التضادُّ في بناءِ معمارِ الرواية! – آمال عوّاد رضوان
استضاف نادي حيفا الثقافي الأديب يحيى يخلف، وأقام له وتحت رعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا أمسية أدبية، تناولت روايته الأخير “راكب الريح”، وذلك بتاريخ 1-9-2016 في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، وسط حضور كبير من الأدباء والأصدقاء والمهتمين بالأدب، وبعد أن رحّب بالضيوف والحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي، تولّى إدارة الأمسية رشدي الماضي، وقد تحدّث حول الرواية كلٌّ من: د. راوية بربارة، ود. نبيه القاسم ود. رياض كامل، ثمّ شكر المحتفى به يحيى يخلف الحضور والمنظمين والمتحدّثين، ومن ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة رشدي الماضي عريف الأمسية: أمس شربتُ نخبَ الليل.. نهَرتُ وحدتي رمادًا في أتون منفضةٍ أيقظتْ سَفرَ الاشتياق.. جلستُ قربَ شمعةٍ أحدّثها عن أسباب فرحي وشتاءِ عُمرِهِ، وعن سِرّ سَمَخ عروس بحيرة طبريا الثاوية في أنحاء روحهِ وروحي، تنظرُ وتنتظرُ ضيفًا إلى حيفا قادمًا، كي نظلّ أنا وهي على أهبةِ حُبّه، حتى يسيلَ الصباحُ نورًا يُحلّقُ في السماء، يتألّه، كي ينزلَ مِن العلياء كرملًا يَعبُرُ نصَّ كرمةٍ، يعدو خلفَ المدى ويجمعُ قرابينَ الآلهة! أرهفوا السمعَ معي، لنسمعَ جرسَ الكنيسةِ يُقرعُ، وصوتَ الآذان يُرفعُ تهاليلَ وتراتيلَ تردّد بأعلى صوتها، أهلا بضيف حيفا ونادي حيفا الثقافيّ، أهلًا بالكاتب يحيى يخلف، لتهدلَ الحمامة وتجرَّ الضوءَ، راكب ريح ابتكرَ الصعودَ على مهلٍ، صعودًا لا يريدُ لحيفا وجهًا بديلا.
خيّا يحيى؛ سلكتَ إليها من ماضي الأيّام الآتية دروبًا مترعة بالحنين. أرِحْ رأسَكَ على صدرها، تَرَ شَعرَها مُلقًى كبحر وأبعاد ليل مبعثر، أرِحهُ لتنسلّ مِن سرّةِ الوقت، تُهدهدُك ألسنة الشبق، وتسافرُ في حيفا كثيرًا دون أن تصل، لأنّك لن ترى فيها أحلى من حديث المنازل، وهمْسِ شجيرةٍ تحت ارتفاف قميص الخمائل. لقد اكملتَ براكب الريح الطريق إلى أعالي شرفات الكلام، أزِح عنك الليلة أحمالَك المُرهِقة، واستجبْ لنداء الحضور، سِر بي على أرض إبداعك الخارجةِ من عُمق تاريخ المأساة وطنًا عاد، كما علّمته ريحُك، عاد يتهجّى أبجديّة المطر، ويسقيني من بئر الذين مرّوا قرب دهشتك، وانتشروا في بيادرَ لك تُبدع معنى الحياة.
أيّها الكبير، لقد تركتَ الرواية تنطق على يديك صوتًا إنسانيًّا رهيفًا يتلمّسُ عذاباتِ شعبك، تعالَ كفكفْ لحيفا قناديلَها الدامعة، وانعفْ ليلَ شَعرها أرجوحةً مِن ضياءٍ تفيضُ بالفردوسِ جهرًا، لتعودَ صُبحًا رفقة حنظلة، وتلمُّه صبحًا تنفّس عائدا. إن رأيتَ الفكرة فوق صهوة حصان، ممزوجة بصمتٍ يُقيمُ في الصمت، قِفْ على صخرةٍ من كلام، وخُذ جرّة الضوءِ ملآنة فوق رأسك. قِفْ، حيفا زمانٌ يَمُرُّ بقربك. تمتمْ ترويدةً لطقوسٍ تشتهي تفّاحَها السكّريّ. اُكتُبْ منهمكًا بالطباشير على زيتونة المساء. أيّها الكنفانيّ، ها أنا هو العائد إلى حيفاك وحيفاي، إلى حيفا التي قد خلقنا فيها من زمان بعيد بعيد، هنيئًا لحيفا وهنيئا لفلسطين بكَ عائدا. أتيتَ وأنتَ تكتوي بمِرجل الأحداث الساخنة، لكنّك رفضتَ أن تظلَّ دموعَكَ مبتدأ الكلام عن حيفا، فصافحتَ مساربَ الرياح الآتية مِن كرملِها، ومنحتَ اسمَ حيفا أكثرَ مِن حياة. تعالَ معًا نُحسُّ بجاذبيّةٍ نحوَ الأعالي، نستنشقُ رغبة فولاذِ الصمودِ قطراتٍ مِن مطر، نُسافرُ بين أحضان راكب ريحك ممحاةً لأثر خطواتٍ، داستْ ترابَنا ودخلتْ دارَنا عنوةً، ليأخذ ما نعانيه شكلَ طيورٍ تُحلّقُ، تنطلقُ وتخترقُ طرُقًا مُزدحمةً بقضبانٍ على ارتفاع آلافِ التنهيدات. تعالَ نسقط سريعًا في مياهٍ لحيفا تنتظرُ لحظة مَدٍّ آتيةٍ، تركتْ حصانَ طروادة يَغرقُ بعيدًا بعيدًا. تعالَ يحيى لنُحقّقَ حُلمًا، بداءِ رحلةِ الشتاء صارَ مُصابًا، ليأتي ومعه نبيّ على البُراقِ سرى، يُعيدُ قدْسًا لنا هاربة.
مداخلة د. راوية بربارة بعنوان دوْر التضادّ في بناء معمار رواية “راكب الريح” للأديب يحيى يخلف: يا راكب الريح يا مسافر على يافا/ هالحِمل ثقل جْبال حطّط عن اكتافا (اكتافها)/ يوسف مرق خيّال أو كان أسطورة/ رسم لوحة عشِق، نحتْها ع صخورا/ يونس في بطن الحوت لِم شاف هالصورة/ ما فارق هلِشطوط، وبْعُمرُه ما جافى/ يا راكب الريح يا مسافر على يافا/ يا راكب الريح يا مسافر على يافا/ بيوسف ساكن قرين من الجنّ ما عافَهْ/ سفّود نار وطار ع العسكر ما يخافا (يخافها)/ ولوحَهْ لَـ هالأحرار بِكامل أوصافا (أوصافها)/ حِكْيِت لنا أسرار من عيون سُلّافا (سلّافها)/ سولف لنا يحيى، ع قلوب تتصافى/ يا راكبَ الريح، خُذْنا على يافا
مساؤكم انثيالاتٌ من رياحٍ خفيفةٍ تحملُنا على بساط الحكاياتِ نحو خيالٍ جامحٍ. مساؤكم عبقٌ منَ التواصلِ والتلاقي يفوحُ في حيفا، يحمل شذا القطّين من رام الله، ليملأَنا طاقةً فلسطينيّةً قادرةً على نبشِ ذاكرتنا الجماعيّة، وعلى طمر مآسينا تحت ترابٍ ينعفُ من دمشقَ الشام إلى عكّا، إلى حيفا فيافا، إلى هناكَ حيث يهتف لكم القلب: يا هلا، خذنا يا مسافر، وين؟ ع رام الله! أهلًا بك أديبَنا الكبير يحيى يخلف، وبرائعتك “راكب الريح”. بما أنّ الأمسيةَ احتفاءٌ بالروايةِ، وهي روايةُ خيالٍ علميٍّ يتّكئ على واقعٍ بزمكنيّةٍ معروفةٍ، فالزمان هو القرن الثامن عشر سنة 1795، ارتأيت أن أتناول جانبًا أسلوبيًّا ساعد على تطوّر الحبكة والشخصيّات والحدثِ، فتَحَ الحكاية على أبوابِ عديدةٍ، وأدخلَنا منها إلى فجواتٍ نصيّةٍ. وهذا الجانب هو التضادُّ في بناء معمار الروايةِ.
1- التضادّ في شخصيّة يوسف: يوسف الشخصيّة المركزيّة في الرواية، من مواليد يافا والابن الوحيد لأحمد آغا وبهنانة، “وُلِد عندما غزا القائد المصريُّ محمّد بك أبو الذهب المدينةَ لافتكاكِها من الزعيم ظاهر العمر” (ص5)، وكان خراب المدينةِ حينها استباقٌ لخرابٍ آخر سيحلّ لاحقًا بالمدينةِ. “كان فتًى حيويًّا وذكيًّا وطموحًا، أحبَّ الخطَّ العربيّ، وأحبَّ الرسمَ، وأحبَّ البحرَ، وأحبَّ القفزَ من الأعالي إلىأحضان الأمواج الصاخبةِ، وأحبَّ طبيعة يافا، تلالَها، وأسوارَها ومارتَها وأسواقَها، ومساجدَها وحمّاماتِها، وخاناتِها وشاطئَها وقواربَ الصيادينَ في عمق بحرِها”. كان يوسف وسيمًا، جميلَ الطلعةِ، يمتلك عيني صقر.. بل إنَّ النساءَ من أحباب بهنانة كنّ يشبّهنَ جمالَ خلقتِه بجمالِ النبيّ يوسف، الذي عشقته النساء حتّى الذهول” (ص6-7).
