المساواة، بل يقف كل منهما في موقع معاداة الآخر ويعمل على إشعال فتيل الصدام بينهما بهدف إبراز فوقية المستعِمر (الغرب) على المستعمَر (الشرق) على كافة المستويات المادية والحضارية والثقافية.
3) يشكّل هذان العنصران الموروث والعبء الثقافي لدى أغلبية الأميركيين.
على أرضية هذا الفهم للعناصر الأساسية للثقافة الغربية (الأوروبية – الأميركية) حيال الآخر، يتسنى فهم الموقف الأميركي من بلادنا ومجتمعاتنا، وهو ما يمهد لفهم المصالح والسياسات الأميركية إزاءها. وعليه، فإن المواقف الأميركية من بلداننا اتسمت على مدى العقود بالعنجهية والجهل:
أ) عنجهية تقوم على العنصرية والفوقية الأوروبية البيضاء؛
ب) وجهل حال دون فهم الأميركيين لواقع المنطقة العربية وأحوال شعوبها ومجتمعاتها.
الاستشراق الأوروبي والآخر الأميركي
■ لعل أول ما يلفت النظر في الفوارق بين هذين النمطين من الاستشراق هو الفارق الزمني والتاريخي الكبير بينهما. فالاستشراق الأوروبي (الفرنسي والبريطاني على وجه الخصوص) نشأ وتطور قبل الأميركي بقرون عديدة حيث رأى هذا الأخير النور في تجلياته العملية مع صعود الولايات المتحدة كقوة عالمية بعد الحرب العاليمة الثانية، مع أن إرهاصاته الثقافية والاقتصادية تكونت في القرن التاسع عشر.
■ ظل الاستشراق الأوروبي (الفرنسي – البريطاني) محصوراً في العديد من جوانبه وتأثيراته في أوساط المثقفين والأكاديميا، في حين دخل الاستشراق الأميركي الى ثقافة المجتمع الاستهلاكي الأميركي وخاصة في الحقبة الفيكتورية (1837 – 1901). فقد استخدم راس المال الأميركي التصورات الشعبية عن الشرق كوسيلة لتعزيز وإثارة الإغراء الفوري للاستهلاك والتبضع وهو ما شكّل مقدمة وسابقة لوسائل التسويق والإعلانات الحديثة كما نراها اليوم. (أنظر لاحقاً)
نشأة الاستشراق الأميركي
على الرغم من أن الاستشراق الأميركي في أبعاده السياسية تزامن مع الصعود السياسي للولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلاّ أن هذا لا يعني ان الولايات المتحدة ومصالحها الإمبريالية والإسترايجية كانت غائبة عن ساحة الشرق الأوسط[ii] أو أنها كانت خالية من نمط التفكير الاستشراقي. فالحقيقة، أن الولايات المتحدة بدأت بتدخلاتها – العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية في الشرق منذ المراحل المبكرة لتأسيس الدولة الأميركية. وقد اتخذ الاستشراق في تلك الآونة أشكالاً اجتماعية وطبقية انعكست بداية تجاه العمال والمهاجرين الصينيين وهو ما كرّس الاستشراق الأميركي كتعبير عن الفوقية الثقافية والإثنية والعرقية من خلال القوة المادية، المتمثلة في امتلاك وسائل الإنتاج وغيرها من الممتلكات المادية، والتسلط الطبقي (راس المال مقابل العمال المهاجرين). وهو ما يؤكد ما نذهب اليه أن الاستشراق الأميركي ظاهرة عميقة الجذور في المجتمع الأميركي بدأت وتنامت عقوداً طويلة قبل صعود الدور والقوة الأميركية في السياسة والحروب والعولمة. وقد ظل هذا الاستشراق القائم على القوة المادية والاقتصادية (“الاستشراق المادي” Material Orientalism كما يسمونه) مرتبطاً بشكل رئيسي بالشرق الأقصى حتى منتصف القرن التاسع عشر، ثم أخذ منذ ذلك الحين بالتوجه نحو بلدان العرب ومجتمعاتهم.
