التجرؤ على التاريخ – حنان بكير
كتابة التاريخ، ومن يقوم بتدوينه في اللوح المحفوظ، ليس موضوعي هنا. ولكن التجرؤ على التاريخ وتحريفه، أو طمس بعض جوانبه، أو الإضاءة على جوانب معينة. كثر من يجرؤون على التطاول على التاريخ. ولا يقتصر هذا الأمر على المؤرخين وأصحاب النفوذ، بل يتعدّاه الى من هم أقلّ رتبة أو شأنا.
في الذكرى الخمسينية للنكبة، حيث اشتغلت على موضوع الذاكرة الفلسطينية. فتح لي المناضل ورجل الأعمال رفعت النمر، خزّان ذاكرته. حدّثني عن المقاومة، وعن الفترة التي تحررت فيها منطقة مثلث النار: نابلس، جنين، وطولكرم، من القوات الانجليزية والعصابات الصهيونية، لفترة من الزمن، بمساندة مدفعية الجيش العراقي للثوار. لكن دهشتي كانت، عندما علمت أن عبد الكريم قاسم، كان قائد اللواء العراقي! ونحن الذين تربينا، إعلاميا، على كراهيته واعتباره سفاحا ومجرما ويستحق تلك النهاية المفجعة. أعدت السؤال على رفعت النمر عن اسم القائد، لعلّي سمعت خطأ !
طلب مني النمر الاطّلاع على المقابلة، بعد صياغتها وقبل نشرها. حملت اليه المقابلة، وكان عنده المقدم العكاوي المتقاعد حسن ابو رقبة. ثم حضر أحد قادة الصف الثاني لأحد الفصائل الفلسطينية.. الذي طلب قراءة المقابلة. أعجبته. لكنه أشار لي، وكأني عنصر صغير عنده: أشطبي اسم عبد الكريم قاسم! لماذا؟ أليس صحيحا؟ بلى صحيح! لكن أشطبيه! هكذا وبكل فجاجة! نظرت الى النمر، قال: أكتبيه! وهذا ما كنت أنويه.
عندما خرجت من مكتبه، سألت المقدم حسن: لماذا التجنّي والتعتيم على قائد، خدم بلادي! لم علينا أن نغبن هذا القائد حقه وعمله الوطني هذا؟! أجابني: إنه صراع حركة القوميين العرب مع عبد الكريم قاسم!! حتى الآن ما زلت أعيش صدمة هذا النوع من التفكير.. وعلمت أيضا أن أول فيلق للجيش الفلسطيني، قد أنشأه ايضا عبد الكريم قاسم!!
وفي المناسبة ذاتها، تحدثت الى المناضل واصف كمال.
تنبع أهمية شهادته، من كونه أحد أعضاء الوفد الفلسطيني للأمم المتحدة عام 1947، كان الوفد الفلسطيني برئاسة هنري كتن، وعضوية جمال الحسيني، الى جانب واصف كمال..وذلك في الجلسة التي خصصت، لطرح موضوع تقسيم فلسطين، وإجراء الإستفتاء عليه، حيث كان على الوفد الفلسطيني والوفود العربية، حشد الأصوات لمنع تمرير قرار التقسيم. قال لي: اقترحت الاتصال بالوفد الروسي، وفي جلسات التداول، ارتأينا أنه للحيلولة دون حصول القرار على تأييد ثلثي الأعضاء، فإن علينا أن نسعى لكسب تأييد الكتلة الشرقية التي تتزعمها روسيا( الاتحاد السوفييتي) في ذلك الوقت، وكانت مجموعة الشباب في الوفود العربية، مؤيدة لهذا الاتجاه، ولضرورة الاتصال بالوفد الروسي. اشتدت المناقشة حول هذا الموضوع.. وعارض نوري السعيد هذا التوجه وقال لي بعد نقاش طويل ( يا أخي إحنا مش راح نصير شيوعيين علشان فلسطين) لذلك أنا أعارض.
أجبناه أن الأمر لا يدور حول أن نصبح شيوعيين أو لا نصبح. وان هناك مصالح متبادلة بين الدول، وكل يسعى لمصلحته. ونحن نقترح الاتصال بالوفد الروسي، لنعرض عليه، أن الكتلة العربية الممثلة في هيئة الأمم المتحدة على استعداد للتصويت لصالح الأمور التي تهم روسيا، مقابل أن تصوّت الى جانبنا ضد قرار التقسيم”.
فمتى سنتعلم قراءة التاريخ وسيرورته!
التجرؤ على التاريخ/بقلم حنان بكير