يوسف الرسّام الملهَم، صاحب اللوحات الفنيّة المعروضة في البازار في يافا، صاحب لوحة الأندروميدا، ولوحة المرأة مكتملة الأنوثة العيطموس، يوسف الخطّاط الماهر، العاشق الولهان، محبوب النساء، مدلَّلَ الوالديْن، يوسف الجميل الرقيق المغامر، محبَّ البحر، كان يلازمه قرينٌ، لا يعرف مَن هو ومتى يحتلّ جسدَهُ، يحوّله ساعةَ الغضبِ إلى شخصٍ آخر مختلفٍ تمامًا، إلى مقاتلٍ، فحين حرق الجندرمة حوانيت المدينة وبضمنها البازار، “غلى الدم في عروقه، توتّرَ، سخن، تحوّلت العصا بيده إلى سفّود، إلى مارج من زيت ونار، شرارة أشعلت غضبَه، وجعلت الدماء تسري حارّةً في عروقه، شرارة أشعلت الجسدَ كلَّه. هجمَ على أحدهما وأطاح به، وضربه بالعصا وأفقده صوابه” (ص129). ويتابع الراوي وصف المعركة حتّى يصل للذروةِ: “جمع نفسه وانتتر، طار في الهواءِ وسقط فوق رؤوسهم، وتحوّلت أذرعه إلى سيوف، وأرجله إلى خناجر، وأعمل فيهم؛ وأوسعهم ضربًا حتى طحنهم كما يطحن حجر الرحى حبّات القمح، ومن ابتعد ولّى هاربًا ونجا تاركًا طبنجته وسلاحه الأبيض” (ص131). هذه الشخصيّة الرائقة التي تتحوّل بغمضةِ عينٍ إلى قاتلٍ لا يرى بعينيه، ويقضي على فيلق كامل، حين يعاود الوعيَ لا يدري ماذا حصل معه ويتعب، ويستغرب من أين أتاه هذا القرين وهذه القوّة، وقد سأل عن هذا الأمر دينيّا، وسأل الحكماء حتّى أبلغه أحدهم أنّه يجب أن يتقبّل الأمرَ وأن يتعاملَ مع القرين بتقبّلٍ، وأن يستفيدَ ممّا يحلّ به.
هذا التضادّ في شخصيّته أعطى الشخصيّة بُعدَيْن، بُعدَ الرقّةِ والقوّة، بُعدَ الهدوء والتوثُّب، بُعدَ الولَهِ والجفاءِ، فخرجتِ الشخصيّة من نمطيّتِها، وأصبحت تصرّفاتها غير متوقّعةٍ، حتّى في ساعةِ الحبّ ساعده القرين على اجتراح علامةٍ مكانة قبلته في عنق الجاريةِ التي أراد تقبيلَها، هذان البُعدان غير المتوقّعيْن يجعلان الشخصيّة مميّزةً، تحطّنا في حدود الواقع حينًا، وفي حدود الخيالِ أحيانًا، في حدود الدين حينًا، وفي حدود الخرافة، في حدودِ الحكمةِ، وفي حدود اللامعقول، وهكذا في حين يرتاح التضادّ في خلقِ ورسم الشخصيّة، يبقى القارئ منشغلًا في توقّعاته، متسائلًا عن سرّ الصمت في موقفٍ، وسرّ الثورة في موقف آخر.
2- تضادّ الجاريات الملكات: ومن يوسف نبقى مع العامل البشريّ لنرى التضادّ القابعَ في السيّدات والملكات، فنخشديل السلطانة كانت جارية شقراء بعينين زرقاوين من أصول فرنسيّة، خطفها القراصنة وباعوها إلى داي الجزائر الذي أرسلها هديّة للسلطان عبد الحميد الأوّل، فتزوّجا وأنجبت له ولدًا وأصبحت السلطانة الأمّ، وعملت على إدخال عادات فرنسيّة إلى القصر والسياسة الأمر الذي لم يُعجب الإنكشاريّة. والعيطموس حبيبة يوسف المرأة كاملة الأنوثة كاملة الأوصاف، كانت أيضًا جاريةً من جواري نخشديل، وغيّرت دينها واسمها ككلّ جواري القصر، وترقّت حتّى وصلت رتبة الجوزدة، كانت ترافق نخشديل في السّراء والضراء إلى أن خطفها الإنكشاريّة، فأنقذتها نخشديل وأعطتها حريّتها، ووضعتها تحت حماية جركس باشا الذي أسكنها القصر في يافا وحماها، والنبوءة تحقّقت، فصارت نخشديل سلطانة الشرق، وابنة عمّها أصبحت معشوقة نابليون سيّدة الغرب، لكن، ورغم حياة القصور التي عاشوها، نرى الحزن في عيون السيّدات والملكات، ونجدهن يحسدن الفلّاحات، فتقول العيطموس ليوسف: “أحسد النساءَ العاديّاتِ اللواتي لهنّ عائلة، أحسد النساء اللواتي ترفّ قلوبهنّ لحبيبٍ يحنو عليهنّ ويعكف على رعايتهنّ، أحسد فلّاحات القرى في الضواحي اللواتي يحصدن القمح والشعيرَ ويجمعن الخضار والفاكهة، ويبعن الغلال في الأسواق، ويمتلكن حرّيتهنّ ويُحدّدن مصائرهنّ” (ص123).
هذا التضادّ في حياة الجاريات الملكات إنّما هو مؤشّرٌ لأمرَيْن: أوّلهما “إنّ الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك، فإنْ كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فاصبِر، فكلاهما سيخسر”، وثانيهما: إنّ السعادةَ لا تقبع خلف الغنى والمال والجاه، وهذا التضادّ أثرى الرواية، وفتحها على مجالات وأبواب وحكاياتٍ لها مغازيها ومعانيها غير المباشرة على تطوّر الحدث وتوقّعات القارئ.
3- التضادّ النساء اللاتي دخلن حياةَ يوسف: العيطموس رمز الأنوثة والكمال، وصاحبة السنّ الذهبيّة الدمشقيّة يسكنها القرين، وتهدف إلى إغراء الرجال ومعاشرتهنّ حتّى قتلهم، كما تفعل ملكةُ النحلِ بالذكر الذي تختارُهُ، والثالثة هي الهنديّة التي ماتَ زوجُها، ورفضت أن تُحرَق معه حسب الأعراف، فانتقلت تحمل الحكمة وتساعد الآخرين. المتناقضات التي تُكمل بعضها البعض اجتمعت في ثلاث نساء: الأنوثة والقوّة الغريبة والحكمة، وهذا ساعد على تكوين شخصيّة يوسف الذي أيقن مدى صعوبة عشرة النساء، وساعد على تطوير الحبكةِ والحدث، ففي ظلّ غيابِ امرأةٍ بسبب الأحداث والسفر من حياة يوسف، كانت تظهر امرأةٌ مختلفةٌ لتسدّ الفراغ النفسيّ والروحيّ والعقليّ والاجتماعيّ عند يوسف وعند القرّاء.
4- تضادّ يافا السلام والحرب، يافا الحرّة والمحتلّة: يافا الحرّة الهادئة الساكنة التي تحتضن أهلها، وتفوح عليهم من عبقِ تاريخِها وتراثِها وحاضرها، ويافا الثائرة ضدّ الدولة والجندرمة والإنكشاريّة. يافا أسطورة المجد الرابضة على شاطئ البحر يزورها حوت النبيّ يونس، ولا يقوى على مفارقة شواطئها وجمالِها. يافا التي يحوّلها واقعها الأليم إلى لقمةٍ سائغةٍ في فم الانكشاريّين وفي قبضة السلطان. يافا التي تهدّمت على رؤوس أهلها في الغزوة النابليونيّة، كما حصل مع بهنانة والدة يوسف، واختار رجالُها طريقةَ موتِهم، فاختار أحمد آغا أن يحفر قبره بيديه، وأن يُهال عليه التراب حتّى يموت، حين كان يوسف يخطّ بيديه وثيقة السلام والحكمة التي كانوا سيوصلونها إلى فرنسا وإلى العالَم، داعين إلى الحكمة والسلام. هذا التضادّ أخرج الروايةَ من دائرة السرد والوصف الجميليْن إلى دائرة الفكرة والرسالة التي يؤدّيها النصّ، فلكلّ نصٍّ رسالةٌ يريد إيصالَها، وعدا التذوّقَ الأدبيَّ والجموحَ مع الخيالِ العلميّ والأسطورة والقصّ الإبداعيّ، والحكايات التي تتوالد من بعضِها البعض، فإنّ الخراب الذي حلّ بيافا كان يحمل دعوةً للسلام، والاحتلال الموصوف كان يحثّ على السعي وراء الحريّة، وما التضادّ الذي عاشته يافا سوى تطويرٍ ذكيٍّ للحبكة وللهدف الذي وصَلَنا على مهلٍ، وفي النهايةِ وعلى امتداد مئات الصفحات. هذا التضادّ أوضح لنا فكرةً هامّةً، الانتماءَ للأرض وعدمَ الانتماءِ للدولةِ، وهذه مقولة تصلح لكلِّ شعبٍ محتلٍّ، ولكلّ دولةٍ تربض على أنفاسِ السكّان.
5- تضادّ الانكشاريّة: حتّى فيهم ربض التضاد وارتاحَ ليفتحَ أبوابَ الوعيِ السياسيِّ، ويجعلَ للحكايةِ ضدّها وغريمَها ونقيضَها، فيملؤُها أحداثًا شائقةً غريبةً متعلّقةً بعضَها ببعضٍ، فالانكشاريّون الذين لم تعجبهم إصلاحات السلطان سليم الثالث أقاموا الفتنة، وأعلنوا الثورةَ على النظام العصريّ للجيش الذي تقلَّدَ بالأوروبيين، فتحالفوا مع فقهاء متشدّدين يصدرون فتاوى تحرّم الزيّ العسكريّ الجديد المستورد من الغرب، ويحرّمون كلّ شيء، ويكفّرون كلّ ما يخالفُ الشريعةَ كما يرونها (ص137)، وكأنّنا بالتاريخ يعيد نفسَه وفي نفس المناطق المنكوبة التي جعلها موقعها الاستراتيجيّ مطمع الجميع، ممّا قبْل أولئك الانكشاريين وحتّى ما بعد تاريخِنا اليوميّ الحاضر! اجتماع كلّ هذا التضادّ في الرواية أدّى إلى تولُّدِ الصراع الذي تصاعدَ على مراحلَ عدّة وعلى أصعدةٍ عدّة، وكانت نهايةُ كلِّ مرحلةٍ تغييرَ مكانِ الحدث وانتقالَ يوسف من يافا إلى أماكن مختلفة، والإنسان محكوم بالمكان، فتصرّفاتُه وحركاته وسلوكه كلّها من تبعيّات المكان، والصراع الأوّل الكبير الذي عاشه يوسف كان حول ثنائيّة الرحيل والبقاء (ص145)، هذا الصراعُ الذاتيّ الذي انفتحَ على صراعٍ منطقيّ، شعبيّ، عامٍّ إنسانيّ مع نشر السلام ودحر الحرب والاحتلال.