في الخلفيات
أ) البيئة الاقتصادية: الاستهلاكية والاستشراق في أميركا
شهد العقد الأخير من القرن التاسع عشر نقلة نوعية في المجتمع الأميركي ثمتلت في التحول من اقتصاد زراعي ذي صناعات صغيرة الى اقتصاد الصناعات الكبيرة مما حمل في طياته مغادرة الإنتاج في الريف والمدن الصغيرة الى مواقع الإنتاج في المدن الكبرى. وقد رافق هذا التحول الاقتصادي تحولات اجتماعية وثقافية أخذت معالمها بالتبلور والوضوح في تلك الآونة وأهمها الانتقال الى مجتمع استهلاكي عماده إنتاج السلع التحارية والاستهلاكية وانتشارها بشكل واسع خلال فترة الثورة الصناعية الثانية (الثورة التكنولوجية التي امتدت عبر عقود النصف الثاني من القرن التاسع عشر الى الحرب العالمية الأولى). صاحب هذه الزيادة في إنتاج السلع قلق لدى أصحاب الشركات من عدم قدرة السوق المحلية على استيعاب القدر الكبير من هذه البضائع. ومع بداية العقد الأخير من القرن التاسع بدى جلياً أن الإنتاج الصناعي قد يزيد، بفضل التطورات التكنولوجية الكبيرة، عن الطلب الاستهلاكي وحاجات السوق المحلية.[iii]
على ضوء هذه التطورات – زيادة الإنتاج عن الطلب المحلي وعدم ثقة رأس المال الأميركي بقدرة الإمبريالية على التوسع وفتح أسواق جديدة – وكحلٍ لإشكالية فائض الإنتاج، تفتق العقل الرأسمالي عن فكرة جديدة قوامها العمل على زيادة معدل الاستهلاك الفردي بغض النظر عن حاجات الفرد اي تشجيع الاستهلاك بما يفوق حاجات المستهلك. وقد تجسّد هذا الحل في توسيع السوق المحلية ومضاعفة أعداد المتاجر مما استدعى بدوره ابتكار وسائل تسويق جديدة لضمانة زيادة الاستهلاك الفردي والايقاع بالمستهلك في المزيد من التبضع والتبذير. وقد اتخذت وسائل التسويق هذه أشكالاً جديدة ومختلفة ارتكزت على ركيزتين رئيسيتين:
1) زيادة رغبة الناس في الشراء عن طريق إثارة الرغبات والعواطف بدلاً من التفكير والتخطيط في شراء ما يحتاجه المرء، وهو ما أدى الى تنامي صناعة الدعايات والإعلانات التجارية وتعليب المنتوجات والسلع على نحو جذّاب ومغرٍ.
2) إضعاف قدرة المستهلك على مقاومة الشراء والتبضع.
في سياق هذه النزعة الاستهلاكية المنفلته، انشدّ الأميركي الى الشرق الأوسط كسوق وكمصدر للمواد الخام، وكذلك كمنبعٍ غنيٍ لسحر الجماليات التي ستصبح لاحقاً مادة الإعلانات التجارية ووسيلة فعّالة في أيدي صناعة الدعايات وشركاتها في الولايات المتحدة. وقد واكب هذا التطور دخول الشرق الأوسط أجندة الولايات المتحدة ليحتل حيزاً في الأفق الدبلوماسي والثقافي والاقتصادي في أواخر القرن التاسع عشر، لا بسبب المبشرين والرحّالة الأميركيين فحسب، بل وبسبب توسع التبادل التجاري مع ذلك الجزء من العالم. فمنذ عقد السبعينيات من ذلك القرن، كان التجار الأميركيون يشترون نصف منتوج الأفيون في تركيا ثم يقومون ببيعه الى الصين، كما كانوا يزودون الإمبراطورية العثمانية بكل احتياجاتها من السفن الحربية والكيروسين وغيرها من السلع.
أ) الأوضاع الثقافية
شكّل الرحّالة الأميركيون خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الطلائع الأولى للولوج الى الشرق الأوسط، لحقت بهم أفواج من الإرساليات التبشيرية والتجار والسيّاح والحجاج المسيحيين. ومن الواضح أن هؤلاء كانوا قد سبقوا التواجد الإمبريالي والعسكري والدبلوماسي الأميركي في بلادنا. فمنذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر أخذت رحلات الأميركيين الى الأراضي المقدسة تلقى اقبالاً كبيراً، فكثرت التقارير والكتب والمقالات التي أعدّها الرحّالة والمبشرون والأكاديميون والأنثروبولوجيون وموظفو الحكومة وغيرهم من الذين تجولوا في تلك الأراضي ودونوا انطباعاتهم وملاحظاتهم التي كثيراً ما وصفت العرب بالوحشية والهمجية حيناً، وطغت عليها مشاعر الرومانسية والافتتان “بسحر الشرق” وجمالياته حيناً آخر.
