الانتفاضة الكبرى ..وأوسلو! – رشاد أبوشاور
أُبعدت قوات الثورة الفلسطينية عن حدود فلسطين، وعزلت في بلاد عربية بعيدة، وباتت الثورة الفلسطينية ( غريبة) وعاجزة عن الفعل المباشر، فأدرك الشعب الفلسطيني أن مرحلة تصفية القضية الفلسطينية قد أخذت منحى أخطر منه في أي وقت مضى.
وقعت حادثة (دهس) سيارة تنقل عمالاً فلسطينيين من مخيم جباليا أودت باستشهادهم، فانفجر غليان الشعب الفلسطيني في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر عام 1987 وامتدت ( الانتفاضة) حتى شملت كل فلسطين، بما في ذلك أهلنا في عمق فلسطين المحتلة منذ عام النكبة 1948.
في الانتفاضة تجلّت روح شعبنا الثورية، وتضامنه الاجتماعي، ودأبه في الميادين، وتنظيمه لنفسه، فأبهر العالم بشجاعته وإبداعه، ودخلت كلمة ( انتفاضة) إلى لغات كثيرة في العالم، وانحشر الاحتلال بشراسة وقسوة ولؤم ممارساته أمام العالم الذي رأى مشاهد تكسير العظام بأوامر من رابين وقادة جيش الاحتلال والكيان الصهيوني بسياسييه ورجال الدين العنصريين لديه.
بعد شن الحرب على العراق وإخراج قواته التي كانت تحتل الكويت، وجدت الإدارة الأمريكية الفرصة مؤاتية لتصفية القضية الفلسطينية فدعت إلى مؤتمر مدريد، وتم إدخال( الفلسطينيين) ضمن الوفد الأردني…
امتدت المفاوضات، وانتقلت إلى واشنطن، وكان الوفد الفلسطيني برئاسة الشخصية الوطنية الدكتور حيدر عبد الشافي وعضوية: فيصل الحسيني، وحنان عشرواي.
وفد الدكتور عبد الشافي تمترس أمام مطالب محددة لا محيد عنها: الاعتراف بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة، ومطالب أُخرى تمثّل الحد الأدني المقبول فلسطينيا.
وكما ورد في مذكرات من أدارا مفاوضات أوسلو: أبومازن، وأبو علاء قريع، فقد حدث استعصاء في واشنطن، وما عاد من الممكن التوصل إلى حل..فكانت ( قناة) أوسلو.
هنا أتوقف للتأكيد على ما يلي: لقد خشيت القيادة الفلسطينية المقيمة في تونس من توصل الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن إلى حل يبقيها في ( الخارج)، سواء بدولة فلسطينية، أو بما هو اقل من الدولة: حكم ذاتي…
( خوف) القيادة على مستقبلها ومصيرها، و( تخويفها) من قبل الأمريكان وأدواتهم، ومن بعض قادة الكيان الصهاينة يتقدمه شمعون بيرس..دفعهم إلى قناة أوسلو من وراء ظهر الدكتور عبد الشافي والوفد المفاوض معه.
لقد بدأت المقايضة على الانتفاضة التي خسّرت الكيان الصهيوني سياسيا، ودبلوماسيا، وإعلاميا، وأرهقته عسكريا، وفضحته أخلاقيا…
وفي عتمة أوسلو، ومن رواء ظهر الشعب الفلسطيني، تم إبرام اتفاقيات أوسلو..وحتى لا أطيل فإنني أُذكّر الشعب الفلسطيني بما يلي: اعترف من ( يمثلون) منظمة التحرير الفلسطينية بدولة العدو الصهيوني مقابل الاعتراف بأن منظمة التحرير الفلسطينية تمثل الشعب الفلسطيني!!
( ما حدود دولة الكيان الصهيوني التي اعترفوا بها؟!)
تم تأجيل كل شيء للتفاوض عليه فيما بعد: الدولة – بعد خمسة أعوام_ القدس، حق العودة، ومن شدّة لهفة المفاوضين في أوسلو لم يتوقفوا عند الاستيطان..ومنحوا قوات الاحتلال الحق في مطاردة ( الإرهابيين) داخل مناطق السلطة في مناطق أ التي سُلّمت للسلطة ..وطبعا: تم الاتفاق على التنسيق الأمني.
أُنهيت الانتفاضة بتوقيع جماعة أوسلو على الاتفاقيات في حديقة البيت الأبيض بتاريخ 13 أيلول1993…
وبدأت مرحلة التيه الجديدة والركض وراء الأوهام.
لقد راهن من أخذوا شعبنا إلى متاهات أوسلو وسراب وعوده على دور محايد للإدارة الأمريكية انطلاقا من فرضية ساذجة بائسة: أمريكا لها مصلحة في حل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع في ( الشرق الأوسط)!!
وهكذا باتت الإدارات الأمريكية المتعاقبة هي المرجعية وفي يديها الحل، وعليها يبنى الأمل في الضغط على قادة الكيان الصهيوني بناءً على تحليلات ساذجة بائسة!
