الجزائر تعلنها حرباً سياسيّة شاملة على “إسرائيل” في أفريقيا – حسام عبد الكريم
إن العلاقات المغربية – “الإسرائيلية” المتنامية هي أحد أسباب هذا النشاط الجزائري على الصعيد الأفريقي، فالجزائر تعتبر أنَّ “إسرائيل” لم تعد فقط خطراً قومياً على الأمة العربية ككل.
يوم 16 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، أعلن المجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي قراره بتأجيل الحسم في قبول أو رفض منح “إسرائيل” صفة مراقب إلى القمة المقبلة للاتحاد المقررة في شباط/فبراير 2022.
يأتي هذا القرار تتويجاً لمجهودٍ كبير بذلته الجزائر سياسياً ودبلوماسياً على مدى 3 أشهر في أوساط دول القارة الأفريقية لمواجهة ومعارضة القرار المفاجئ الذي اتخذه رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، بقبول طلب “إسرائيل” الانضمام إلى الاتحاد الأفريقي بصفة عضو مراقب، وما تبع ذلك من تقديم السفير “الإسرائيلي” لدى إثيوبيا (دولة المقر) أوراق اعتماده للاتحاد الأفريقي في 22 تموز/يونيو الماضي.
ومنذ اليوم الأول لقرار موسى فكي محمد، وهو رئيس وزراء تشادي سابق وُلد في لندن ودرس في فرنسا، حصل في الجزائر ما يشبه حالة طوارئ واستنفاراً، واتُخذ قرار على أعلى المستويات فيها بشنِّ هجوم دبلوماسي شامل، وباستخدام كل إمكانيات الجزائر السياسية وثقلها، لمواجهة القرار المنفرد الذي اتخذه رئيس المفوضية الأفريقية.
وأعلنت وزارة الخارجية الجزائرية رفضها التام لقبول “إسرائيل” في صفوف الاتحاد الأفريقي، وقالت إنَّ رئيس المفوضية لم يقم باستشارة الدول الأعضاء بهذا الشأن. وبدأت الجزائر التحرك، فنجحت في إقناع 6 دول عربية أفريقية (ليس من بينها المغرب والسودان المنخرطان في مسار تطبيعي)، هي تونس ومصر وموريتانيا وجيبوتي وليبيا وجزر القمر، بإعلان معارضتها قرار رئيس المفوضية في بيان يوم 3 آب/أغسطس الماضي.
وسرعان ما شعر موسى فكي بأنه صار مستهدفاً شخصياً من طرف الدبلوماسية الجزائرية الضاغطة، ممثلة بشخص الوزير رمطان لعمامرة، فقام بإصدار بيان رسمي يوم 6 آب/أغسطس، رد فيه على الجزائر، وأكد أن قيامه باعتماد “إسرائيل” عضواً مراقباً هو من صلب صلاحياته.
لم تتوقف الحملة الجزائرية ضد “إسرائيل” في أفريقيا (وتعاونت معها دولة جنوب أفريقيا التي تحفظت عن قرار فكي منذ اليوم الأول)، ونجحت في إقناع السودان بالانضمام إلى الدول المعارضة لقرار فكي في بيان أصدرته الخارجية السودانية يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وفي اليوم التالي، نجحت بقيادة مجموعة من 24 دولة أفريقية أعلنت اعتراضها أيضاً، ما دفع المجلس التنفيذي أخيراً إلى اتخاذ قرار تأجيل الحسم بشأن قبول عضوية “إسرائيل” إلى حين انعقاد القمة المقبلة، وهذا انتصار مهم للدبلوماسية الجزائرية، لأنه يعني بشكل شبه مؤكد إفشال مشروع انضمام “إسرائيل”، إذ إن إقرار ذلك في القمة الأفريقية مع المعارضة الجزائرية القوية يكاد يكون مستحيلاً.
هذا النّشاط والفعالية الجزائرية يعود في جزء منه إلى الرغبة في التعويض عن سنواتٍ من التراخي تميزت بها الدبلوماسية الجزائرية أثناء حكم الرئيس السابق المريض عبد العزيز بوتفليقة، ما سمح لـ”إسرائيل” بالنفاذ إلى أوساط أفريقية لم تكن قد وصلت إليها من قبل، فكثف بنيامين نتنياهو الاتصالات مع دول غرب أفريقيا وجنوب الصحراء في العام 2016، واستضاف مؤتمراً زراعياً في “إسرائيل”، شاركت فيه 15 دولة آنذاك، وقام بعدة زيارات إلى دول المنطقة إلى الحد الذي دفعه إلى القول، أثناء زيارته إلى ليبيريا، زاهياً: “(إسرائيل) تعود بقوة إلى أفريقيا!”. وقد نجحت “إسرائيل” في إقامة علاقات دبلوماسية مع عدد قياسي من دول أفريقيا، وصل إلى 46 بلداً (من أصل 55 عضواً في الاتحاد الأفريقي).