تُظهرلنا نظرة عاجلة على الثقافة الشعبية التي كانت سائدة في الولايات المتحدة خلال هذين القرنين (الثامن عشر والتاسع عشر)، أن العرب والمسلمين واليهود وغيرهم من الأديان والإثنيات كانوا خاضعين للنظرة الاستشراقية (كانوا “مُستشرقين”) في الذهنية الأميركية. بعبارة أخرى، كانت الصورة السائدة عنهم في الذهنية الأميركية أنهم منحطون ومتخلفون وليسوا جديرين بالثقة. حتى ذلك الحين، يمكننا القول بأن معرفة الأميركيين بالعرب أو ما سُمي لاحقاً بالشرق الأوسط لم تكن تتجاوز تجارب صراعهم مع عرب الشمال الافريقي في حروب طرابلس (الغرب)[iv] Tripolitan Wars.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تظافرت عدة عوامل على صنع صورة العربي في الذهنية الأميركية، أهمها:
– الداروينية الاجتماعية[v] التي شاعت في تلك الآونة، والتي يزعم أصحابها بان الصراع في المجتمع هو صراع على الوجود يحكمه “قانون البقاء للأصلح”، وبانه يجب على القوي (الأفراد والفئات والطبقات الاجتماعية القوية) أن يزيد من ثروته وثقافته وسلطته، في حين يتوجب على الضعيف (الأفراد والفئات والطبقات الاجتماعية الفقيرة او الضعيفة) أن يقبل بتدني ثروته وتهميش دوره في السلطة والمجتمع والاقتصاد.
– العنصرية الأنجلو- ساكسونية التي كانت قد ضربت جذورها عميقاً في الثقافة الأميركية منذ قيام المستوطنة الأوروبية البيضاء في أميركا الشمالية، والاعتقاد المطلق بفوقية الولايات المتحدة والدونية العرقية للعرب والأكراد والأتراك وغيرهم من الشعوب والقوميات والإثنيات.
على هذ الأرضية تكوّن العقل الأميركي الجمعي لينتج صورة للعربي تقوم على الثنائية التالية:
■ “دونية وتخلف” العربي.
■ تفوق الغرب “المتحضر” متمثلاً باوروبا الغربية والولايات المتحدة وأهليتها في الهيمنة على الشعوب الأخرى ونهب مواردها تحت غطاء “مساعدتها على التقدم والتحضر”.
والجدير بالذكر هنا، وهو أمر مألوف في تاريخ الولايات المتحدة، أن مثل هذه الادعاءات التي كانت تدّعي أو تتخذ شكل صراع الحضارات لم تكن لتمنع الولايات المتحدة، ومنذ سبعينيات القرن التاسع عشر، من السعي وراء مصالحها وإقامة العلاقات الاقتصادية مع بلدان الشرق الأوسط.
خلال العقود الأولى من القرن العشرين، ترسخت النظرة الاستشراقية لدى غالبية الأميركيين بفضل الإرساليات التبشيرية المسيحية، ورحلات رجال الأعمال الهادفة الى تعزيز التبادل التجاري، وبعثات علماء الأنثروبولوجيا والجيولوجيا الذين قصدوا البلدان العربية والإسلامية للتنقيب واكتشاف المعالم الأثرية، ناهيك عن التأثيرات الإعلامية والسينمائية ودخول أفلام هوليوود الى البيت والثقافة الأميركيين. أسهمت كل هذه العوامل في اختراق الاستشراق الأميركي للثقافة الشعبية وخصوصاً من خلال الأفلام والكتب والمجلات التي اكتسبت شهرة واقبالاً واسعين في المجتمع الأميركي.
تطورت الحالة الثقافية في السنوات اللاحقة لتأخذ تجليات واضحة ومحددة تجاه شعوب العالم بشكل عام وشعوبنا وشعوب العالم الثالث على وجه الخصوص، من خلال تعبيراتٍ متعددة في الفيلم والتلفزيون والإعلام والرواية والكرتون السياسي والجرائد والمجلات الشعبية. وقد تركت هذه التطورات والعوامل الثقافية تأثيراً كبيراً على الشارع والرأي العام الأميركي وصنع القرار السياسي وفق المواقف العنصرية والتراتبية العِرقية في التعامل مع شعوب العالم الثالث.
بناءً على ما تقدم، فان سؤال الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش: لماذا يكرهوننا؟ ثم رده: لأنهم يكرهون حرياتنا – حرية الدين والتعبير وحرية الانتخاب والتجمع وحرية أن نختلف فيما بيننا، هذا السؤال وما شابهه من التصريحات التي تبدو وكأنها أتت في أعقاب وبسبب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، تعود في جذورها الى الماضي البعيد كما سنرى لاحقاً.
