الانهيار الكارثي.. ماذا تبقَّى من العالم العربي؟ – ريتا فرج
تماثل الانزياحات الكبرى التي يمر بها العالم العربي على مدار أربع سنوات، التحولات التي شهدها إبان تفكك الدولة العثمانية والمتغيرات الإقليمية المترتبة على الحرب العالمية الأولى. غير أن مستوى الانهيار والتضعضع الراهن وما رافقه من تبدلات في الخريطة الجغرافية، يتجاوز النظام الإقليمي القديم. حين هُزمت السلطنة العثمانية أصبح العرب على أرض بلا دولة، إلى أن أتاهم الاستعمار الغربي الذي أسس لما يُعرف في الأدبيات التاريخية والسياسية بــ «سايكس ـ بيكو»، فزاد من وطأة التشرذم ومن جغرافيا الأزمات. وما إن تحررت شعوب المنطقة حتى طغت عليها أنظمة الاستبداد العسكري والديني، فكبحت تطور الدولة وفق المفهوم الحديث، وأقصت الجمهور عن القرار السياسي، وفاقمت من الولاءات الدينية والطائفية والإثنية بفعل السياسات الطغيانية وسلطة الحاكم الواحد.
كشف الاحتلال الأميركي للعراق عن مؤشرين: التصاعد المحموم للمذهبية والصراع السني ـ الشيعي، وبداية انهيار النظام الإقليمي. تبدو حروبنا الراهنة أكثر دموية وأعمق تأثيراً برغم التداعيات الخطرة للمشهد العراقي منذ العام 2003. تختفي الكيانات السياسية مع ما يرافقها من تدمير ممنهج للحضارة العربية. فمن يعوض الخسائر الحضارية؟ ومن يعالج وجع الذاكرات الجمعية المتشنجة إذا افترضنا دحر فرق الموت الداعشية وأخواتها؟ إنها حرب الاستئصال في الإقليم، تخطها المذاهب وأذرعتها العسكرية في بازار الدين والعولمة. ثمة تقاطع مفصلي بين الجهاديين/ التكفيريين والعولمة. كلاهما يعملان على اكتساح الأوطان وإلغاء الحدود وتذويب الهويات الوطنية الجامعة وكسر إرادة الدولة، ويفترقان عند مفصل أساسي: الأول يرتكز على السوق: سوق الأفكار والسلع والخصخصة وهدر كرامة الإنسان وتسليعه. والثاني ــ جهاديو الموت ـ يتاجرون بالدين على قاعدة أوهام الخلافة الإسلامية، فضاع الإسلام وضاع المسلمون.
يتحدث المحللون عن ولادة نظام إقليمي جديد على أنقاض القديم. يرى الأكاديمي والباحث المصري بشير موسى نافع «أن إخفاق الدولة سار جنباً إلى جنب مع إخفاق النظام الإقليمي» وأن الإقليم المشرقي يتحول «إلى مسرح للاعبين من غير الدول (non – state actors) مثل: «داعش» وقوى الثورة السورية الأخرى، ومثل الحوثيين والبشمركة، مسرح لم يعد فيه لحدود الدول وادعاء سيادتها على أرضها وشعبها من معنى كبير».
أفضى انفجار ديكتاتوريات القمع السابقة وتمدد ديكتاتوريات «الدين الجهادي المسلح» اللاحقة إلى تصدع كل الهياكل القديمة المكبوتة، فتفجرت بنى ما قبل الدولة: الطوائف والعشائر والمذاهب والهويات الصغرى، لا سيما في العراق وسوريا واليمن. ولكن لماذا حدث كل ذلك وبهذه السرعة القياسية؟
لم تتجاوز الأنظمة العربية أزمة بناء الدولة، عرفت معنى السلطة ولم تعرف معنى الدولة، على حد تعبير خليل أحمد خليل. وفي المقابل، رسخت قواعدها على حساب التداول السلمي للحكم، وحاربت دعوات الإصلاح على المستويات كافة، ورهنت مقدرات البلاد وطاقاتها لتكريس بقائها وعطلت المجتمع واستغلت الدين. لا يمكن بهذا المعنى اغفال البعد الديني للسياسات التي تسلكها كل أنظمة الطغيان العربية، حيث أن الاستبداد السياسي يتبدى في تمثلاته الدينية من خلال التوظيف غير المسبوق للدين في أنماط عدة: تقديس المذهب الرسمي للدولة وشرعنته عبر الدساتير. ما يعني إلغاء أحقية المذاهب الأخرى؛ إرساء دعائم الإسلام الواحد؛ قمع التعددية الإثنية والدينية تحت شعار الأمة/ الجماعة، أي بتر حقوق الأقليات بقوة الدين والسياسة.