( بما في ذلك بوش الإبن الذي اتفق مع شارون على قتل الرئيس عرفات)
وهكذا تبوأ توني بلير رئيس وزارء بريطانيا..بريطانيا وعد بلفور..رئاسة الرباعية الدولية التي تضم: الأمم المتحدة، روسيا، أمريكا، الاتحاد الأوربي..يعني كوفئ بلير المتصهين بوظيفة رفيعة تدّر عليه دخلاً عاليا، وتمكنه من مواصلة أساليب أسلافه الإنقليز في تصفية القضية الفلسطينية، وتهويد فلسطين!!
هنا لا بدّ من التساؤل:
أما كان قادة أوسلو يعرفون جوهر العلاقة بين أمريكا والكيان الصهيوني؟!
لقد ضللوا أنفسهم ..وخدروا وعي شعبنا بالأوهام..والتي تكشّفت بسرعة مع بدء (تنصيب) السلطة في رام الله، والتي كانت بلا سلطة، وتحت سمعها وبصرها واصل الاحتلال نهب أرض الضفة الفلسطينية، وتهويد القدس من داخلها وحولها، بحيث لم تعد هناك أرض تكفي لنشوء محافظة خالية من الاستيطان الصهيوني، وبينها تواصل مع بلداتها المحيطة بها.
من حوالي مائة ألف مستوطن بات عدد المستوطنين في الضفة والقدس أكثر من سبعمائة ألف..بعد نشوء السلطة!
لهذا انفجر شعبنا في انتفاضة الأقصى عندما اقتحمه شارون بتاريخ 28 أيلول 2000، وامتدت الانتفاضة عدّة أعوام، وبدلاً من أن تتوج بالتغيير وإعادة النظر بمسيرة أوسلو..ضُيّعت، وألحقت بشقيقتها المغدورة: الانتفاضة الكبرى.
ترامب ليس وحده!
اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني لا يمثله شخصيا، فالانحياز الأمريكي للكيان الصهيوني سابق على ترؤس ترامب لأمريكا، فعلى سبيل المثال قرر الكونغرس الأمريكي عام 1995 نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بما يعني الاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني.
من يريد التوسع في قراءة الدور الأمريكي في تأسيس الكيان الصهيوني ما عليه سوى العودة إلى بعض الكتب الكثيرة التي صدرت عنه، والتي بعضها بالعربية، ومتوفرة في المكتبات.
لقد أضاعت القيادة الفلسطينية 24 عاما وهي تراهن على سراب الإنصاف الأمريكي، وهذا ما يبرهن على جهلها بطبيعة العلاقة العضوية بين أمريكا والكيان الصهيوني.
القيادة الفلسطينية تستيقظ متأخرة، بعد أن نهب الاحتلال الأرض الفلسطينية في الضفة، وهو يتوسع يوميا في عملية سباق مع الزمن بحيث يحوّل الفلسطينيين إلى سُكّان في معازل من السهل خنقهم وطردهم منها بشتّى الأساليب والممارسات!
قد يقول بعضهم: ترامب مأزوم داخليا، ولذا قرر يوم 6 ديسمبر 2017 الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ، كي يكسب اللوبي اليهودي الصهيوني، ويستند عليه في البقاء رئيسا..وهذا خطأ فادح، فرغم ما هو شخصي في قراره، فإن الانحياز الأمريكي، وتآمره على قضية فلسطين
وشعب فلسطين..هو السبب الرئيس لهذا الانحياز السافر.
مساء الاثنين 18 ديسمبر صوتت 14 دولة في اجتماع مجلس الأمن الدولي على رفض قرار ترامب..ووحدها أمريكا رفعت يدها بالفيتو..وحدها ضد العالم، بكل صفاقة، وبدت ممثلة أمريكا وكأنها ممثلة للكيان الصهيوني نفسه..ولا غرابة..ولا عجب، فهما واحد.
في نفس اليوم مساء، انعقد اجتماع للجنة التنفيذية برئاسة رئيس السلطة أبومازن، فقال في بداية الاجتماع حول رأيه بالدور الأمريكي: كنا مغشوشين..مخدوعين..وزاد على ذلك: هي شريكة في وعد بلفور!
اكتشاف متأخر، ولكن بعض الأسئلة التي يجب أن يطرحها شعبنا على قادة أوسلو: إذا كنتم مغشوشين..ومخدوعين..فقد أوصلتمونا..وقضيتنا إلى ما وصلناه، ودفعتمونا خسائر فادحة، وأضعتم علينا 24 عاما من السير في التيه..فمن يتحمل المسئولية؟ ومن سيدفع الثمن؟وما الذي يضمن أن لا تخدعوا من جديد؟ ألم ترتفع أصوات فلسطينية تحذركم من مسار أوسلو، والركون إلى وعود أمريكا الخلبيّة؟ هل يجوز أن تتبوأوا القيادة في كل المراحل؟ هل ستستخدمون الانتفاضة الثالثة للمقايضة من جديد؟ من يضمن لنا أن لا نتوّه عقودا جديدة من التيه؟!
آن لشعبنا أن يفتح عيونه، وعقله، ويطرح الأسئلة، ولا يسلّم عنقه ومصيره من جديد..دون تحديد وجهته، وأهدافه، ويحدد من هم أصدقاؤه ومن هم أعداؤه..ولا بد له من أن يحاسب من يقوده، فالشعوب لا يمكن أن تنتصر بالتجريب…