تعبيرات ونماذج
شاعت الأوصاف العنصرية والمهينة للعرب في المجتمع الأميركي كما أسلفت من خلال الصحف والمجلات والكتب والروايات ولاحقاً في أفلام هوليوود والتفزيون. وفيما يلي بعض النماذج:
■ يرى الكثيرون من المحللين والمؤرخين، أن مارك توين كان من بين أول من “فسّروا” علاقة الولايات المتحدة ببلدان الشرق الأوسط. وكانت أعماله[vi] من أبرز الكتابات التي تركت آثاراً عميقة ومستديمة على العقل الأميركي في توصيف شعوبنا وبلادنا من خلال كتاباته التي دوّن فيها انطباعاته خلال رحلاته. فقد زوّدت كتاباته هذه الذهينة الأميركية بمخزونٍ من الصور والانطباعات والمفاهيم عن العرب والمسلمين والمنطقة العربية بأسرها، تلك المنطقة التي أسست للحضارة الإنسانية بآلاف السنين قبل ولادة الولايات المتحدة.
■ كذلك لعبت مجلة National Geographic دوراً كبيراً وسلبياً في رسم صورة العربي من خلال المقالات اتي نشرتها عن بلادنا وأوضاعها آنذاك في ظل الاحتلال العثماني.[vii]
■ شاعت في الأدبيات الأميركية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أوصاف ونعوت لشعوب المنطقة، منها على سبيل المثال:
– أن الأتراك برابرة وعائق أمام الحضارة؛
– والعرب أغبياء، أنانيون، وعنيفون بيولوجياُ وكاذبون ولصوص، وذوو ميول دينية تعصبية وتطرف ديني.
– ولم يفلت الأكراد والأرمن من مثل هذه الأوصاف، فقد وُصف الأرمن بانهم ذليلون وجهلة ومتعصبون وماكرون ومرتزقة.
وحيث أن قلةً من الأميركيين سافرت الى تلك البلدان، وحيث أنه لم يكن لديهم آية تجربة شخصية وحسية، فقد تعذر على الأغلبية منهم أن تقاولم مثل هذه التعميمات.
■ “لم يدون التاريخ مثالاً واحداً لحكومة دستورية ناجحة في بلد يكون فيه الإسلام دين الدولة” (السفير الأميركي في إيران بعد انتفاضة 1906 – 1907).
■ اعترف الرئيس الأميركي روزفلت عام 1907 (والذي دامت فترة رئاسته من عام 1901 الى 1909) بأنه “من المستحيل توقع حالة من الرفاه الأخلاقي والثقافي والمادي حيث يحكم الدين المحمدي”. كما قال “المصريون، على سبيل المثال، كانوا شعباً من الفلاحين المسلمين الذين لم يمارسوا يوماً أي شكل من أشكال الحكم الذاتي.” وأسهب في مديح القائد العسكري البريطاني كرومر الملقب ب” جنرال مصر”، وأشاد بتعامله مع مصر والمصريين “وفق ما تحتاجه مصر”: “الاحتلال العسكري والوصاية الأجنبية والصبر المسيحي” حسب قوله.[viii]
■ الاستشراق وتوظيف الدين: لم يكن بوش الابن أول من وظّف الدين في صرخته حول “الحرب الصليبية” إثر تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، بل كانت الأدبيات الأميركية قد سبقته بعقود عديدة حين وصفت الانتفاضة اليونانية ضد الإمبراطورية العثمانية عام 1821 بانها “حرب الهلال ضد الصليب”. وربما يشكّل هذا مثالاً مبكراً على استخدام الدين والادعاءات الدينية في تعزيز الاستشراق، وتوظيفها من أجل تعميق الهوة بين الشرق والغرب وإقامة الحواجر الفاصلة بينهما: وصف الصراع بين الشرق والغرب على أنه “حملة صليبية” تخوضها “الحضارة المسيحية البطلة” ضد “الحضارة الاسلامية القمعية والاستبدادية”.
■ هوليوود والاستشراق: لعب الفيلم الأميركي وصناعة هوليوود دوراً كبيراً في تعميق الاستشراق الأميركي وهو ما توافق مع صورة وفكرة الشرق الأوسط في الذهنية الأميركية قبل ذلك بقرنين من الزمن. ولعل أهمية الفيلم تكمن في قدرته على التأثير أكثر من غيره من وسائل الدعاية على الثقافة الشعبية والرأي العام وذلك لأنه يستخدم الوسائل المرئية في عرض وتقديم السلع التجارية.