في بداية حركات الاحتجاج، طرحت فكرة علم اجتماع سياسي عربي يواكب الحراك الاجتماعي. هلل كثيرون بــ «الثورات الهادرة». مآلات الميادين لم تكن بحجم طموحات الشعوب من دون تحميل «الثورات» مسؤولية ما يجري الآن، إذ إنها تظل في حدها الأدنى «ثورات مطلبية»: عيش، حرية، عدالة اجتماعية. الأهم اليوم هو الدعوة لبناء علم اجتماع عربي يستطيع الإحاطة بحجم «الانهيار الكارثي» الذي نعاصره على خريطة عربية تتصارع فيها وعليها الأضداد. يمكن الحديث ـ إذا جاز التعبير ـ عن «سوسيولوجيا الانهيار» ومن معطياتها: (سقوط الأنظمة، اختفاء الكيانات، تهجير الأقليات، تبدل الديموغرافيا، الفرز المذهبي ـ المناطقي، ضمور حضور الدولة لمصلحة جماعات العنف الديني التكفيري، انسداد الأفق السياسي، تذرير المجتمعات من الداخل تفاقم العنف والمذهبية). لقد أضحى العالم العربي في جغرافيته المفككة ودوله المتصدعة ومجتمعاته المأزومة ومذاهبه وطوائفه المتناحرة وعنفه المتمادي، مختبراً حياً. ليس سهلاً استيعاب ما يجري في العالم العربي على مستوى الخسائر الفادحة. والحديث هنا عن الخسائر الإنسانية والحضارية والتاريخية. يمكن القول وبألم شديد ومن دون اعطاء تبرير أو شرعية للأنظمة المتهالكة: ليخفف الثوريون المسالمون من وهج خطابهم ولينظروا بهدوء إلى فداحة النتائج. لِنُجْرِ جولة سريعة: من يعوض ضياع وتدمير الآثار في العراق وسوريا التي استباحها «الداعشيون» بامتدادهم الإقليمي؟ (الآثار العمرانية جزء من هويتنا وامتداد لتاريخنا؛ يقول المؤرخ أحمد بيضون: «ليست التماثيل أصناماً. التماثيل صُوَرُنا الداخلية وهي، بكثرتها وتنوّعها، وجوهٌ وطبقاتٌ من أنفسنا أو هي احتمالاتٌ حرّة لصُوَرِنا عن أنفسنا»). من يعيد إلى الجماعات الدينية والإثنية المشتركات الثقافية والمجتمعية؛ وإن كانت في حدها الأدنى؟ وهل هذه الجماعات قادرة على استعادة الثقة بالآخر؟ كيف نعالج حال التمذهب القاتل بين السنة والشيعة؟ كيف يمكن ترميم النفوس المتباغضة والمتكارهة وبناء أوطاننا بعد هذا الخراب؟
الحاصل أن الانهيار المدوي لن يوفر أحداً لا الغالبين ولا المغلوبين. يتفكك العالم العربي فوق بحر من الدماء والنار. يتمادى في ظلامه الدامس وسط خطاب الثأر واليأس وعواصف الرايات السود. يتدرج من انحدار إلى انحدار أعظم. وتسد فيه حدود التعايش، لتسيطر عليه ثقافة «عبادة العنف والموت».
“السفير”