من ناحية تاريخية، إن المرحوم جمال عبد الناصر تولى في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مكافحة التغلغل “الإسرائيلي” في قارة أفريقيا، واستغلّ ثقل مصر آنذاك وعلاقاتها مع قوى التحرر الوطني في القارة، ليحاصر الوجود “الإسرائيلي” فيها، ويجعله في حدودٍ دنيا (من أهمها مع نظام الأبارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا).
وفي أعقاب حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، لم يبقَ لدى “إسرائيل” علاقات دبلوماسية إلا مع 4 دول أفريقية، ولكنّ الانقلاب الساداتي في مصر ومعاهدة “كامب ديفيد” فتحا لـ”إسرائيل” الأبواب الأفريقية مرة أخرى. انتقلت راية مكافحة التمدد “الإسرائيلي” في أفريقيا بعدها إلى العقيد القذافي في ليبيا، الذي أولى دول القارة اهتماماً كبيراً، ونسج شبكة علاقات وثيقة معها، وقدم لها دعماً مالياً كبيراً، وساهم إلى حد كبير في إبقاء معظم دول أفريقيا، وخصوصاً غربها ودول جنوب الصحراء، خارج النفوذ “الإسرائيلي”، إلى حين مقتله في العام 2011.
إن العلاقات المغربية – “الإسرائيلية” المتنامية هي أحد أسباب هذا النشاط الجزائري على الصعيد الأفريقي، فالجزائر تعتبر أنَّ “إسرائيل” لم تعد فقط خطراً قومياً على الأمة العربية ككل، بل تعدت ذلك، وصارت خطراً مباشراً عليها، وباتت تهددها على حدودها.
وعندما توّجت “إسرائيل” والمغرب عقوداً من علاقاتهما غير الرسمية بإعلان إقامة علاقات دبلوماسية كاملة في كانون الأول/ديسمبر 2020، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون: “نلاحظ نوعاً من الهرولة نحو التطبيع. لن نشارك فيها، ولا نباركها. القضية الفلسطينية عندنا في الجزائر تبقى قضية مقدسة، وهي أم القضايا”، وتبعه رئيس وزرائه عبد العزيز جراد بتصريح قويّ قال فيه “إن الجزائر مستهدفة”، وإن هناك إرادة أجنبية بوصول الصهيونية إلى حدودها، أي أن الطبقة القيادية في الجزائر صارت تعتبر علاقات “إسرائيل” ونشاطها في المغرب المجاور خطراً مباشراً أمنياً واستراتيجياً، ما سبب توتراً شديداً في النظرة الجزائرية إلى النظام المغربي.
ونشرت صحيفة “الشروق” الجزائرية مقالاً بعنوان “لهذه الأسباب يستهدف الكيان الصهيوني الجزائر”. وزادت الطين بلّة المعلومات الاستخباراتية التي أفادت بأنَّ “إسرائيل” ساعدت المغرب على إقامة قاعدة عسكرية قريبة من الحدود الجزائرية. وتجاوزت الأمور خطوطها الحمراء حين شعرت الجزائر بأنَّ “إسرائيل”، ومن خلال المغرب، تحاول أن تعبث بالشأن الداخلي الجزائري.
ومؤخراً، أعلن التلفزيون الجزائري أنَّ حركة “الماك” الانفصالية على علاقة بـ”إسرائيل” والمغرب، وأن المتورطين معها كانوا على اتصال مع جهات “إسرائيلية” تحت غطاء “مؤسسات مجتمع مدني”. وفي النهاية، كان القرار الجزائري بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في شهر آب/أغسطس الماضي.
بدورها، ردّت “إسرائيل” على الجزائر، واتهمتها بأنها جزء من محور يضم إيران، وعبّر وزير خارجيتها مائير لابيد من الرباط عن هواجس “إزاء الدور الذي تؤديه الجزائر في المنطقة، وتقاربها مع إيران، والحملة التي قادتها ضد قبول “إسرائيل” عضواً مراقباً في الاتحاد الأفريقي”.
إنّنا نشهد اليوم نهوضاً جزائرياً كبيراً لمكافحة الامتداد الصهيوني في أفريقيا وإحباطه. هذا الأمر ليس مستغرباً على البلد ذي التاريخ المجيد في الثورة ومقاومة الاستعمار، والذي ارتبط منذ أيام ثورته الكبرى قبل 60 عاماً بفلسطين وثورتها وقضيتها، واعتبرها توأم روحه وكفاحه، وما زال على الموقف ذاته.