الاستشراق والجماليات الشرقية
أخذ الاستشراق الأميركي يلعب دوره في إبتكار الإغراءات المرئية الخادعة – والتي كانت من أولى الوسائل التي استخدمت في الاعلان والدعاية – من خلال عرض الجماليات الشرقية، العربية والاسلامية على وجه الخصوص. كما أخذت الجماليات والتحف والرسوم والرموز الشرقية تلعب دوراً هاماً في عرض السلع وتعليبها للمستهلك واحتلت مكانها في ذهنه وفي الصورة التي كوّنها عن الشرق الذي كان الأكاديميون والأنثربولوجيون حتى زمن غير بعيد ينظرون اليه نظرة استخاف واحتقار. خلاصة القول، أن الاستشراق الاميركي في العهد الفيكتوري لم يعد يتعامل مع المستهلك بالوسائل والآليات الثقافية فحسب، بل وعن طريق إثارة وتغذية الرغبات الحسية والمرئية للمستهلك. هكذا أضحى الاهتمام بالشرق وجمالياته جزءً لا يتجزأ من الثقافة المادية والاستهلاكية الأميركية خلال تلك الفترة من النمو الاقتصادي المتصاعد.
كان من الطبيعي في هذه الحالة أن تحتل المرأة الأميركية موقعاً خاصاً في هذه السياسة الإعلانية والدعائية التي استخدمت في المتاجر والكاتالوجات التجارية، حيث كانت المرأة وما زالت من المنظور الرأسمالي، المستهدفة الرئيسية للاستهلاكية الأميركية. وجدير بالذكر هنا أن استخدام الجماليات الشرقية قد انتشر آنذاك انتشاراً واسعاً ما بعث الارتياح في نفسية المستهلك وأسهم في انتقاله الى تقبل واستدخال المعايير الاستهلاكية الجديدة. وفي غياب قدرته بل ورغبته في السفر لزيارة الشرق الأوسط، عوّض الأميركي عن ذلك بالكاتالوج التجاري الذي راج استخدامه آنذاك. على سبيل المثال، راجت صناعة السجائر وابتدعت الشركات المنتجة لها أسماء اكتسبت نكهة خاصة ومميزة لدى المدخنين، رجالاً ونساءً، مثل سجائر مكة والمدينة وعمر وفاطمة، وأشهرها بالطبع سجائر الجمل Camel التي ما زالت رائجة في الولايات المتحدة حتى يومنا هذا.
الصهيونية والاستشراق في أميركا
كيف أفلت اليهودي من الاستشراق؟
حتى مطلع القرن العشرين كانت معاداة السامية ومعاداة العرب والمسلمين أمراً مألوفاً بل وسائداً بين الأميركيين. إلاّ أن اليهودي نجح في الإفلات من هذا التمييز العنصري بفضل عوامل سياسية وتاريخية عديدة أخذت بالنضوج والاكتمال في العقود الأولى من ذلك القرن.
أ) المشروع الصهيوني ووعد بلفور
بدأت مسيرة تخلص اليهودي من معاداة السامية في الولايات المتحدة ونجاته من قبضة الاستشراق مع المقدمات التاريخية لصدور وعد بلفور.
وتبدأ الحكاية بتعيين لويس براندايس Louis Dembitz Brandeis قاضياً في المحكمة العليا في الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأميركي وودرو ويلسن (دامت رئاسته بين عامي 1913 و1921)، وكان براندايس اليهودي الأميركي الأول الذي احتل هذا المنصب وحظي بثقة البيت الأبيض. وقبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى في ابريل 1917، كان براندايس يقوم باطلاع البيت الأبيض على الأهداف الصهيونية في فلسطين. في تلك الآونة، كان الزعيم الصهيوني حاييم فايتسمان منهمكاً في اقناع وزير الخارجية البريطانية آرثر بلفور بتبني فكرة إنشاء “الدولة اليهودية” في فلسطين حيث كانت الجيوش البريطانية في تلك الأثناء تستعد للزحف على فلسطين (خريف 1917) بعد سقوط الدولة العثمانية.
■ عقب صدور وعد بلفور، بعث الرئيس الأميركي وودرو ويلسن رسالة تأييد لهذه الخطوة البريطانية، ثم كرر تأييده لإقامة “وطن قومي” لليهود في فلسطين في رسالة الى الحاخام والزعيم الصهيوني ستيفان وايز (1874 -1949) في اغسطس 1918، والذي كان على صلة وثيقة ببراندايس وغيره من المقربين من البيت الأبيض.
