التنكر البيولوجي وخداع الخنافس الارهابية
أ.د.محمد أشرف البيومي :
أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميشجان سابقاً
جذب انتباهي مقال ذو أهمية خاصة في القسم العلمي الأسبوعي لصحيفة النيويورك تايمز يوم 21 يولية لكارل زيمر. تكمن أهمية المقال ليس فقط لجانبه العلمي المثير ولكن أيضا لكونه مثال صارخ للتحذير المعروف “اتق شر من أحسنت إليه” وللتشابه الكبير في مجال استخدام الشعارات الخادعة لقلب الأولويات بل وأحيانا تبني أهداف الأعداء وتخريب المجتمعات وتدمير الدول بأيدي مواطنيها.
من المعروف ان خلايا النمل منظمة بشكل كبير ويقسم العمل بين الجنود والشغيلة والملكة بشكل دقيق. وعندما تتعرض خلية نمل للهجوم من عدو يكتشفه بسرعة جنود النمل (الذين يمثلون جهاز الدفاع عن الخلية) فيقوم بمهاجمته وتمزيقه إربا بفكوكهم الكبيرة وتنقذ الخلية من الدمار. ولكن هناك “خنافس عش النمل” التي لها القدرة علي التسلل في الخلية بسهولة دون أن يتعرض لها جنود النمل. بل أن الأمر أكثر خطورة من ذلك فالخنفسة البالغة تدخل خلية النمل باحثة عن رفيق بسهولة وتضع بيضها الذي يفقس اليرقات في أمان تام. لاتتوقف الغرابة عند هذا الحد لأن شغيلة النمل تقوم بتغذية يرقات الخنفس وتوفير العناية كما لو كانو نمل. وعندما تنمو يرقات الخنفس، تحيطهم شغيلة النمل وتعتني بهم وتنظف أجسامهم. وعرفاناً بهذا الجميل وفي مقابل الضيافة الكريمة تقوم الخنافس البالغة بغرس فكوكها في يرقات النمل وشبابه وتمتص سوائل أجسادهم.
كيف تقوم الخنافس مصاصة النمل بحيلتها وخداعها؟ حاول الدكتور أندريا دي جوليو خبير في علم الحشرات بجامعة روما الإجابة علي هذا السؤال الذي حير العلماء عدة سنوات ونجح في فك اللغز واكتشاف الحيلة المدهشة التي تستخدمها خنافس النمل أو “دراكيولا” النمل. درس دي جوليو نوع من النمل يعيش في جبال أطلس بالمغرب العربي ووجد أن الحيلة تتركزفي محاكات النمل في تبادل الاشارات في مخاطباتها. هذه الاتصالات عبارة عن اصوات تطلقها باحتكاك ارجلها مع نتوئات في جسمها. وهكذا يقوم النمل من النوع الذي يقتطع اولراق النباتات باستدعاء الجنود للعودة للخلية وتقوم الملكة باستدعاء الشغيلة لخدمتها. وفي حالة خلية النمل التي تتعرض بخداع الخنافس يطلق الجنود والعمال والملكة أصوات مختلفة متميزة. والمدهش أن الخنافس التي تهاجم أعشاش النمل دون غيرها لها نتوءات في جسمها شبيهة بالنمل وتطلق ثلاثة اصوات مختلفة مثل النمل فتخدع النمل حتي تتلقي استضافته وعنايته. نشر البحث في دورية علمية متخصصةPLOS One لتفسير كيف تقوم الخنافس بالاندماج في خلايا النمل قبل القضاء علي الخلية. بالاضافة للخداع الصوتي هناك خداع كيمائي فهذا النوع من الخنافس له هوائيات كبيرة مكتظة بغدد تفرز مواد شبيهة بكيمائيات النمل. أثبت الدكتور دي جوليو هذا عن طريق تسجيل الأصوات التي تطلقها الخنافس أو النمل واستخدام ميكروفونات صغيرة واستجابة النمل لها.
يقول الدكتور دي جوليو “إن هذه طفيليات مميزة فهي لا تهاجم جسد واحد بل تسطو علي مجتمع بأكمله”
بعد عرض الدراسة العلمية انتقل الي مغزاها في المجال السياسي والعلاقات الاجتماعية فأتسائل ما هي المجموعات أوالتنظيمات أوالمؤسسات التي اغتصبت مجتمعات بأكملها وما هي الوسائل المخادعة التي استخدمتها؟ لا يحتاج المرء عناء التفكير فالاستعمار الاستيطاني سواء الصهيوني لفلسطين أو الأوروبي لأمريكا وأستراليا هو الخنفس اللئيم الذي دخل العش في البداية كحمل وديع، مظلوم، مضطهد وينعم باستضافة كريمة في البداية. فقام برد الجميل بالمذابح والتهجير والتدمير ثم اعاد الهجمة فطرد وتوسع في الاستيلاء علي الأرض والثقافة والحضارة. وهناك الاستعمار التقليدي والامبريالي فالأول سخر إمكانات بلد مثل مصر لخدمة جيوشه أثناء الحرب العالمية الثانية وفرض أولويات زراعية لتغذية جنوده والثاني بقواعده العسكرية المنتشرة في العالم العربي فهو يشن عدوانه علي دول المنطقة لتحقيق مآربه الاستغلالية
لكن رغم التشابه المثير بين البيولوجي والمجتمعي الانساني فهناك فروقات هامة. فالخداع والتواطؤ وإن استمر بالنسبة لقيادات وحكام و”مثقفين”عرب تابعين إلا ان غالبية الشعب العربي تري بوضوح ما حدث وتعي ما يحدث حتي الآن ولكنها لم تنظم نفسها من أجل مقاومة جادة وهناك الفئة المقاومة التي لم ينطلي عليها الخداع فحسب بل عمقت وعيها، تصدت للخنافس وأذنابها بمقاومة فعالة وصمود مستمر.
لا ننسي في الذكري الثالثة والستون ل23 يوليو 1952 مقولات عبد الناصر الخالدة عن أعداء الأمة العربية التي لا تقتصر علي أعداء الخارج، ممثلة في الاستعمار والصهيونية، بل تشمل أعداء الداخل الممثلة في الرجعية العربية ولعل رافدها الوهابي أوالإخواني أو الداعشي هو الأكثر خطورة. فهو يستخدم أصوات وشعارات إسلامية قريبة إلي نفوسنا تكون أكثر كفاءة في الخداع والتنكر. تحية للمقاومة الوطنية في الوطن العربي.