التعاون العسكريّ بين كييف وأنقرة.. روسيا ليست غافلة – محمد منصور
تراقب روسيا تطوّر العلاقات التركية الأوكرانية ولهذه الغاية نفذّت مناورات بعد أيام من إسقاط دفاعاتها الجوية 9 “درونز” تركية الصنع في أرمينيا، وقبل أسابيع من مناورات بحرية غير مسبوقة ستتمّ بين البحريتين الروسية والمصرية في البحر الأسود.
بثبات ووتيرة متسارعة، تسير العلاقات العسكرية بين أوكرانيا وتركيا قدماً في منحى تصاعدي ملحوظ منذ العام 2014، بات يشمل جوانب عدة، أهمها التصنيع والتسليح والتدريب. آخر محطّات هذا المنحى كان في منتصف تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حين وقّع الجانبان على عدة اتفاقيات للتّعاون العسكريّ والشراكة في المجال الدّفاعي خلال زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى أنقرة.
تأتي هذه الاتفاقيات في توقيت تتفاقم فيه الصراعات في منطقة القوقاز، وخصوصاً حول إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين أذربيجان وأرمينيا، وهو صراع تتموضع فيه تركيا بكلّ قوة خلف حليفتها باكو، وهو ما يضيف زاوية جديدة إلى زوايا التوتر بين موسكو وأنقرة، تنضم إلى زوايا أخرى كان ملف شبه جزيرة القرم من ضمنها.
أنقرة ظلَّت تداوم في كلّ مناسبة على التأكيد أنَّ شبه الجزيرة هي أراضٍ أوكرانية. وكانت آخر هذه المناسبات خلال زيارة الرئيس الأوكراني إلى أنقرة، حين صرح الرئيس التركي قائلاً: “لم تعترف تركيا بضم شبه جزيرة القرم غير القانوني، ولن تفعل ذلك أبداً”.
بشكل عام، تقلصت بشكل كبير العلاقات العسكرية بين كييف وأنقرة، إلى أن بدأ كلا البلدين بنسج خيوط هذه العلاقات بشكل واضح منذ العام 2014، بعد أن بدأ التبادل التجاري بينهما بالتزايد بشكل مطرد. وقد بدأت هذه العلاقة بالترسّخ أكثر عبر سلسلة من اتفاقيات التعاون العسكري، أولها تم توقيعه في السادس عشر من أيار/مايو 2016، حين وقع الجانبان خطة عامة للتعاون العسكري، تشمل بنوداً ظلت سارية حتى العام الجاري، وقد ضمّت هذه الخطة خارطة طريق لتنفيذ إصلاحات للبنية العسكرية الأوكرانية بمساعدة تركيّة، وتحسين القدرات التدريبية لكلا الجانبين، وإيجاد آليات لتنفيذ مناورات مشتركة بينهما.
في الشهر التالي لتوقيع هذه الاتفاقية، دخلت عدة قطع بحرية تركية إلى ميناء أوديسا الأوكراني، خلال مناورة مشتركة نفَّذها حلف الناتو في البحر الأسود، ونفّذت هذه القطع عدة مناورات وتدريبات بحرية مع القطع البحرية الأوكرانية، وهي مناورات تكرّرت بعد ذلك في نيسان/أبريل 2018، حين شاركت قطعتان بحريتان تركيتان مع فرقاطة أوكرانية في تدريب بحري عابر يعد الأول من نوعه بين البلدين، اللذين كانت التدريبات العسكرية بينهما تتم ضمن إطار تدريبات حلف الناتو حصراً.
في العام 2017، بدأ كلا الجانبين بتوسيع هامش التعاون العسكري بينهما ليشمل ملفّ التسليح، إذ وقعا في الخامس من كانون الثاني/يناير 2017 بروتوكولاً للتعاون العسكري، تمنح أنقرة كييف بموجبه 3.1 مليون دولار كمساعدات عسكرية للجيش الأوكراني، يتم تخصيصها لشراء معدات عسكرية تركية الصنع، ومواد خام ذات استخدام مزدوج لتلبية احتياجات الجيش الأوكراني.