■ في صيف 1919، أوفد الرئيس ويلسن لجنة تحقيق الى الشرق الأوسط لتقصي الحقائق والأوضاع هناك. وبعد عودته قدم رئيس هذه اللجنة تقريراً جاء فيه “بدون زيارة الشرق الأوسط يستحيل على الأميركي أن يدرك مقدار الاحترام والثقة والود الذي يحظى به بلدنا في تلك المنطقة”. ثم أردف قائلا:”بفضل المكانة المرموقة التي نحظى بها بسبب تعاملنا النزيه… والتأثير التبشيري والتعليمي غير المنحاز الذي قمنا به على مدى قرن من الزمن… فان هذا الاعتقاد يسود على حدٍ سواء بين المسيحيين والمسلمين، وبين اليهود والأغيار، وحتى بين الأمير والفلاح في الشرق الأوسط”. ولكن للأسف، يتابع تقرير اللجنة، فان شعوب الشرق الأوسط تفتقر الى مثل هذه الثقة بين بعضها بعضاً. ثم يخلص الى القول” إذا ما قررت الولايات المتحدة أن تنخرط أكثر في الشرق الأوسط، فان صناع القرار لن يواجهوا النزاعات المألوفة بين تلك الشعوب التي يجمع بينها التراث اليهو- مسيحي فحسب، بل ومواقف التركي “المتعطش للدماء والمتخلف والكسول والشغوف بالملذات”، اضافة الى “عدم احترام القانون الذي يتسم به العرب والأكراد”.[ix]
■ يرى بعض المؤرخين أن الرئيس فرانكلين روزفلت كان يضمر مشاعر تنميطية لليهود الأميركيين، إلا أنه على الرغم من ذلك، كان معارضاً لموجة العداء للسامية التي تعرض لها اليهود في تركيا وروسيا وكان مدافعاً صلباً عن تأسيس دولة لليهود في فلسطين، “دولة صهيونية حول القدس” كما أسماها في تصريح له في يوليو 1918، كما أنه أعلن في حملته الانتخابية الثالثة للرئاسة الأميركية (تولى الادارة الأميركية من عام 1933 الى 1945) بانه اذا ما تم انتخابه رئيساً للولايات المتحدة فإنه سوف يساعد على تحقيق وعد بلفور.
ب) النازية
كان لإعلان هتلر موقفه من اليهود وغيرهم من الإثنيات والأعراق الفضل في إزالة آية شكوكٍ لدى أغلبية الأميركيين حول ضرورة إنشاء “الوطن القومي” لليهود في فلسطين. ثم جاءت المحرقة اليهودية على أيدي النازية والتي كان لها تأثيراً كبيراً على تخفيف مشاعر العداء للسامية نحو اليهود الأميركيين، واستدرار العطف عليهم. تمّ ذلك، بالطبع، قبل قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948 وتحقيق “حلمهم بإقامة دولة لليهود” في الشرق الأوسط.
ج) تغربن اليهود
كان من نتيجة هذه التطورات أن تمكن يهود أميركا من التغربن westernization وتهيئة الأرضية لقبولهم في المجتمع الأميركي، إذ تخلى معظم الأميركيين عما تبقى لديهم من معاداة السامية وباتوا يتقبلون “أبناء اسحق” (اليهود) الذين حققوا قدراً كبيراً من التغربن واغتسلوا مما كان يلحق بهم من تراث شرقي وفق رؤية الأميركي الأبيض لهم سابقاً، خاصة وأن الكيان الصهيوني شكّل قاعدة للمصالح الإمبريالية واحتل موقعاً رئيسياً في الإستراتيجية الأميركية. أما “أبناء إسماعيل” فقد ظلوا يمثلون التخلف والانحطاط.
كيف أصبحت المقاومة العربية إرهاباً؟
مقابل تغربن اليهودي وخروجه من إطار الاستشراق، تمت شيطنة العرب والمسلمين وأخذ الأميركيون ينظرون إليهم ك”إرهابيين معادين للغرب”. وعبر عقود كفاح عرب فلسطين في الدفاع عن وطنهم ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني في فلسطين والهجرة اليهودية اليها، أصبحت هذه المقاومة العربية عملاً “إرهابياً” وزرعت صورة “العربي الإرهابي” في الذهنية الأميركية.
تنامت هذه المواقف والانطباعات المعادية للعرب والمسلمين، خلال العقود التي تلت قيام الكيان الصهيوني وتطورات الصراع العربي الصهيوني، وصولاً الى تأصل فكرة أن “الإسرائيليين معتدلون”، أما العرب فهم “راديكاليون عديمو الرحمة”. ومع تعاظم مصالح وأرباح الشركات الأميركية الكبرى والنهب ألإمبريالي الأميركي لمواردنا وتماهيها مع مصالح الكيان الصهيوني، أضحى الرمز الرئيس لكل عربيٍ، بل لكل ما هو عربيٌ أو شرق أوسطي مختزلاً في كلمة واحدة هي: النفط.
