الثقافة والثورة الثقافية – جورج حدادين
الثقافة هوية المجتمع وخصوصيته التي تميزه عن غيرة، وهي البنية العامة للمجتمع التي تعكس العلاقات القائمة بداخله، ولا تقتصر، كما هو مغلوط وسائد، على الجانب الأدبي والفني والفلسفي والإبداعي والروحي والحقوقي، بل تتعداه لتشمل كافة مناحي الحياة الاجتماعية، بما فيها شكل الحكم ونمط الإنتاج، والممارسات: الاجتماعية والسياسية والروحية، والمواقف من الأحداث، والأشكال الابداعية. مكمن خطورتها يتمثل في قدرتها على بلورة الوعي الفردي والجمعي، وتشكيل الفكر التقدمي الإنساني أم السلفي الظلامي، وبناء الضمير الحي أم الميت، وإحداث التطور والرقي والأنسنة أم التخلف والتجهيل والاستغلال، في المحصلة كيف ولمصلحة من يتم استخدامه.
بحسب علم الاجتماع فإن الثقافة نشأت كمفهوم مع نشوء المجتمع الإنساني منذ القدم، وهي التي تعكس وتحدد هويتة، في كافة المجالات: حيث الثقافة المجتمعية، الثقافة الدينية، الثقافة السياسية، الثقافة الحقوقية…ألخ. وتشكل (الثقافة) مجس طبيعي يستشعر ضرورة التغيير الثوري أم الاصلاحي، حال دخول المجتمع / الدولة في أزمة حقيقية، وفي الوقت ذاته تشكل الثقافة الجديدة قاعدة الركيزة الأساس لإنطلاق مشروع التغيير، وعليه فأن الثورة الثقافية هي المقدمة والشرط الضروري لضمان نجاح عملية التغيير، حيث لا يمكن بناء مجتمع جديد بثقافة سلفية مفوته.
ما هدف ومهمة ومشروع الثورة الثقافية؟
الثورة الثقافية تعني إحداث تغيير جذري في الثقافة السائدة في المجتمعات التابعة وشبة المستعمرة، وتكمن مهمة الثورة الثقافية الرئيس في اجتثاث الافكار والقيم والعادات والتقاليد المفوته والمعطلة لتطور المجتمع، اجتثاث ثقافة المجاميع البدائية والفكر السلفي الظلامي المتخلف، واجتثاث ثقافة الاستهلاك و التبعية ، ثقافة ما قبل الدولة الحديثة، وبالمقابل تهدف الثورة الى بناء ثقافة وطنية حديثة وهوية وطنية جديدة، ووعي جمعي منتج، وتعميم ثقافة الإنتاج، وفتح الطريق أمام وعي أهمية قانون التراكم في بناء المجتمع الحديث، وأهمية وعي قوانين التطور العلمية وخصوصية السيرورة التاريخية لتطور البنى الاجتماعية – الاقتصادية لكل مجتمع بذاته ولذاته.
الثورة الثقافية مقدمة أساس وضرورة ملحة لتحقيق بيئة ملائمة لإنجاز مهمات مرحلة التحرر الاجتماعي – الاقتصادي، ولفتح الطريق أمام مشاركة واعية للشرائح الكادحة والمنتجة في بناء المجتمع الجديد المنتج والدولة الحديثة المنتجة والثقافة الجديدة.
في سياق هذه الثورة تتفتح الآفاق واسعةّ أمام الشرائح الكادحة والمنتجة للتقدم نحو المعرفة العلمية، ونحو التمتع بإنجازات الثقافة الجديدة والعلوم الإنسانية وعلوم الطبيعة والمنجزات المتسارعة للعلوم والمعرفة والتكنولوجيا، وإنفاذ سلطة المعرفة في المجتمع.
الثورة الثقافية تفتح الأبواب أمام بناء المثقف الواعي الكفوء، المثقف المنتمي، فمن الصعب ضمان بناء المجتمع الجديد الفاعل المنتج بدون تغيير البنية الثقافية للمجتمع ذاته، ومن الصعب ضمان تغير البنى الاقتصادية – الاجتماعية بدون تغيير البنى الثقافية، هذا لا يعنى بحال من الأحوال، إعادة طرح السؤال من يسبق الآخر؟ البنى الفوقية أم البنى التحتية، بل يؤكد متلازمة الترابط الجدلي بينهما، كما يوكد قانون الفعل الواعي، الثورة الثقافية ومتلازمة التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي.
هدف ومشروع ومهمة حركات التحرر الوطني انهاء كافة اشكال التبعية والاستعمار المباشر وغير المباشر والهيمنة الخارجية، وتحقيق الاستقلال الناجز للشعوب المستعمرة وشبه المستعمرة والتابعة.
وهدف ومشروع ومهمة التحرر الاجتماعي انهاء كافة اشكال الاستغلال والقهر والظلم القائم داخل المجتمع ذاته، ظلم وقهر واستغلال فئة صغيرة ( فئة ال 5% قوى التبعية: في الحكم وفي السوق وفي صفوف النخب) للأغلبية الساحقة، كافة الشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة، وفتح الآفاق أمام سيادة قيم انسانية نبيلة في المجتمع، ورفع شأن الإنسان وتأمين الحياة الكريمة له، وفسح المجال أمامه للتمتع بالمنجزات الجديدة على كافة الصعد: الثقافية والعلمية والصحية والترفيهية…الخ.
وبما أن الثورة الثقافية تشكل قاعدة الانطلاق الرئيس نحو ثورة التحرر الوطني – التحرر الاجتماعي، فلا مناص من بناء ثقافة ثورية بديلة تلبي شروط إنجاز مهمات متلازمة التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي، وتلبي شرط بناء الحامل الاجتماعي لهذا المشروع، أي أن الثقافة الجديدة يجب أن تعكس مصالح الشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة، صاحبة المصلحة الحقيقية في إحداث التغيير، الصراع الدائر اليوم وهنا بين ثقافة سائدة مأزومة ومهترئه وآسنة ومفرقة وثقافة وطنية تحررية جامعة، ثقافة الإنتاج والقيم الإنسانية النبيلة بديلاً عن ثقافة المجاميع الاستهلاكية الريعية البدائية.
كما ويجب أن تعكس الثقافة الجديدة مهمات المرحلة المتمثلة في:
كسر التبعية
تحرير الإرادة الوطنية
تحرير الثروات الطبيعية والمقدرات الوطنية
إنفاذ التنمية المتمحورة حول الذات الوطنية
تحقيق بناء دولة الأمة
وبالتالي فأن مضمون الثقافة الجديدة يتحدد في شروط المهمات المطروحة على جدول أعمال النضال الوطني، وبالاستناد إلى الموروث الحضاري التاريخي لهذه الأمة، بما يعني خصوصية هذه الثقافة الجديدة.
من يستخف بالثورة الثقافية عاجز عن إحداث التغيير الفعلى على أرض الواقع، وسيبقى يدور في الحلقة المفرغة ذاتها: حراك سكون حراك سكون ، غير منتج.
ومن يستخف بخصائص الثورة الثقافية عاجز عن إحداث التغيير.