اتّضحت ملامح هذا التوجه بشكل أكبر من خلال توقيع البلدين عدة مذكرات للتعاون في مجال التسليح، أهمها ما تم توقيعه في آذار/مارس خلال فعاليات معرض “أيديف 2017” للصناعات الدفاعية الذي تنظّمه تركيا بشكل سنوي، إذ زار المعرض وفد أوكراني رفيع المستوى، ترأسه سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني أولكسندر تورتشينوف، وقام بتوقيع اتفاقيات تتعلق بالإنتاج المشترك للذخائر وتقنيات الرادار والأنظمة الجوية المسيّرة وقطع الغيار الخاصَّة بالطائرات.
الأداء الأوكراني خلال هذا المعرض، إلى جانب التصريحات التي صدرت عن ممثلي الشركات الأوكرانية، أكّدا التوجهات الأوكرانية التي استهدفت قطع كل أنواع التواصل العسكري مع الشركات العسكرية الروسية، وتطوير صناعاتها الدفاعية الذاتية بالتعاون مع دول مثل تركيا، ضمن شراكة استراتيجية عسكرية ممتدّة ومتطوّرة.
الاهتمام الأوكراني بالأسلحة التركية بدا واضحاً خلال زيارة نائب وزير الدفاع ومجلس الأمن الأوكراني، أوليغ جلادكوفسكي، إلى إسطنبول في تموز/يوليو 2018. حينها، زار مقر شركة “بايكار” للصناعات الجوية، التي تقوم بإنتاج “الدرونز” القتالية الأهم في الترسانة التركية “بيرقدار”، وصرّح بأنَّ بلاده مهتمة بشراء “الدرونز” التركية الصنع والتصنيع المشترك لها على الأراضي الأوكرانية.
في كانون الثاني/يناير 2019، أعلن الرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو عن توقيع اتفاقية مع تركيا لشراء “درونز” (بيرقدار) القتالية بقيمة 69 مليون دولار، تشمل كلفة شراء 6 طائرات من هذا النوع، على أن يتم تسليمها خلال العام 2019.
وقد حضر الرئيس الأوكراني الاختبارات التجريبية لأداء هذه “الدرونز” في الأراضي الأوكرانية في آذار/مارس من العام نفسه، وكذلك حضر الاختبارات سكرتير مجلس الأمن القومي ألكسندر تورشينوف ووزير الدفاع الأوكراني ستيبان بولتوراك. وكان لافتاً حضور زعيم تتار القرم مصطفى عبد الجميل هذه الاختبارات أيضاً، وهو ما شكَّل إشارة واضحة إلى موسكو باستمرار كييف وأنقرة على مواقفهما السابقة من مسألة إعادة شبه جزيرة القرم إلى السيادة الروسية.
في آب/أغسطس من العام نفسه، أعلنت لجنة الدفاع والأمن في البرلمان الأوكراني أن شركتي “بايكار” التركية و”أوكرسبيتسيسكبورت” الأوكرانية أسستا شركة مشتركة متخصّصة في الصناعات الجوية، من أجل البدء بتصميم وتطوير أجيال جديدة من “الدرونز” القتالية البعيدة المدى. وقد دخل البلدان منذ ذلك التوقيت في مفاوضات لتحديد الموقع الأمثل لتدشين المصنع الذي سيتمّ من خلاله تطوير هذا الجيل الجديد من “الدرونز”، فقد كانت النية سابقاً تقضي بأن تتولى شركة “أوكرسبيتسيسكبورت” عمليات تصنيع “الدرونز” الجديدة، لكن تم الاستقرار على إنشاء شركة مستقلة، وإنشاء مصنع جديد مخصص لهذا الغرض.
وقد استقرت المداولات بين البلدين على اختيار مدينة زوبورويا الأوكرانية كموقع لإنشاء المصنع الذي من المتوقع أن يضم أيضاً خطّاً لإنتاج وجمع “درونز” (بيرقدار) القتالية، وخصوصاً أن كييف أعلنت في تشرين الأول/أكتوبر 2020 عن رغبتها في الحصول على نحو 50 “دروناً” قتالياً من النوع نفسه.
