التغيير الثوري في الاتجاهين/ أمريكا اللاتينية
– منير شفيق :
ظاهرة الانقلاب الثوري الذي أحدثه عدد من القادة اليساريين في أمريكا اللاتينية باتجاه المسيحية المنحازة للفقراء والبسطاء. وقد مثله كل من هوغو تشافيز وإيفو موراليس وهما على رأس دولتَيْ فنزويلا وبوليفيا على التتالي.
والظاهرة المقابلة الثورية في الاتجاه الآخر جاءت بداية، في أمريكا اللاتينية أيضاً، من جهة ما عُرِفَ بأنصار “لاهوت التحرير” مثلاً الأسقف ليوناردو بوف من البرازيل أو الأساقفة الذين أصبحوا وزراء في حكومة الساندنيستا اليسارية في نيكاراغوا، ثم جاء دور البابا الحالي فرانسوا (البابا رقم 266 بين الباباوات) وكان قبل ذلك رئيساً لأساقفة بوينس أيرس – الأرجنتين. وإذا به يطرح موضوعات منحازة للفقراء ومضادّة للرأسمالية الجشعة وقد أصبح من أشدّ مناصري البيئة ضدّ المسرفين والمبذرين في عالم الاستهلاك الرأسمالي العولمي.
حقاً إنه بابا من نمط جديد يختلف عن أسلافه القريبين ممن عَرِفَتهم الحرب الباردة وما بعدها حتى وصوله إلى أرفع موقع ديني في الكنيسة الكاثوليكية. ولكن سيبقى امتحانه الأكبر عندما سيتطرق إلى موضوع الكيان الصهيوني في فلسطين.
من هنا تكون أمريكا اللاتينية قد قدّمت انقلاباً ثورياً مهماً جداً باتجاهين أو على أرض توجهين تاريخيين: التوجه اليساري الماركسي التقليدي والتوجه الكنسي الكاثوليكي التقليدي. ولطالما دار بينهما من صراع وخصومات واتهامات.
بعد مجيء البابا الحالي بما مثله من رمزية في طرحه لمسيحية تمثل تجديداً ليس على مستوى الكنيسة الكاثوليكية فحسب وإنما أيضاً على مستوى الكنائس المسيحية بعامة، راح يقابله موقف له رمزيته على المستوى الشيوعي التقليدي فضلاً عن رمزيته بالنسبة إلى اليسار بعامة، ألا وهو راؤول كاسترو الرئيس والزعيم الشيوعي الكوبي بعد شقيقه فيدل كاسترو. فلأول مرة تصل الكاستروية الشيوعية إلى القول لما صرح به راؤول كاسترو بالبابا الذي لعب دوراً في الوساطة بين أمريكا وكوبا، بأنه سيحضر “كل القداديس الدينية التي سيقيمها البابا في زيارته لكوبا ليس بسبب البروتوكول وإنما بروح إيمانية”. وأضاف “إذا استمر البابا على سياسته الراهنة فسيعود راؤول إلى الإيمان، بصورة جدية”.
طبعاً سبق للحزب الشيوعي الإيطالي في الستينيات والسبعينيات أن طالب بعقد مصالحة تاريخية بين الحزب والكنيسة الكاثوليكية”. ولكنها صيحة جعلتها الأحزاب الشيوعية الشقيقة والبعيدة في واد غير وادها.
ولكن في الأسبوع نفسه لتصريحات راؤول كاسترو صدر عدد خاص لمجلة نيوزويك الأمريكية في 29/5/2015 تحت عنوان “القائد الشيوعي الروسي يقيم تحالفاً بين لينين والمسيح باعتبارهما رسولَيْ محبة. فكلاهما وفقاً لقول غينادي زوغانوف زعيم الحزب الشيوعي الروسي “سعيا لإنقاذ البشرية” برسالة “الحب والصداقة والأخوة”: وقد جاء ذلك بخطابه في ذكرى الـ145 لولادة لينين في شباط/فبراير الماضي، معلناً بأن “الاتحاد السوفياتي كان محاولة لتأسيس “مملكة الله على الأرض”.
طبعاً لا يصعب لمن قرأ تصريحي راؤول كاسترو وغينادي زوغانوف أن يتصوروا ماذا كان رد فعل لينين لو سمع بتصريحات راؤول كاسترو. فذاك الزمان غير هذا الزمان وتحديّات ذاك العهد غير تحديّات اليوم. فمن شاء فليعش في الزمن الماضي ومن شاء فليعش في الزمن الحالي.
المهم أن توضع الظاهرة الشيوعية الجديدة إلى جانب الظاهرة اليسارية التي تجتاح أمريكا اللاتينية اليوم. ثم أن يضاف إليها الظاهرة الشيوعية الصينية اليوم وعلاقتها بكل من ماو تسي تونغ وكونفوشيوس. الأمر الذي لا بدّ من أن يضرب حصاراً على الكثيرين من اليسار العربي عموماً ومن الشيوعيين بسبب استمرار مواقفهم القديمة التقليدية من الدين، وعلى التحديد من الإسلام. أولاً من الإسلام كدين وتراث تاريخي وحضاري لأمة العرب، وثانياً في الموقف اللاتمييزي، واللاتفريقي في ما بين مختلف الحركات والتيارات الإسلامية إذ يوضع الجميع في سلة واحدة انطلاقاً من مرجعيتها الإسلامية من حيث أتى وليس انطلاقاً من مواقفها السياسية وما تحمله من أفكار.
إن قراءة الإسلام بما يحتويه من عقيدة ونظريات تمسّ الحياة السياسية والاقتصادية والجهادية والإنسانية والمنهجية انطلاقاً من رؤية ماركسية – يسارية للدين باعتباره رجعياً متخلفاً من حيث أتى، وفي أحسن الحالات مع التحييد وعدم المصادمة، كما قراءة علاقة الإسلام بالتاريخ والحضارة العربيين انطلاقاً من تطبيق تبسيطي للمادية التاريخية وصرارع الطبقات تؤديان إلى ما يعكسه الكثيرون من اليساريين والشيوعيين إلى وضع كل التيارات والتوجهات الإسلامية في سلة واحدة، وبعضهم، في أحسن الحالات يستثنون حزب الله وإيران، مؤقتاً للضرورة، باعتبارهما مقاومة مع تناسي أنهما في مقدمة ما يُطلَق عليه الإسلام السياسي ومرجعيتهما إسلامية من منظورها الإثني عشرية أي الأكثر تحديداً من المرجعية الإسلامية بعامّة.
لهذا فإن الكثيرين من اليساريين والشيوعيين، وليس جميعهم، في البلاد العربية يعانون من حالة تخلف نظري وفكري وسياسي حين لا يتعاملون مع الإسلام كما يتعامل يساريو وشيوعيو أمريكا اللاتينية وحتى الحزب الشيوعي الروسي مع المسيحية، أو الحزب الشيوعي الصيني مع الكونفوشية، علماً أن في الإسلام من العناصر الثورية في الانحياز إلى الفقراء والمظلومين وضدّ الرأسمالية العالمية الاحتكارية الامبريالية كما ضد التبعية والنيوليبرالية مما في المسيحية والكونفوشية ناهيك عن العنصرية والصهيونية وقضايا البيئة ومسائل الإسراف والتبذير على أنواعها.