وكيف تُغلَقُ أبوابُ التضادّ؟ بانغلاق الدائرةِ ودورتها دورةً كاملةً، فقد بدأتِ الروايةُ زمن خراب يافا وغزوة محمد بك أبو الذهب، والأيّام القاسيّة التي شهدت حربًا دمويّة، وانتهت الروايةُ بخراب يافا، وما بينَ الخرابيْن حياةٌ تتجدّد، وعشق وحبٌّ وفنٌّ ودفقٌ ونبضٌ واستمرارٌ لحياةٍ لا تتوقّف. ما أجملها من روايةٍ تنداح فيها الحكايا وتكبر وتنغلق، وتنفتح حكايةً جديدة، تلكَ تسير لتطوّرَ الحبكةَ، وأخرى تُحكى لتمثِّلَ لواقعةٍ وتعطيها العبرةَ والمغزى والمتعة، ويحملنا راكب الريح على بساط الريح، بساط الحكايا التراثيّة الذي كان ينقلنا من مكان إلى مكان ومن سردٍ إلى سردٍ، فنحلّق ونحن جلوسٌ، كأنّك يا هذا.. بقومٍ جلوسٍ والقلوعُ تطيرُ.
مداخلة د. نبيه القاسم/ “راكب الرّيح” والتّألّق في إبداع الكاتب يحيى يخلف: عرفنا الرواية الفلسطينيّة على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، رافعةً مشعلَ المعرفة، ومُنبّهةً الذاكرة، ومُستنهضةً الهِمَم، وباعثة الأمل وراسمة دربَ المستقبل الواضحَ الطريق. ولم تكن صرخةُ سائق الشاحنة في رواية “رجال تحت الشمس”: لماذا لم تدقّوا الخزّان!؟ إلّا الصرخةَ المدوّية التي أرادها غسان كنفاني، أنْ كفانا اتّكاليّةٌ على الغير وانتظارُ رحمةِ الرّب، وأنّ علينا أنْ نأخذَ أمورَنا بأيدينا لتحقيقِ أهدافِنا التي نعمل لأجلها. بهذا الاتّجاه الذي رسمه غسّان كنفاني انطلقت معظمُ الرواياتِ الفلسطينيّة، ترسمُ خطى الحاضرِ لتنطلقَ نحو المستقبل، عازفةً عن العودة للماضي الموجعِ للقلوب، لتكونَ الاندفاعةَ لمستقبلٍ أقوى وأجدى. وكان اتّفاقُ أوسلو، وسقط الحلمُ على أرض الواقع، وتعثّرت خطواتُ المقاتل على أرض المعركة، وتراجعت الآمالُ لتتقزّمَ في واقع لا يرحم، وكانت الصرخاتُ المتألّمةُ التي أطلقتها شخصيّاتٌ صدمها تكسيرُ الحلم الكبير على أرض الواقع في الوطن الغريب، كصرخة بطل رواية “نهر يستحمّ في بحيرة” ليحيى يخلف، “أنا العائدُ أقفُ ضائعًا في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة، أشعرُ بالرّغبة في البكاء” (ص26) .
صوّرت الروايةُ الفلسطينيّة نكسةَ الفلسطينيّ واختزالَ حلمه الكبيرِ في وطن يتكوّنُ من بَلداتٍ مُتقَطّعة تحرسُها حرابُ جندِ الاحتلال، وليس للفلسطينيّ إلّا أنْ يقبلَ بالواقع ويرضى بما يمُنُّ عليه المحتلُّ الغريب. فراحَ الفلسطينيّ يهربُ من واقعه ليعودَ ليبحثَ في الذاكرة ويسردَ سِيرَ الآباء والأجدادِ، لعلّ في استحضارهم تعزيةً للحاضرين وتعويضًا لكلّ ما فقدَه من حلم ٍكبيرٍ، أمِلَ أن يكونَ الذي يُجَسّدُه على أرض الوطن.
يحيى يخلف خلال حياته اليوميّة والأدبيّة عاش هذه المراحلَ المتغيّرةَ، وعايش حلمَ الشابّ العربيّ المتوقّدِ ثورةً وعطاء وتضحية في روايته الأولى “نجران تحت الصفر”، ورافق الفدائيّ المُندفِع نحو تنفيذ المهمّاتِ الكبيرة دون وَجَل في رواية “تفاح المجانين”، وشارك المُقاتلين الواثقين بانتصار قضيّتهم وتحقيقِ أهدافهم في رواية “نشيد الحياة”. لكنّه عاد وعايشَ صدمةَ انكسار الحلم الكبير وتقزيمه في رواية “نهر يستحمُّ في بحيرة”، وبكى وخافَ فقدانَ البطلِ الأب في رواية “تلك الليلة الطويلة”، وظلّ يرصدُ التّحوّلاتِ والتقلبّاتِ، ويكتبُ ويستفيد من الأحداث وتراكُماتها، ويتمزّقُ لحالة العرب التي وصلوا إليها بعد تمزّقِ ما اعتقدوه ربيعًا عربيّا، فكان خريفا قاتلا.
يحيى يخلف ليس الكاتبَ والمُفكّرَ الذي يتجمّد أمام النظريّات والمَقولاتِ والمواقف، بل هو صاحبُ الفكرِ الثوريّ النيّر الذي يستوعبُ ويستفيدُ ويتعلّمُ ويخرجُ بنتائجَ قيّمةٍ. يحيى يخلف عرف أنّ الواقعَ المعيشَ لا أملَ لنا فيه، وأنْ نبني مستقبَلَنا على ما هو قائم من ضروب المستحيلات، لهذا وجد أنّ البناءَ يجبُ أن يكونَ من الأساس والبدايات طوبة فوق طوبة كما نقول، وأنّ الحياةَ والصّراعاتِ والانكساراتِ والنّكَساتِ والأحلامَ الكبيرةَ المتكسّرةَ عَلّمَتْنا كيف نُعمِلُ العقلَ ونُهدّئُ الطاقةَ المشتعلةَ فينا، لنعرفَ كيف نرى طريقَنا، وكيف نتعاملُ مع مَنْ حوْلنا، لنبنيَ لنا الحياةَ الجديدةَ التي قد تكونُ التي نريدُ أو قريبةً منها. وكانت رواية يحيى يخلف الجديدة “راكبُ الرّيح”، واعتقدتُ لأوّلِ وَهْلةٍ أنّني سأقرأ روايةً بطلُها مَسْحوبٌ من عالمِ ألفِ ليلةٍ وليلة وأساطيرَ بعيدة في الأزمنة، أو من أجواءِ دون كيخوت أو حتى رامبو زماننا، ووجدتُني أنسابُ مع اللغة الجميلة الموقّعة، وأقلّبُ الصفحاتِ الواحدةَ تلو الأخرى، وأختار رِفْقةَ يوسفَ في قَفزه من فوق السور والغَوْص العميق في البحر، وفي مواجهةِ الحوت وملاحقةِ الفتياتِ واللهو مَعَهن، واسْتراقِ القُبَلِ من أجملهِنّ حتى وجدتُ نفسي ويوسف تأخذنا سِنَةٌ من النوم، ولم نستقيظْ إلّا وطابورٌ من الجواري الحسانِ تُحِطْنَ بنا.
يوسف الشخصية الرئيسيّة ومركزُ أحداث الرواية التي رسمها الكاتب بدقّة، شخصيّة اختارها الكاتب بدقّة وحساسيّةٍ لتكونَ كاملةَ الأوصاف، فمولدُه كان يومَ احتلال يافا على يد القائد المصري محمد بك أبو الذهب وتخليصها من يد ظاهر العمر، ليُعيدَها لحظيرة الخليفة العثماني.(ص5) والدُه عمل في التجارة، وأمُّه بهنانة اعتنت بولدها وربّته أحسنَ تربية، تعلّم في حلقات الدراسة في الجامعِ الكبير على يد كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلّم الفقهَ واللغةَ والعلوم. وأرسله والده أيضًا إلى مدرسة الراهبات فتعلّم اللغةَ الفرنسية. عشق الخطَّ العربي فتعلمَ خطَّ الثلث وخطَّ النسخ وباقي الخطوط العربيّة، وتعلم الرسمَ وأتقنَ الرسم بالفحم وبألوان الشمع وألوانِ الزيت، كما أحبَّ البحرَ وأحبّ القفزَ من الأعالي إلى البحر.
كان يوسف وسيمًا جميلَ الطلعة يمتلك عيني صقر، بل إنّ النساءَ كنّ يُشبّهنَ جمالَ خلقته بجمال النبيّ يوسف الذي عشقته النساءُ حتى الذهول. (ص7) وهو الإنسانُ النبيلُ الطاهرُ الذي رفض إيذاءَ الفتيات اللاتي أحبّهن وعرفَهنّ، تمامًا كفِعل النبيّ يوسف الطاهر الأمين الذي رفض ملاحقة الفتيات، وحتى زوجة فرعون مصر له. وما أنْ وصل إلى مرحلة الشباب المبكّر، حتى اكتسبَ لياقة وجسمًا مفتولَ العضلات، وبنيةً متينة، وجرأةً تفوّق فيها على أقرانه، خصوصًا في رياضة القَفز من أعلى أسوار يافا إلى المياه العميقة (ص8).