اتّسع قوس التعاون بين البلدين في مجال التّسليح بشكل أكبر بعد زيارة الرئيس التركي إلى كييف في شباط/فبراير الماضي، وهي الزيارة التي شهدت إعلان تركيا عن منح أوكرانيا مساعدات عسكرية بقيمة 50 مليون دولار، ستستخدم لتلبية احتياجات الجيش الأوكراني من الأسلحة. وقد تبع ذلك إطلاق عدة مفاوضات حول صفقات جديدة للأسلحة والتعاون في مجال التسليح بين البلدين، شملت عدة صنوف من المنظومات الهجومية والدفاعية.
من أمثلة ذلك، تفاوُض البلدين على الإنتاج المشترك لطائرات النقل التكتيكي الجديدة الأوكرانية الصنع “أنطونوف 178″، إذ أعلنت شركة “أنطونوف” في أيلول/ سبتمبر الماضي عن تدشين البلدين التفاوض حول تصنيع الشركات التركية لبعض الأجزاء الإلكترونية والميكانيكية لهذه الطائرة، خلال زيارة وفد الشركة إلى مقر شركة “بايكار” التركية للصناعات الجوية أواخر آب/أغسطس الماضي.
تهتمّ تركيا في هذه المرحلة بمحركات الصواريخ الجوالة والمروحيات، نظراً إلى القصور الذي تعانيه في كلا المجالين. لهذا، كانت المحركات من أهم بنود التفاوض بينها وبين كييف. في كانون الثاني/يناير الماضي، عقد البلدان صفقة بقيمة 600 مليون دولار، تزوّد بموجبها أوكرانيا تركيا بمحركات “توربينية” من نوع “أيه أي – 35” من إنتاج شركة “أيفشينكو” الأوكرانية، من أجل صواريخ “الكروز” التركية الجديدة من نوعي “جزكين” و”أطمجة”.
يعدّ برنامج “جزكين” لصواريخ “الكروز” من البرامج الأساسية للتصنيع العسكري التركي، ويستهدف تصنيع صواريخ مضادة للقطع البحرية يتراوح مداها بين 1400 و2000 كيلومتر. وكانت العقبة الأساسية أمام تطويره هي محرك التشغيل، إذ لن تمتلك الصناعة الحربية التركية القدرة على إنتاج وتطوير محرك محلي الصنع قبل العام 2022 على الأقل. ونظراً إلى تعذّر اعتمادها على المحركات الفرنسية التي كانت تستخدمها سابقاً، بسبب توتر العلاقة مع باريس، لجأت تركيا إلى أوكرانيا للتزود بمحركاتها “التوربينية”.
أمّا في ما يتعلّق بصاروخ “أطمجة” المضاد للقطع البحرية، فقد استهدفت تركيا من خلال تطويره إيجاد بديل محلي لصواريخ “هاربون” الأميركية. وقد تم الاختبار الأول لهذا الصاروخ في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وهو يمتلك رأساً حربياً زنته 250 كيلوغراماً، ويصل مداه الأقصى إلى 220 كيلومتراً.
وفي آب/أغسطس، زار أوليغ أوروسكي، نائب رئيس الوزراء الأوكراني لشؤون الصناعات الاستراتيجية، العاصمة التركية أنقرة، للإشراف على توقيع عقود تتعلق بهذا النوع من الصواريخ، إذ تمّ بيع ربع أسهم شركة “موتور سيش” الأوكرانية للصناعات الميكانيكية لشركات تركية، من أجل بدء تصنيع المحركات الخاصة بهذه الصواريخ، كما تم الاتفاق على أن تتزوّد البحرية الأوكرانية بأعداد غير محددة منها، جنباً إلى جنب مع البحرية التركية.
رغم أن التعاون بين الجانبين يسير قدماً إلى الأمام، ولكن هناك بعض الخلافات بينهما تتعلق بشكل رئيسي بملفّ محركات المروحية القتالية التركية “تي – 129 أتاك”، ففي العام 2015، رفضت شركة “أيفشينكو” الأوكرانية إتمام اتفاق مع شركة “توساش” التركية، لإنتاج محركات غازية مزودة بدافع “توربيني” لتزويد المروحيات التركية بها، عوضاً عن المحرّكات التي كانت تنتجها شركتا “رولز رويس” و”هانيويل”.
الرفض جاء بعد خلافات على بنود اتفاقية الشراكة حول تصنيع هذه المحركات، إذ رفضت الشركة الأوكرانية مشاركة برامجها الخاصة بتصميم هذه المحركات وآلية عملها مع الجانب التركي، كما رفضت إدخال الفنيين الأتراك إلى مصانعها ومختبرات التصميم الخاصّة بها، ما أدى في النهاية إلى فشل الاتفاق واستمرار الجمود في ما يتعلق ببرنامج تصنيع هذه المروحية، التي تم تعليق صفقتين لبيع أعداد منها إلى كلّ من باكستان والفيليبين بسبب الفشل في توفير محركات جديدة لها.
والجدير بالذكر أنَّ برنامج تصنيع هذه المروحية بدأ في أواخر العام 2009، وهي مبنية على تصاميم المروحية القتالية الإيطالية “إيه-129 منغوستا”. وقد دخلت الإنتاج الكمي في العام 2015، وتم إنتاج نحو 60 مروحية من هذا النوع حتى الآن.
آفاق التعاون العسكري بين البلدين
خلال الزيارات المتبادلة هذا العام بين الجانبين، تم فتح النقاش حول التعاون في مجالات عسكرية أخرى، مثل تصنيع منظومات الدفاع الجوي، وخصوصاً أنَّ تركيا كانت قد اشترت أعداداً غير محددة من منظومات الدفاع الجوي المطورة أوكرانياً “سام 3”. تضاف إلى ذلك مجالات أخرى محتملة للتعاون، مثل مجال الفضاء، إذ وافقت أوكرانيا على مساعدة تركيا في هذا الصدد بنقل الخبرات الأوكرانية في مجال محركات الصواريخ إلى مختبر أبحاث وتطوير الأقمار الصناعية التابع لشركة “روكيتسان” التركية.
كما اتفق الجانبان على تعزيز التعاون في مجال الأقمار الصناعية العسكرية، ووقَّعت في هذا الصدد شركتا “هافلسان” التركية ومجموعة “أوكروبورونبروم” الأوكرانية اتفاقاً للتعاون في مجال تكنولوجيا الأقمار الصناعية.
يتوقّع في المرحلة المقبلة أن تلجأ أنقرة إلى أوكرانيا لحلّ المزيد من المعضلات التي تواجه برامجها التسليحية المحلية، مثل إيجاد محركات “ديزل” لبرنامج الدبابات المحلية الصنع “ألطاي”، وتطوير محركات خاصّة بمشروع المقاتلة التركية محلية الصنع “تي أف أكس”.
وفي المقابل، يبدو منطقياً أن تعرض تركيا على أوكرانيا المشاركة في برنامج الفرقاطات المحلية الصنع “ميلجيم”، وتزويد البحرية الأوكرانية ببعضها، وخصوصاً أنَّ سلاح البحرية الأوكراني يعدّ من أضعف أسلحة البحرية في أوروبا، نظراً إلى تقادم معظم القطع البحرية العاملة به.
تراقب روسيا عن كثب هذه التطوّرات بطبيعة الحال، لكن كان لافتاً ردّ فعل موسكو على زيارة الرئيس الأوكراني إلى أنقرة مؤخراً، وتأكيده والرئيس التركي على أوكرانية شبه جزيرة القرم، إذ أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن مناورات عسكرية في بحر قزوين، شاركت فيها 6 قطع بحرية، و7 طائرات، ونحو 400 جندي.
هذه المناورات أتت بعد أيام من إسقاط الدفاعات الجوية الروسية 9 “درونز” قتالية تركية الصنع من نوع “بيرقدار”، اقتربت من أجواء القاعدة الروسية في باشينيان في أرمينيا، وقبل أسابيع من مناورات بحرية غير مسبوقة ستتمّ بين البحريتين الروسية والمصرية في البحر الأسود، في ما يبدو أنَّها رسائل روسيّة مفادها أنّ التوافق الثنائي الحالي بين موسكو وأنقرة في الملفّ السوري، لا يلغي الخلافات الأساسية في عدة ملفات، من ليبيا جنوباً، مروراً بشرق المتوسط، ووصولاً إلى ناغورنو كاراباخ.