الاستشراق يدخل البيت الأبيض
عاملان رئيسيان شكّلا الأرضية للسياسات الإمبريالية الأميركية حيال بلادنا في تبرير نهبها لثروات شعوبنا واستغلالها من أجل الربح الرأسمالي وخدمة مصالحها. وتقوم هذه الأرضية على خلفية أن هذه الشعوب “بدائية سياسياً، ومشبوهة اقتصادياً، وعبثية إيديولوجياً”. أمّا هذان العاملان فهما:
1) تأثير العوامل العِرقية والثقافية التنميطية المستوردة من أوروبا الغربية (البريطانية والفرنسية) قبل الأميركية والتي تقول بان العالم الإسلامي متخلف ومنحط ودوني؛
2) العوامل العِرقية والثقافية التي تشكّلت ولُفقت محلياً في المجتمع والثقافة الأميركيين.
في مثل هذه البيئة السياسية والثقافية، يمكننا القول أن العقل الاستشراقي والإمبريالي البريطاني دخل السياسة والمجتمع في أميركا وشقّ طريقه الى البيت الأبيض والبنتاغون في أواخر أربعينيات القرن الماضي. أمّا النظرة الاستشراقية للعالم فقد تنامت وأضحت مألوفة في الحياة العامة والبيت والأسرة الأميركيين كما في الفيلم والثقافة الشعبية في خمسينيات ذلك القرن. وهكذا، دخلت الولايات المتحدة (على المستويين الرسمي والشعبي) ما يسمونه “الشرق الأوسط” بعد الحرب العالمية الثانية وأصبحت السياسية الأميركية حيال ذلك الجزء من العالم واضحة المعالم يسهل التنبؤ بها واستشرافها. وهكذا أيضاً ظلّت صناعة القرار السياسي الأميركي منذ إدارة هاري ترومان الى يومنا هذا معادية لتطلعات الشعوب العربية في الحرية والتحكم بثرواتها من أجل تنميتها وتقدمها وتحقيق العدالة الاجتماعية.
خاتمة واستنتاجات
قد أكون في هذه الدراسة قد طرقت باباً مغايراً للخطاب السائد في حياتنا السياسية اليوم: خطاب التحليل السياسي والتقرير الإخباري. فما توخيته هو تسليط بعض الضوء على العوامل والجذور الثقافية والعنصرية في الاستشراق الأميركي والتي هي في الجوهر ذات الأبعاد التي تقوم عليها المركزانية الأوروبية (الغربية) ومشروع الغرب الرأسمالي في الهيمنة على العالم. وهذه الدراسة محاولة متواضعة في فهم الدور الذي لعبته هذه العوامل، وما زالت، في صياغة الرأي العام والثقافة الشعبية في أميركا.
هذه العوامل الثقافية والعنصرية وإن بدت بعيدة عن السياسة، إلاً أنها تقع في صميم صناعة القرار السياسي في الولايات المتحدة وتقف وراء صياغة الآراء والمواقف السياسية (الرسمية والشعبية) في الولايات المتحدة، كما يتم توظيفها دوماً في خدمة المصالح الطبقية/الاقتصادية والسياسية للرأسمالية الأميركية والشركات الكبرى.
تفضي بنا هذه القراءة الى السؤال/الإشكالية التالي:
أين نحن من هذا؟ وما هو خطابنا حيال خطابهم؟
في مواجهة الأزمات والتحديات المتلاحقة في بلادنا، لا يختلف إثنان على أهمية وضرورة التحليل السياسي للأحداث الساخنة والمتسارعة في بلادنا. ومن هنا قد يصبح من المفهوم أن يسود الخطاب الإخباري التقريري والسياسي، ولكن هذا لا يغني عن الفكر والمعرفة في حياتنا السياسية والاجتماعية، ولا يبرر الجهل بالعدو ومخططاته. وهنا نقف أمام مسألتين:
الأولى، أن خطاب التحليل السياسي لا يصل بنا بالضرورة الى فهم طبيعة العدو الرأسمالي – الإمبريالي؛
والثانية، أن هذا الخطاب وحده دون الفكر والإنتاج الفكري يظل عاجزاً عن المساهمة في تكوين وعي نقدي وجذري قادر على التصدي لهذا العدو وتحديد وسائل مقاومته. وهذا الوعي هو الأساس في النضال الشعبي الذي يؤهل الجماهير لتصبح حاملة للثورة والتغيير، أي أنه الخطوة الأولى نحو تشكيل آليات هذا النضال (آليات شعبية وسياسية واجتماعية وحزبية وتنظيمية وغيرها).