إضافة إلى كل ما ذُكر سكنَ جسمُ يوسف القَرينُ الذي أعطاه القوّةَ الخارقةَ التي كانت تظهر في حالات الحُبّ أو الحرب الشديدة. وقد بُهرَ بهذه القوّةِ كلَّ مَن عرف يوسف، وجذبت إليه كلَّ الناس خاصّة الفتيات وجواري وسيّدات القصور. يوسف اتّسم بمسحة إلهيّة، فهو شبيهٌ بالنبيّ يوسف بجَماله وفتنته وعِشْقِ الفتياتِ له، وهو كالنبيّ يونس قابَلَ الحوتَ، ويُدخلنا الكاتب في عالم الخيال السحريّ اللامعقول وعالم رامبو، حيث نرى يوسف في مواجهته لجُند الانكشاريّة يجمع نفسه، وطار في الهواء وسقط فوق رؤوسهم، وتحوّلت أذرعه إلى سيوف وأرجله إلى خناجر. وأعمَلَ فيهم، أوسعهم ضربًا حتى طحنهم كما يطحن حجر الرّحى حبّات القمح. “(ص131). كذلك قصة قتل يوسف للفَهد الذي أراد قتلَ الغزال. (ص230). وقصّة يوسف مع جُند نابليون، حيث وصل بقَفزة واحدة، وتحكّم في طاقته، وتحوّلت أصابعه إلى صلابة الحديد، وأعمل فيهم ضربًا بحركات خاطفة، فشَلّ قدراتهم، وأفقدهم توازنهم، وضغط على نقاط ضعفهم. (ص293).
هذا الجوُّ السّحريُّ الخيالي المأخوذُ من أجواء “ألف ليلة وليلة”، واللغةُ السّلسةُ الجميلةُ المشحونةُ بالعواطف والحنين والحبّ، والحِسانُ اللاتي التقينا بهنّ كالعيطموس الفاتنةِ الجمال المُستعارةِ من حوريّات الجنّة التي تقودنا إلى أندروميدا الجميلة ابنة كيفاوس ملك مدينة يافا وكاسيوبيا، وذات السنّ الذهبيّة المُتحدّيةُ الرجالِ وقاتلتهم، تأخذنا مباشرة إلى أسطورة ميدوسا الجميلة التي مارست الجنس في معبد أثينا، فأغضبتها وحوّلتها إلى امرأة بشعة المظهر وحوّلت شعرَها إلى ثعابين، وكلّ مَن ينظر إلى عينيْها يتحوّل إلى حجر. (ويكيبيديا). وبتلك الجلسات العاطفيّة التي أقامتها العيطموس بحضور يوسف، حيث تختار في كل جلسة مَن تروي حكاية رجل عشقَ امرأةً، وكاد يفقدُ حياته بسبب هذا العشق.(ص 103-115). تأخذنا إلى قصص “الديكاميرون” المشهورة. كما أنه اعتمد الفلسفة القديمة والهنديّة خاصّة (ص165)، خاصّة في حديث الحكيم الهنديّ الذي علّمَ يوسف كيف يتخلّصُ من قرينه، الذي هو الطاقةُ الكامنة في الإنسان، باعتماده على الحكمة والعقل والتّمارين (269-271).
مركزيّة المرأة في الرواية: تستحوذُ المرأةُ على القسم الأكبر من الرواية، ويجمعُ بين كلّ النساء اللاتي كنّ في قلب الأحداث: الجَمالُ والفتنةُ، حلوُ الكلام وجرأةُ الفعل، عُلُوُّ المكانة وغنى المال واستقلاليةُ التصرّف. نساء يوسف هنّ: ماري فتاة شقراء بيضاء البشرة ذاتُ عينين زرقاويْن، ابنةُ قنصل الدولة العليّة العثمانيّة في مدينة باردو بفرنسا، أمّها طبيبة فرنسيّة وعائلتها تقضي عطلتَها الصيفيّة في منزلها الفاخر في البيوت المتدرّجة على التلة. وفيديا التي كانت في خدمة الحكيم، لفتت اهتمامَ يوسف بجمالها ولطفها ، وأحسّ بحنين قويّ لها وهي تمسك بيده وتعلّمه الرقص، أحسّ وهو ممسك بكفّها والدماء الحارّة تسري في عروقها، كأنه يمسك عصفورًا ينبض في يده (266). المرأة ذات السنّ الذهبيّة: وهي الجارة في دمشق التي عاكسَته وتحدّته ودَعَتْه: اعتلِ السورَ وتعال إلى مخدعي عندما ينتصف الليل (178). وبالفعل غامر وجاءها منتصفَ الليل فاكتشفَ خديعتَها له، ووقع في أيدي الحرس، وسلّموه للجند ووُضع في المخفر.
أمّا العيطموس فهي المرأة الأولى التي دخلت حياة يوسف، امرأة كاملة الأنوثة(27)، كاملة الأوصاف (ص67)، قالوا إنها يهوديّة، وقالوا إنها مسيحيّة، وقالوا إنها تعتنقُ البوذيّة. ولكنها شوهدت تمارسُ العبادةَ في مصلّى النساء الملحق بالمسجد الكبير في حيّ العجميّ، وأسّست تكيةً بجانب مسجد حسن بيك في المنشيّة، ولا يعرفُ أحدٌ إن كانت تركيّةً أم شركسيّة أم من أصول إغريقيّة(26)، وهي ثريّةٌ تملكُ عقارات وأموالًا وأسطولًا من السفن التجاريّة، تحظى بحماية أمير البحر جركس باشا (ص26)، أحبَّها الناسُ الفقراء والبسطاءُ لتواضعِها، إذ كانت تتصدّق على المحتاجين، وتزورُ المرضى في البيمارستان، وتوزّعُ لحمَ الأضاحي في الأعياد (28).
التناغم التاريخيّ بين الحاضر والماضي: مَن مثلُ يحيى يخلف يعرفُ مأساويّة الرّاهن العربي الذي نعيشُه؟ ومَن مثله يُدرك أثرَ هذا الواقع على إفْقاد الفلسطينيّ كلّ أمل له في تحقيق حلمه وأمله بدَحْر الاحتلال وقيامِ الدولة الفلسطينيّة العَتيدة التي قاتل لأجلها؟ لكنّ جذوةَ المبدع ورُؤيا الثوريّ، وثقةَ المقاتل بعَدالة قضيّته وقدرتَه على تحقيق الهدف، تدفعُ كلّها بيحيى يخلف نحو التفكير الهادئ الرّزين، والتّبصّرِ بواقع الحالِ وصيرورةِ المستقبل، ومِن ثمّ الاندفاع نحو الماضي البعيد والقريب لاستخلاصِ التجارب والعِبر. “التاريخُ يُعيد نفسَه” جملةٌ يتيمةٌ تتكرّرُ وتُستعادُ كبدهيّة مقبولة. ومثلها: “لا ظالمَ باقٍ”، و “لا دولةً خالدة”، و “الزمن دوّار يوم إلك ويوم عليك”، و”التاريخُ عِبرٌ ودروس”. تعابير نُكرّرها ونستشهدُ بها، وكثيرا ما نسخرُ منها، لكنّها في المحصّلة بنتَ تجاربِ الشعوب، استخلصتها وصاغتها بالكلمات الموجزة الرّصينة، ويحيى يخلف وصل إلى القناعة الثوريّة الواعية: أنّ الحقَّ لا يموت، لكنْ حتى تصلَ إليه وتنالَه عليك أنْ تكونَ حكيمًا، وإن لم تحصلْ على الكلّ فاقبل بالقليل، وإن واجهتَ المستحيلَ فلا تيأسْ، وغيّر من أسلوب فكرِك وعملك، واسْعَ لشقّ الصّعاب، وإذا وجدتَ في استعمال القوّة تهوّرًا يوصلُ للدمار، ففكرْ بإعمالِ فكرك في اتّباع الحكمة والتّروّي.
هكذا ركبَ يحيى يخلف الريحَ، وحلّقَ بعيدًا في الزمان والمكان يرصدُ أرضَ الوطن، ويتابعُ حركاتِ الجيوش الزاحفة والأخرى المنهزمة، وقَتْلَ وتشريدَ الناس، وتدميرَ بيوتهم وبلادِهم. فنزل في مدينة يافا، وكانت ككلّ البلاد يومها، أواخر القرن الثامن عشر، تدينُ للحكم العثماني وتخضعُ لظُلم جُندِ الانكشاريّة. وشهد الجريمةَ التي اقترفها نابليون بونابرت بحقّ أهلها، حيث قتل الآلافَ ودمّرَ البيوتَ وحرق الزّرع. وعاد راكب الريح بعد طوافه لواقع الحاضر، ووجدَ أنّ الامبراطوريةَ العثمانية انهزمت، وجُندَ الانكشاريّةِ اختفَوْا منَ الوجود، وغيّبتِ الأيامُ والسنونُ والتاريخُ نابليون، وظلّت يافا قائمةً، وعادت لتكونَ عروسَ حوضِ البحر الأبيض المتوسط ودرّةَ فلسطين، وعاد أهلُ يافا ليُزاولوا حياتَهم ويُقيموا الأفراحَ ويرقصوا ويُغنّوا ويحلموا بمستقبلٍ أجمل، ويحيى المبدع الثوريّ المتفائل يستخلصُ العِبرَ، ويركبُ الريحَ ويعودُ من الزمن البّعيد ليحطّ في رام الله، وهو أكثرُ ثقةٍ بالآتي.
القَرين ورغبة يحيى يخلف في اتّباع طريق جديد: القَرين هو الصاحبُ أو الرفيق الذي يتطابق في الصّفات مع قرينه. وفي حديث للرسول يقول: “ما من أحد إلّا وُكّل به قرينُه من الجنّ وقرينُه من الملائكة”، وكان دوستويفسكي (1821-1881) في رواية “القرين” قد رسم هذه الشخصيّةَ المُلازمةَ لغوليادكين بطلِ الروايةِ، والدّافعةَ لها للقيام بأعمالٍ مختلفة، ويحيى يخلف جعل القَرينَ يُلازم يوسف بطلَ الرواية، ويكونُ مَصْدرَ القوّةِ الهائلة التي عُرف بها، لكنّ استعمالَ القوّةِ المفرطة بغير تَفكير وتقديرِ العواقبِ أدّى إلى الحُكمِ على يوسفَ بمغادرة يافا والابتعادِ عن بلدته وأهله وأحبّائه، ممّا جعله يُقرّرُ التخلّصَ من هذا القرينِ الذي في داخله، ليكونَ الإنسانَ العاديَّ البسيطَ الذي يفكر برويّة، ويتّخذ قرارَه بعيدًا عن تأثيرات غير محسوبة قد تعود عليه بالضّرر. وبالفعل اهتمّ بالوصول إلى الحكيم الهنديّ الذي ساعده في ذلك، وجعله يُفكّرُ أنّ طريقَ استعمالِ القوّةِ المُفرطة المتهوّرةِ توصلُ للدمار، ولا خيرَ من طريق اتّباع السلام ونشرِ المحبّة وروحِ التعاون بين الجميع. وتابع الحكيم يَشرح رسالتَه في “دفاعه عن الشرق وحكمتِه وقيَمِه وعلومِه وثقافته في مواجهة التوحّش الغربي”(ص234) قائلا: “نحن لدينا رسالةٌ، رسالةُ مَحبّة ومساواة وسلام. نحن نُبشّرُ بالأخوّة والمحبّة بين بني البشر، فالناس في دينِكم هم عيالُ الله، وهذه الأرضُ التي يتقاتلون عليها هي أرضُ الله، والبلادُ في الشرق والغرب هي مُلكُ الخالق، وهو الذي يرثُ الأرض وما عليها يوم القيامة. رسالتنا للغرب الذي يغزو الشرقَ، ويأتي إلينا ليستعبدَنا وينهبَ خيراتنا ويُذلَّ حضارتنا وأدياننا ومعتقداتنا، رسالتنا بمثابة اليد الممدودةِ له للسلام والأخوّةِ من موقع الندّ والتكافؤ”(ص241).
بعد أن رأى يوسف ما فعل جندُ نابليون بيافا وأهلِها وباقي البلاد، صعُبَ عليه أن يتسامحَ مع عدوّه، ورفضَ دعوةَ الحكيم للمصالحة قائلا: “لا كلامَ ولا صلح مع مَن ذبحوا والدي وأهلَ مدينتي. فجاء جوابُ الحكيم هادئًا مُقنِعًا: هذه البلاد تدفعُ ثمنَ موقعها في قَلبِ العالم، وتدفع ثمنَ قداستِها، فمنها انطلقت الرّسالاتُ السماويّة، ولقد عبَرها حكماءُ وحاملو قناديلَ معرفة، وعبرتها رماحٌ وسيوفٌ ومنجنيقات. لكنّ غُزاتها مضَوْا وعبرُوا تاركينَ عمائرهم أطلالا، وهذه المدينةُ يافا تعرّضت لغزوات على مدى القرون، ومذابحَ لا تُحصى، وستتعرّض لغزوات أخرى في القرون القادمة، طالما أنّ الظلمَ قائمٌ، والقلوبَ سوداء”. وختم كلامَه متوجّها إلى يوسف: “يا بنيّ، علينا أنْ نُخاطبَهم ونتحاورَ معهم بلغة الحكمة، لعلّنا نلتقي معهم عند منتصف الطريٌق” (ص331-332).
راكبُ الريح روايةٌ تبدأ مرحلةً جديدة في إبْداع يحيى يخلف، تختلفُ عن رواياته السابقة بالكثير وتتفرّدُ بـ : لغة ممَيّزة جديدة، سلسة منسابة بإيقاعيّةِ الحروف والمقاطعِ ومَخارجها (غابتْ عنك. غابَ عطر. وغابت هالةُ غواية. وغاب سوادُ كُحْل، وكَرَزُ شَفَةٍ، وعقيقُ قرط، ولؤلؤٌ يُحيط بجيدِها النّبيل.)(ص67). و “تدور وتدور معها عيناه، تدور لهفتُه. تتوقّفُ فجأة. تتوقّف عيناه على انفعالات وجهها، طائرُ الشباب يرفرفُ في عينيها، هالة سرور تُكَلّلُ قامتَها، فجأة، تُطلق هتافَ فرح وتكادُ تقفز وتطير، تهتف مثلَ صَهيلِ فرس، مثلَ حنينِ ناقة، مثلَ سَليلِ غزالة، مثلَ تغريدِ بُلبُلة”(ص98)، وتتميّز باللغةِ الجميلةِ المتداوَلةِ المطعّمةِ بالتعابيرِ الشعبية (فركة كعب)(ص52)، وبالتعابيرِ القديمة التي تزيد العبارةَ جمالا والمعاني عُمقا (مانحةٌ ومانعةٌ هي، مُقبِلةٌ مُدبرةٌ معا. محافظةٌ ومُتحرّرةٌ معا.ذاتُ عزّة وذاتُ بساط معا. عينان يرفرفُ فيهما طائر عناق وطائر فراق) (ص65). ومزيّنةٍ باقتباسات (مشت أمامه خطوةً خطوة، كمَشْي قَطاة إلى غدير)(ص66) ” ولعلّها بعيدةُ مَهوى القِرط”(ص175) ” كأنما الموتُ طحنَ المدينة بكَلْكله” “وعلى ليلٍ شديدِ السّواد يُرخي سُدولَه على خَوْف ، ويُغْلقُ رتاجَه على فَزَع”(ص304)، وتتميّز ببعضِ التعابيرِ تجعل القارئ يعيشُ لحظةَ ذهول وسُكْرٍ وتَجلّ “بينهما كان يمتدّ حبلُ شوق ورذاذ أحاسيسَ ومشاعرَ”(ص97) “همسَتْ ووصلته أنفاسُها، رائحةَ سِواك وأراك ومسك، لأنفاسِها رائحةُ حديقة”(ص84) وكانت الألفاظُ ترسمُ الحركاتِ والمشاهدَ وتبعثُ الحركةَ في كلّ شيء، “سَحرَها كلامُه، وسَحَرتها إطلالتُه، وحرّكَ شهوةً في أعماقها، وأذْهلتْها جرأةُ عينيه اللتين تطلّ منهما مخالبُ.”(ص106).
تألّقت اللغة في رثاء يوسف لأمّه: “اغفري لي إنْ كنتُ نسيتُ أو أخطأت. لا ظلّ إلّا ظلّك يا أمّاه. انهضي يا سيّدةَ الرّوح. انهضي يا سيّدةَ الدّفْء والطيبة. انهضي يا مَنْ قلبُك معبدٌ للمحبّة. انهضي يا سيّدةَ الأيائل وحوريّات النجوم. انهضي لتنهض يافا من جديد. “(ص317). وفي كلمات العيطموس ليوسف في اللقاء الأخير قبل الوداع: “أمّا أنتَ يا يوسف فإنّك حصان، بل مهر من أمهار البراري، مهر غير مدجّن، يرمح ويعدو على طريق البحث عن الحقيقة والمعرفة، من خلال الرّقش والتزيين والتّوريق والتّوشيح والتذهيب والتّرصيع والتّزجيج والتشجير والتزهير، وفي طريقه البكر، يتعرّفُ على لذّة المغامرة وحسن الغواية، ويركب الريحَ ويعلو.. ويعلو.
الزّمن: اعتدنا في قراءتنا لرواياتِ يحيى يخلف أنْ يُعيّشَنا الزّمنَ المعيشَ في رواياته، ويصرُّ على مُرافقة الأحداثِ وتسجيلِ نَبَضاتِ الزّمن والناس والمواقعِ التي تطؤها الأقدامُ، لكنّنا نجدُه في روايته “راكب الرّيح” يسرقنا، ويسحبُ بنا على صَهوة الرّيح إلى زمن بعيد يعود إلى القرن الثامن عشر، فترةِ الحكم العثمانيّ وغزوِ نابليون بونابرت للبلاد، وقد يكون الكاتبُ أراد أنْ يؤكدَ حقيقةً تاريخيّةً، أنّ البلادَ التي تشهدُ احتلالَ الغرباءِ لها قد عرفت الكثيرَ من الغازين والمُحتلّين، ولكنّهم هُزموا ورَحلوا، وهذا هو مصيرُ كلِّ محتلّ ظالم غريب. وكما حدث في الماضي، هكذا سيكونُ في أيّامنا وفي كلّ زمان، مصيرُ المعتدي إلى الهزيمة، والمحتلِ إلى الرّحيل.
المكانُ بطل الرواية: تساءل الشاعرُ أدونيس: هل المكانُ يموت هو أيضا؟ هل تموتُ الأمكنةُ حقّا كما يموتُ البشر؟ عِلمًا أنّ المكانَ ليس مجرّدَ مساحةٍ جغرافيّةٍ. إنّه بالأَحْرى مساحةٌ إنسانيّةٌ- حضاريّةٌ. أنْ يموتَ المكانُ يعني أنّ البشرَ الذين يُقيمون في هذا المكان يموتون هم أيضًا، أو يميتُهم بشرٌ آخرون. ربّما يستمرُّ المكانُ ظاهريّا: سطحا ماديّا، لكنّه يستمرُ كمِثْلِ هيْكلٍ خاوٍ لا جوهرَ له. المكانُ مسكونٌ بموته مثل الإنسان. مسكونٌ ببُعْدٍ استئصاليّ يُفْرغُه ممّا هو، ويملؤُه بشيء آخر. إماتَةُ المكان تعني خَلقَه من جديد على صورة الذين أماتوه. يُخرجونه من صورته القديمة، ويمنحونه صورةً جديدةً. مُحاكاةً لانبعاث الإنسان بعد الموت”. (القدس العربي 18.8.2016). وصدمةُ المكان هذه عاشَها يحيى يخلف يوم زارَ أطلالَ بلدته سمخ بعد اتّفاقِ أوسلو وعودتِهِ للوطن. “سمخ وردة كالدّهان، سدوم أكلتها الأمواج، بل أكلتها أسنانُ الجرافات. سمخ بلدةٌ غيرُ مَرئيّةٍ، وهذا الذي أراه على أنقاضها تلالٌ من بيوتِ الإسمنت، تلالٌ من الأسوار التي تحجبُ البحيرة، مدينةٌ على النمط الأوروبيّ. مكانُ سمخ صارتْ مدينةٌ يهوديّةٌ جديدةٌ فوق ترابها، على أنقاض بيوتها. سمخ مدينةٌ تمّ ترويضُها وتهويدُها ” (نهر يستحم في بحيرة ص77/80).
وكما الأزمنةُ هكذا الأمكنةُ، تُبَدّلُ شكلَها الخارجيَ وتتآلفُ مع مُغتصبها الجديد وتتعايشُ معه، ولكنّها تُخفي حنينا قوميّا إلى صاحبها الأول ولا تنساه أبدا. وإذ يرى يحيى يخلف كيف تُنتَهكُ الأمكنةَ يوميًّا على طول وعرض الأراضي المحتلة، ويعملُ المحتَلُّ على محو واقتلاع كلّ أثر للمكان الذي كان، ويعملُ بكلّ جدّ لتغييرِ شَكلِ وصورةِ الأمكنةِ وتَبْديلِ أسمائها، لتُصبحَ غريبةً على أهلها الأصليّين، فتنتهي العلاقاتُ وتتقطّعُ الوشائجُ. يركبُ الريحَ ويأخذُنا إلى يافا التي عرفَتْ جريمةَ الغزو الفرنسي لها، وفضيحةَ نابليون بونابرت الذي أمرَ بقتل الآلافِ من أهل يافا وتدميرِ المدينة. أخَذَنا يحيى يخلف إلى يافا ليقولَ لنا: قد ينجحُ الغزاةُ الأقوياءُ في انتهاك الأرضِ وتدميرِها وقتلِ الناسِ وتشريدِهم، لكنّ نهايةَ كلّ محتَلٍّ مهما عظمتْ قوّتُه وسَطْوتُه إلى الزّوالِ ومَزْبلةِ التاريخ ، هكذا كان في الماضي، وهكذا يكون في الحاضر وفي المستقبل، فلا يأسَ مع الحياة ومع الثقةِ بالنفس. المكانُ في “راكب الريح” هو البطلُ الوحيدُ المستحوذُ على كلّ جوانبِ الأحداثِ والشخصيّاتِ، فالتوقفُ عند العديدِ من الأماكن يتكرّرُ ويكونُ الوصفُ الرّائعُ للمشاهدِ المختلفةِ.
مداخلة د. رياض كامل: تمكن يحيى يخلف منذ روايته الأولى نجران تحت الصفر (1976) أن يضع قدمه الثابتة في ركاب الرواية العربيّة، وأن يُشار بالبنان إلى روائيّ قادر على أن يعمل مع زملائه في العالم العربيّ على ترسيخ وتطوير هذا الفنّ العالميّ الراقي، فاختيرت ضمن أفضل مائة رواية عربيّة.
أمّا في ثلاثيّة بحيرة وراء الريح (1991)، وماء السماء (2008)، وجنة ونار (2011)، فقد تمكّن من أن يخطو خطوة أخرى، وأن يخوض في عالم الرواية الفلسطينيّة، وأن يساهم مع عدد قليل من الروائيّين الفلسطينيّين في أن يرسّخ للرؤيا الفلسطينيّة لمسيرة شعب عرف معنى التشرّد، وعرف معنى حبّ الحياة والبحث عن الجذور والتشبّث بها.
فإن كان غسّان كنفاني، برأينا، أحد أهمّ الروائيّين الذين وضعوا أسس الرواية الفلسطينيّة الحديثة في رحلتها الثانية بعد النكبة، فإنّ الروائيّ يحيى يخلف يأخذ جانبا آخر في متابعة رحلة الفلسطينيّ السيزيفيّة، منذ خروجه من سمخ حتى عودته في جنة ونار، مُتحدّيًا جميع العقبات التي شارك العالم في وضع قواعد اللعبة التي تعرقل حقّ العودة التي يؤمن بها الفلسطينيّ المشرّد، ويعيش همّها على أرض الواقع. لقد عُرف يحيى يخلف كروائيّ يوثق للرواية الفلسطينيّة منذ النكبة فالتشرّد في دول شتّى، كما أنّ كلّ رواياته السابقة دون استثناء تعالج قضايا عاشها الروائيّ أو عايشها، أمّا في روايته الجديدة راكب الريح (2016) فإنّه يدخل عالمًا جديدًا هو عالم فلسطين نهاية القرن الثامن عشر.
ملخص الرواية: إنّنا نرى أنّ الرواية عبارة عن ثلاث محطّات ترتبط ارتباطا وثيقا بالمكان، فالمحطّة الأولى هي يافا، والثانية هي الشام، أمّا الثالثة ففي الأناضول وتحديدا مدينة أضنة. تبدأ أحداث الرواية في يافا سنة 1795، وتنتهي نهاية القرن الثامن عشر مع فشل حملة نابوليون على فلسطين. وهي تتمحور حول شخصيّة الفتى يوسف وحيد أبوَيْه. ربّته والدته بهنانة وأحسنت تربيته ونبغ مُبكّرًا، إذ أرسله والده أحمد آغا تاجر الصابون إلى الجامع الكبير الذي “كان يشهد حلقات تدريس من كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلّم الفقه واللغة والعلوم، وعشق الخطّ العربيّ ومنه انتقل إلى الرسم حتى أتقنه. كما أرسله إلى مدرسة الراهبات ليتعلم اللغة الفرنسية”. (ص5) يُعرف عنه منذ نعومة أظفاره حبّه للبحر والمغامرة، وبات أهل يافا ينتظرون قفزاته المميّزة من أعلى البرج إلى البحر، وذات مرّة، وجد نفسه بعد أن أتمّ قفزته وغطس، ثمّ سبح نحو عُمق البحر، وجهًا لوجه أمام حوت” (ص10)، و”من حُسن حظّه أنّ الحوت غاص في الماء واختفى، فعاد يوسف إلى الشاطئ بسلام، وفي تلك الليلة، كانت حكاية يوسف والحوت حديث المدينة، حديث القصر ومجالس الوالي والأغاوات ونقباء الأشراف، ومجلس الجواري” (ص11).
يلفت إليه أنظار أهل يافا كبيرها وصغيرها بفضل نبوغه وعلمه وجسارته واكتمال أدوات فنّه، ووسامته التي شغلت صبايا المدينة وجواري القصر، فشبّهت صديقات أمّه جماله بجمال النبيّ يوسف. يدخل يوسف مرحلة المراهقة في تجربته النسائيّة الأولى مع جارية حسناء أغوته، وما أن لامست شفتاه نحرها حتى احترق. يلتقي كعادته بالجميلات عند شاطئ يافا، ويتعرّف إلى ماري الجميلة ابنة قنصل الدولة العليّة في مدينة بوردو بفرنسا وأمّها الطبيبة الفرنسية، اللتيْن قدِمَتا برفقة العائلة لقضاء عطلتها الصيفيّة في يافا. مهّد هذا اللقاء وهذا التعارف الطريق ليوسف للسماع عن فرنسا والثورة الفرنسيّة الحديثة ضدّ النظام الملكيّ. ولما رأى الوالد أنّ ولده مولع بفنّ الرسم اشترى له بيتًا، ليكون بازارًا للرسم وتخزين الرسوم واللوحات وبيعها. لم يكتف يوسف بما تعلّمه في يافا وعكّا وحيفا، بل سافر إلى الأستانة وطاف في بلاد الشام والعراق، واطّلع على رسومات لشعوب عدّة، فتطوّرت أدواته ورسوماته وانتقل إلى الرسم بالفسيفساء. أقبل كبار موظفي السراي والعائلات الغنيّة على البازار لشراء لوحاته الثمينة. وفي إحدى المرّات تحضر ماري ووالدتها برفقة فتاة ذات حضور طاغ، وكانت تلك هي العيطموس المرأة كاملة الأنوثة والجمال، أميرة قادمة من الأناضول اقتحمت خياله ولبّه، وكانت تسكن في أحد القصور قريبًا من قصر الوالي والسراي، فتقرّبا من بعضهما جدّا، وعَرف عنها كلّ ما كان مستورًا، واتفقا أن يرسمها مقابل قبلة.
دخل يوسف في ورطة مع رجال الانكشاريّة في يافا، فأوسعهم ضربًا وتغلّب عليهم منفردًا، فكان عقابه إبعاده عن يافا مدّة سنتيْن. يترك جميلته العيطموس الشبيهة بالأندروميدا، ويصل وفق الاتفاق إلى الشام، حيث يدخل في “مدرستي ملكي سلطاني” فتزداد ثقافته ومعلوماته. يلتقي هناك بفتاة غاية في الجمال هي “ذات السن الذهبيّة”، ويمرّ بمغامرة معها كادت أن تودي بحياته، يأخذه الجنود وينجو بأعجوبة بعد أن تعرّض لصفعاتهم ولكماتهم الموجعة، لكنّه لم يتوقف عن المغامرة، ففي كلّ مرّة تظهر فيه فتاة أشبه في جمالها بحوريّات البحر الساحرات.
يُعاني يوسف، كما يقول، لأنّ قرينًا يَسكنه ويُنغّص عليه حياته، ولا يعرف كيف يتخلّص منه. يَعرض حالته على شيخ وعلى إمام، كما لم يتردّد في عرض حالته على رجليْن هنديّيْن؛ أحدهما سيخي والثاني مسلم، فيَعرضان عليه صفقة أن يسدي لهما معروفا، مُستغلّيْن مهارته في الخط والرسم، وأن ينسخ لهما “مخطوطا” من تأليف حكيم وفيلسوف وطبيب هنديّ عالم بالفلك وخبير بالموسيقى الروحيّة، مقابل تخليصه من القرين، وما عليه سوى أن يرافقهما إلى حيث يقيم الطبيب إقامته المؤقتة في جبل من جبال الأناضول. وهناك يشفى على يد الطبيب الفيلسوف الهنديّ. وما أن سمع بحملة نابليون على فلسطين وبالتدمير الذي لحق بيافا، حتى عاد على عجل يقطع البراري والقفار، فينضم إلى المقاتلين الذين يحاربون جيش نابليون الغازي، ويعمل مع غيره من أجل إعادة إعمار يافا.
فضاء يافا: تتفتّح شخصيّة يوسف وتتطوّر في ظلّ مدينة يافا ببيوتها وأزقتها وحاراتها وبَحرها وسورها وأبراجها، وبمحيط يافاوي غنيّ ثقافة وفنّا وحضارة. وكلّما كبر يومًا ازدادت قوّته الخارقة، معتقدًا أنّ هذه القوّة هي من “قرين” يسكنه، تمثلت في تغلبه على مجموعة كبيرة من جيش الانكشاريّة، ومن قبلة لجارية حسناء قبّل خدّها فحرقه، وظلّت هذه القبلة وشمًا أبديّا. كما أنّ حبّه للعلم والمعرفة وفنّ الرسم كان يزداد يومًا بعد يوم.
تبدو لنا يافا منذ بداية السرد مدينة فيها الكثير من مواصفات عالم ألف ليلة وليلة؛ غنيّة بمعالمها وأبنيتها وتاريخها وتنوُّع ناسها وانتماءاتهم المتعدّدة واختلاف مِهَنهم وأعمالهم، وتظهر للقارئ مدينة منفتحة على عوالم عدّة، كوْن سوقها عامرة بالتجّار المَحليّين والقادمين إليها من بعيد. فيها بعض القصور، وفيها السراي الذي يقيم فيه الوالي العثمانيّ عبدالله بك، وفيها جوار وقِيان وحسناوات من بلدان مختلفة وشعوب عدّة، وفيها الجامع الكبير الذي بني بمعمار عثمانيّ فريد، وآثار قديمة من سور وبرج عال تشهد كلها على عراقتها، وفيها أسواق ومتاجر تكتظ بالباعة والمُتسوّقين المَحليّين والأجانب، وحركة تجاريّة مباركة، وفيها أدغال من أشجار الحمضيّات وساحات وباحات، فضلا عن شاطئ جميل ورمل يتسلى به الكبار والصغار، يسرحون ويمرحون على شاطئها الذهبيّ.
يقول فيليب هامون إنّ وصف المكان هو وصف لمستقبل الشخصيّة. سيرى القارئ أنّ يوسف سيدخل أسواقها ويحتكّ بناسها على أنواعهم، وسيستلهم رسوماته وفنّه من تراثها وألوانها الجميلة المتعدّدة ومن برجها وأساطيرها، وسيتفتح ذهنه على مَحبّة رملها، وسيبني هناك “قصوره” مع الصبايا الجميلات، ثمّ بعد أن شبّ وبدأ شعر شاربه وذقنه يبزغ يلتقي بجارية حسناء مُجرّبة، تغويه وتسحبه معها إلى الغابة حيث بساتين البرتقال، فيدخل معها في تجربة نسائيّة كانت هي تجربته الأولى، التي ستتكرّر في مواقع أخرى مع كثير من التشابه في سطوة السحر والجمال الأنثويّ.
إنّ جميع مُركّبات فضاء مدينة يافا تُكوّن مع بعضها بعضا صورة فسيفسائيّة مُتكاملة، من شأنها أن تُبرز ملامح التكوين الأوّليّ لشخصيّة الفتى يوسف، وهي ليست مفصولة عن بعضها، بل تُدلل في اجتماعها على الصراع الفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ لساكني المدينة، والصراع الذي سيواجهه يوسف وهو يرى هذا البناء المُركّب. يرى يوسف ويَعي ما يراه، فيتواجه منذ بداية تفتح وعيه مع الانكشاريّة، وما تحمله هذه الفئة من أفكار تتناقض مع أفكاره التي تميل إلى الفنّ بأنواعه المختلفة، بينما هُم يعملون بكلّ ما أوتوا من سلطان وبطش للإبقاء على الوضع الراهن الموبوء بفكر مُتزمّت. من أبرز ملامح هذه الفترة، برأينا، هو إبراز الشخصيّة الشرقيّة وبالأحرى الهُويّة الشرقيّة، فيافا مدينة وفيها صراعات واختلافات، لكن تفوح منها الأصالة الشرقيّة العربيّة من فن الخط العربيّ والتزويق والملابس والأنسجة والرسم الراقي، وتحمل جَمال الشرق العربي وسحره وفن البناء الشرقيّ.
يافا مدينة تزخر بالحياة وفيها سوق مفتوحة على العالم الواسع. إنها سوق عامرة أشبه بالأسواق التي قرأنا عنها في الف ليلة وليلة وفي حكاياتنا الشعبيّة، ويوسف جزء هامّ من هذا النسيج الاجتماعيّ المتنوّع، وهذه الحياة الزاهرة والزاخرة في السوق، فضلا عن تعدّد التجّار والباعة والبضائع. ساهمت السوق في بناء شخصيّة يوسف، فتمكّن من رؤية الناس ومن معاشرتهم على اختلاف انتماءاتهم، وساهمت في تفتّح ذهنه وفكره، وباتت السوق مكانًا مفتوحًا على عوالم مختلفة لا مجرّد مكان مفتوح طوبوغرافيًّ، فالسوق عالم بذاته فيه تنوّع من البضائع ومن الباعة والمتسوّقين، وهي تحفة في البناء وفي العرض، فيساهم كلّ ذلك في تفتّح الذهن والذوق الفنّيّ ليوسف الرسّام والخطّاط.
هذا التنوّع في المعروضات والبضائع ينمّ عن غنى أهل يافا خاصّة وفلسطين عامّة، وسنرى أنّ مُركّبات مدينة يافا من بشر وفنّ وحجر، تستحقّ أن يُضحّي المرء في سبيلها والحفاظ عليها، لأنّ الحفاظ على يافا يعني الحفاظ على المكان الأوسع. وعودة يوسف وانضمامه في النهاية إلى المقاتلين للذوْد عن يافا وإعادة بنائها هو الدفاع عن هذا الرصيد، وعن هذا التنوّع البشريّ والتنوّع الفكريّ الذي يُغْني المدينة. هذا كلّه يحمله أبناء يافا كجزء من رصيدهم، وينقله معه يوسف حيثما حلّ، وبفضل هذه الحضارة تمكّن من أن يتحاور مع الآخر ويتواصل معه، خاصّة حين يكون هذا الآخر ذا باع طويل في العلم والمعرفة، فيعطيهم ممّا لديه، ويأخذ منهم ما ينضاف إلى رصيده كي تكتمل الرؤيا الشموليّة، لكنّه مع ذلك يحمل معه نزق الشباب ونزق الشرق، رغم ما يتحلّى به الشرق العربيّ من روحانيّات، فيوسف في تمثيله ليافا وللشرق العربيّ تنقصه بعض الميزات التي يجب أن يتسلّح بها ليواجه الحضارات الأخرى، وهو ما سيكتسبه في مناطق الشرق الأخرى.
فضاء الأناضول: يتنقّل يوسف بين مناطق عدّة، ومن أهمّ هذه المحطّات كانت الشام التي نعتبرها مرحلة تمهيديّة للتحوّل في شخصيّة يوسف. أمّا مرحلة النضوج فكانت في الأناضول، فهي برأينا نقطة تحوُّل هامّة جدّا، فوجود يوسف في هذا المكان، بما فيه من معالم خارجيّة وإيحاءات صوفيّة، ساعدته في اكتشاف حقيقة ذاته، فالقوّة الكامنة به تابعة له وليست لقرينه، كما كان يعتقد، وبعد التدرُّب على يدي الحكيم الهنديّ بات قادرًا على التحكّم بذاته وبقوّته الخارقة، من خلال العقل والتأمُّل، ونتيجة هذا التواصل أصبح أكثر وعيًا وتحرُّرًا، فنظر إلى الجوهر لا إلى المظهر، وترك الأناضول وعاد إلى يافا، إلى المكان الأساس وإلى القضيّة الجوهريّة- طرْد نابليون العدوّ الذي جاء ليبدّلَ ويُغيّر معالم المكان ومكانته. لقد ارتبط يوسف اليافاويّ بالميناء والبُرج وبكلّ حارة من حارات يافا وبأزقتها وبيوتها، وحين رجع ورأى ما تركته حملة نابليون من تغيير معالم المكان، كان همُّه الأوّلُ هو إعادة بناء المدينة لتعود إلى سالف عِزّها وشكلها. فانتهت الرواية نهاية مفرحة، وظلَّ بابُ الأمل مفتوحًا على مصراعيْه، على الصعيد العامّ والصعيد الخاصّ. يوسف يكتشف قوّته النابعة من ذاته لا من ذاك القرين المُتوهّم، وجنّدَ كلّ ما اكتسب للحفاظ على المكان الأهمّ؛ مدينته يافا الجميلة والعريقة. أما قبلته الأخيرة فقد كانت “قبلة النوايا الحسنة” كما قالت السيدة العيطموس (ص342)، إذ “اقترب من اللوحة، مدّ رأسه نحوها، ألصق شفتيْه بشفتيْها وأطال التقبيل، ثمّ ابتعد واستدار نحوها وقال: هكذا تكونين قد سدّدْتِ ديْنَكِ”. (ص343) إنّها قبلة ناضجة، لأنّها قبلة حُبّ حقيقيّ لا قبلة شهوانيّة تحرق الخدّ، فقد جاءت بعد أن تحرّر من القرين، واكتشف عُمق ذاته الإنسانيّة. بات إنسانًا آخر يُدرك جوهر الحياة وجوهر المرأة وجوهر ذاته. أمّا على الصعيد العامّ فإنّ يوسف وأهل يافا فقادرون على بنائها من جديد، لتعود إلى الحياة كطائر الفينيق. ويافا ليست مجرّد مدينة، بل إنّها رمز للمكان الأوسع والأشمل، وكما أنّ حيفا ليست مجرّد مدينة في رواية غسّان كنفاني، بل رمز أوسع وأشمل، هكذا هي يافا في رواية يخلف “راكب الريح”.
لم تنته الرواية باكتساب يوسف المعركة كما يتمنى القارئ العاديّ، بل إنّنا نرى أنّ يوسف قد ساهم في فتح كوّةٍ للحوار بين الشعوب والأديان وبين الشرق والغرب، عبْر مساهمته في كتاب الحكيم الهنديّ.
بعض تقنيات السرد: يستعير يحيى يخلف بعض تقنيّات السرد الشعبيّ، بدءًا من العنوان “راكب الريح” الذي يأخذنا إلى بساط الريح الذي اعتاد الأبطال الشعبيّون أن يركبوه، فضلا عن التشابه في البطولة الخارقة التي يتحلّى بها أبطال السرديّات الشعبيّة والسِّيَر والملاحم الشعبيّة. كما أنّ مبنى الرواية مبنى كلاسيكيّ، إذ يستهلّ الراوي حكايته بالتعريف بالبطل ضمن الحيّز الزمكانيّ (يافا 1795)، ثمّ تسير الأحداث من الماضي نحو الحاضر بشكل متسلسل، دون أي تكسير لزمن السرد. ويبدو لنا جليًّا أنّ الكاتب يوظّف هذا الأسلوب عن سبق إصرار. إنّنا نؤكّد في هذا السياق أنّ رواية “راكب الريح” ليست رواية تقليديّة رغم مبناها، بل على العكس هي رواية تجمع بين الواقع والخيال، وقد وُظف الخيال بطريقة فنّيّة، يَعرف الباحث تمام المعرفة أنّ من حقّ الفنان روائيّا كان أو رسّاما أو نحّاتًا، أن يخلق صورًا ليست طبق الأصل عن الواقع، فيبدو للقارئ المتمرّس أنّ هذا الإبداع هو نوع من الإيهام بالواقع، ونضيف، إنّ الرواية العربيّة قد تجاوزت مراحل التقليد للرواية الغربيّة، وبات الروائيّون المتمرّسون أكثر ثقة بنفسهم، لذلك لا يتهيّبون من توظيف ما كان يومًا من الأيّام يعتبر تقليدًا.
اهتمّ كتاب الرواية الواقعية بتصوير المكان بصورة مُشاكلة للواقع، فتبدو انعكاسًا واقعيًّا له، لكن في روايتنا فإنّ المكان لا يُشاكلُ الواقع، ومع ذلك فهو يبدو في عين القارئ واقعيًّا، لأنّه يُحقّق حيلة الفنّان المبدع في عمليّة “الإيهام بالواقع”، وهي لا تندرج تحت باب الرواية الواقعيّة، ولا تحت باب الرواية التاريخيّة. فصورة يافا بأسواقها وقصورها وقيانها وجواريها وتحرُّكِ الشخوص في إطار الأمكنة أقرب إلى “واقعيّة” ألف ليلة وليلة. لكن من المُهمّ الإشارة إلى مدى التلاحُم ما بين الأمكنة وما بين الشخصيّات، فبدت الأمكنة جزءًا من الشخصيّات، والشخصيّات جزءًا من الأمكنة.
العنوان “راكب الريح” يبوح بفضاء مفتوح مكانًا وزمانًا، فهو يحمل دلالة الأمكنة في أزمنة متبدّلة وغير ثابتة، فراكب الريح متحرّك في الزمان وغير ثابت في نقطة بعينها، ومتحرّك في الأمكنة لا يثبت في واحد منها فقط، وهذا ما يتناسب جدّا مع تحرّكات الشخصيّة المركزيّة يوسف، ليس فقط على صعيد المحسوس والمرئيّ، بل على صعيد الجوهر، فتحرُّكاته وجولاته تزيده معرفة لجوهر ذاته، والأمر ذاته ينطبق على الاسم يوسف الذي يحيلنا إلى قصّة النبيّ يوسف، ليس في وسامته فحسب، وقصصه مع زوجة العزيز واللواتي قطعن أيديهنّ بسببه. فيوسف النبيّ أيضًا راكب للريح انتقل من أرض كنعان إلى أرض مصر وتعرّف على بلاد أخرى. تأثر بفنّها وعالمها الرحب الواسع، واكتملت شخصيّته هناك، وبعد أن كان فتى صغيرًا تحوّل إلى وزير، بفضل نبوغ عقله وتمكُّنه من تفسير الأحلام والألغاز، وبالتالي تمكّن من إنقاذ أهله من القحط والجوع. ويوسف في روايتنا تجوّل وكبر واكتمل إدراكه ووعيه، وعاد إلى أهله وإلى بلده لينقذها من الطاعون والجوع ومن براثن نابليون وجيشه الذي عاث فسادًا.
ينجح يحيى يخلف في كلّ رواية يكتبها رغم اتّباعه الأسلوب الكلاسيكيّ في توظيف تعدُّد الأصوات وتعدُّد اللغات، كما عرفهما المُنظّر الروسيّ ميخائيل باختين والمُنظّر تودوروف.
خلاصة: للرواية أبعادٌ عدّة كلّها مُهمّة، منها البُعد الفكريّ: يرى القارئ أنّ التغيير المنشود الذي يُحقّق الذات العربيّة ويضعها في مكانها السليم هو في التحرّر الفكريّ والعقائديّ، لذلك ليس عفوًا أنّ بطل القصّة رسّام وخطاط وجوّال آفاق، يحارب في الداخل والخارج. ورغم كونه راكب الريح، فالقصّة ليست قصّة سندباد عربيّ مغامر فحسب، بل هي الفلسطينيّ الذي آثر العودة من رحلة الاستشفاء في الأناضول إلى يافا الجريحة المصابة بوباء الطاعون، فيشارك مع الثوّار والجنود من أجل طرد الغريب وإعادة بناء البلد من جديد. ومن هنا نرى يوسف الباحث عن الحكمة يلتقي بالحكيم الهنديّ، ويُساهم في إصدار كتابه بنسخة أنيقة، ليصل إلى الغرب حاملًا رسالة الشرق للغرب؛ تعالوا لنعيش معًا في ظِلّ حِكمتنا وحكمتكم وفي ظلّ حضارتيْنا، دون سيطرة الأخرى على الثانية.
بطل القصة يوسف يتحوّل إلى رمز ومثال للفتى الفلسطينيّ الباحث عن الحقيقة، وعن الحقّ في الحياة الحُرّة الكريمة الحافلة بالحكمة والعلم والفنّ الراقي. فالحياة ستكون فارغة ومنقوصة بدون الفنّ من رسم ونقش وخط وغناء ورقص وجمال داخليّ وخارجيّ، لذلك ليس صدفة أنّ راكب الريح يمرُّ عبر محطّات هامّة في حياته، وكلّ منها في موقع مختلف، وفيها فتاة ساحرة كاملة الأنوثة والجاذبيّة، أمّا أكثرهنّ جاذبيّة فهي العيطموس؛ تلك المثقفة ثقافة شرقيّة وغربيّة.
ورغم الجانب العاطفيّ الهامّ في الرواية، إلّا أنّ هَمّ يوسف الأوّل هو تحقيق الذات، وطرد الغازي الغريب مُمثّلًا بنابليون وجيشه وإعادةُ إعمار يافا، من خلال العمل الجماعيّ لا العمل الفرديّ. لذلك لا تنتهي الرواية كنهاية الروايات التقليديّة، ولا يجتمع الحبيبان ليبنيا عشّ الزوجيّة، بل تنتهي وقد تجمّع الشباب الثائر من أجل إعادة إعمار يافا. الرواية كما هو معروف رسالة موجّهة للقارئ، أو إن شئنا هي رسالة من مرسل إلى مرسل إليه كما يقول المُنظّرون، والقارئ برأينا يعيش أحداث الرواية، ويدخل أجواءها التي تنقله إلى عالم تلك الأيّام التي قرأنا عنها في كتب التاريخ، لكنّها في كتب التاريخ مجرّد معلومات صمّاء، أمّا في الرواية فهي عالم متكامل، فيها بشر وشخوص ذكور وإناث وتجّار وباعة وأسواق وبيوت وأزقة ونباتات: أشجار وورود لها روائح تشي بالمكان وخصوصيّاته، وفي روايتنا أمكنة عدّة؛ تبدأ من يافا وتمتدّ إلى الشام، ثمّ الأناضول وبالتحديد أضنة. وهناك بيوت وحارات يسكنها أناس من طبقات مختلفة ومن شعوب مختلفة، لهؤلاء عادات وتقاليد ولغات ولباس وعطور يتعطرون بها. هذه الأمكنة تجتمع داخل رواية واحدة، وهي عبارة عن عوالم عدّة تجتمع كلّها في إطار واحد هو إطار رواية راكب الريح، فتكوّن هذه الأمكنة، بمُركّباتها، عالم رواية راكب الريح. ينقلك الراوي المشرف الكلّيّ إلى عوالم عدّة، ولكلّ عالم شخوصه وعاداته وتقاليده ولباسه ومأكله ومشربه.
إنّ يخلف يدفع مع قلّة من زملائه الروائيّين بالرواية الفلسطينية نحو مركز متقدّم ومتطوّر في ركب الرواية العربيّة عامّة.