فإذا لم يكن هذا الخطاب، خطاب التحليل السيسي والتقرير الإخباري، وحده قادراً على مواجهات مهام وتحديات المرحلة، وإذا كان عاجزاً عن بناء الوعي النقدي والثوري، فالسؤال يكون، إذن، مَنْ هو المسؤول عن تكوين هذا الوعي؟ وكيف لنا أن نخلق وعياً جديداً إذا لم نقدم الفكر والمعرفة والنهج الذي ينير التحليل السياسي ويرشده؟ وهو سؤال لم تستطع حركات التغيير في تاريخ الشعوب أن تتنصل منه. غير أنه سؤال، في الآن ذاته، يفترض التمييز بين الخطاب والفكر، والإقرار بأن إنتاج الخطاب لا يعني إنتاج الفكر وأن الأول لا يعوض عن الثاني ولا يحل مكانه، وهو ما نراه بوضوح في شلل الإنتاج الفكري خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الحراك الشعبي العربي.
أليست مهمة المثقف أن يساهم في بناء الوعي الشعبي؟ أليست هذه أيضاً وظيفة الإعلام الملتزم والحزب السياسي والتنظيم الاجتماعي (التربية الحزبية والتثقيف السياسي والاجتماعي)؟
وفيما نحن نَغطُ في سباتنا العميق، يسير الغرب الرأسمالي قُدُماً في مخططاته الجديدة القديمة ويعمل بدون كلل على تنفيذها، بل ان جهلنا بهذا العدو وعدم اكتراثنا بفهمه ودراسة طبيعته ونظرته الاستشراقية الهيمنية تجاه شعوبنا، هذا الجهل لا يزيده إلاّ اصراراً على مواقفه، ويعزز مشروعه في الهيمنة ويدفع به الى المزيد من الاستخفاف بنا والامعان في معاداة مصالحنا وقضايانا.
أمام هذا كله، ألم تحن في زمننا العربي لحظة للفهم ووقفة للفكر والمعرفة والوعي؟
هوامش:
[i] انظر مسعد عربيد: “أميركا الأخرى: أميركا في عيون مُغتَرِبٍ عربي” الفصل الثامن: الجذور الطبقية للعبودية والعنصرية في أميركا ص 131 – 138، والفصل التاسع: تكوين الذهنية العنصرية في أميركا ص 139 – 145، دار فضاءات للنشر والتوزيع- عمّان، الاردن، 2013
[ii] استخدمت مفردة “الشرق الأوسط” مجازاً والصحيح هواستخدام مفردة “الوطن العربي” والمنطقة المحيطة به. إلا أنني استخدمت “الشرق الأوسط” تماشياً مع اللغة السائدة في الخطاب الغربي وبين الكثيرين من العرب، ولتبسيط النقاش دون الدخول في نقاشات جانبية تحيد بنا عن موضوعنا الأساسي.
[iii] للمزيد راجع
Naomi Rosenblatt, Orientalism in American Popular Culture, Penn History Review, Vol. 16, Issue 2, University of Pennsylvania, 2009.
[iv] حروب قامت بين الولايات المتحدة وطرابلس الغرب في بداية القرن التاسع عشر بسبب رفض الأولى دفع الضريبة لحكام دول شمال أفريقيا (الجزائر، تونس، المغرب، وطرابلس)، وهي ضريبة كانت تدفعها الدول الأوروبية والولايات المتحدة مقابل حماية سفنها التجارية من الهجمات التي كانت تتعرض لها في حوض البحر الأبيض المتوسط.
[v] الداروينية الاجتماعية Social Darwinism هي مجموعة من النظريات القائلة بأن الأشخاص والجماعات والأجناس تخضع لنفس قوانين الانتقاء الطبيعي التي رآها تشارلز داروين في النباتات والحيوانات والطبيعة بشكلٍ عام، ويسعى أصحابها إلى تطبيق المفاهيم البيولوجية في الانتقاء الطبيعي والبقاء للأصلح على علوم الاجتماع والسياسة. وقد ظهرت الداروينية الاجتماعية في انكلترا والولايات المتحدة في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، عقب ظهور الداروينية البيولوجية، ولاقت رواجاً في العقود اللاحقة. ويسعى أصحاب هذه النظريات إلى تطبيق المفاهيم البيولوجية في الانتقاء الطبيعي والبقاء للأصلح على علوم الاجتماع والسياسة.
[vi] نخص بالذكر هنا كتابه بعنوان The Innocent Abroad والذي صدر عام 1869 وبُيع منه مائتا ألف نسخة خلال عامين من صدوره. ويدون توين، الذي عُرف بعنصريته وامتلاكه للعبيد السود، في كتابه هذا انطباعاته عن رحلتة الى الأراضي المقدسة.
[vii] Douglas Little, American Orientalism: The United States and the Middle East since 1945, University of North Carolina Press. 2002, pp. 18-19.
[viii] Ibid., p. 15.
[ix] Ibid., p. 17.
____________
تابعوا مجلة “كنعان” الفصلية على الرابط التالي: