الحرب الأهليّة الأميركيّة والحرب الأهليّة اللبنانيّة: مقارنة – أسعد أبو خليل
دراسة الحروب الأهليّة والمقارنة بينها اتجاه أكاديمي ازدهرَ في علم السياسة المقارنة منذ التسعينيّات. هناك نزعتان في صفوف دارسي الحروب الأهليّة: المدرسة الوضعيّة التي ترى أن هناك معايير اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة يمكن رصفها من أجل عقد المقارنات بين حالات مختلفة من الحروب الأهليّة. قد يكون أوّل مُعين في هذه المدرسة أستاذي المُشرف في جامعة جورجتاون، مايكل هدسون، إذ نشر مع أستاذه في جامعة ييل في عام ١٩٧٢ «الدليل العالمي للمؤشرات السياسيّة والاجتماعيّة». هذه المدرسة تؤمن بأن السياسة علمٌ من العلوم ويمكن الاعتماد على المؤشرات والأرقام من أجل عقد المقارنات وتقديم نبوءات. المدرسة الثانية، وهي في غالبها أنثروبولوجية، ترفض المزاعم العلميّة للدراسات السياسيّة ولا تؤمن بإمكانيّة وضع دراسة «كميّة» عن الحروب الأهليّة، وتفضّل — لا بل تحصر دراساتها في — الاهتمام بالحالات، أي دراسة كل حرب أهليّة في سياقها. (راجع كتاب بول ريتشارد، «لا سلام، لا حرب: أنثروبولوجيا النزاعات المسلّحة المعاصرة»). المدرسة الأنثروبولوجية ترى فرادة في كلّ حرب أهليّة وإن دراستها على حدة أنفع في فهم أسباب ونتائج الحرب.
لكن الدراسات المقارنة عن الحروب الأهليّة تنفع في استخلاص العبر والمقارنة بين خواص ونتائج الحروب. آن هيروناكا مثلاً في كتابها «الحروب التي لا تنتهي»، لاحظت أن آماد الحروب الأهليّة زادت بصورة ملحوظة بعد الحرب العالميّة الثانية. وهذا يعود لنشوء الحرب الباردة وتشكّل كتلتيْن عمدتا إلى الاستفادة من الصراعات والنزاعات حول العالم، ما أشعلَ وأجّج حروباً أهليّة عبر تحويلها إلى «حروب بالواسطة». والحروب الأهليّة تختلف في اختلاف عدد الأطراف وفي المُسبّبات والعناصر والأبعاد، كما تختلف في نسق أهداف المتصارعين.
لم تحظَ الحرب الأهليّة الأميركيّة باهتمام الدراسات العربيّة كما أن الحكومة الأميركيّة التي موّلت ترجمة كتب أميركيّة عن البلاد إلى العربيّة (تذكرون مؤسّسة «فرانكلين» وكتبها بالعربيّة؟) لم تبدِ اهتماماً بتوفير كتب بالعربيّة عن الحرب لقرّاء العالم العربي، لأن الحرب ومجرياتها تتناقض مع الدعاية التي تلصقها أميركا بنفسها، عن سموّ وترفّع وديموقراطيّة ومساواة وحريّة (أميركا مثلاً موّلت ترجمة كتاب ألكسيس دو توكفيل، «الديموقراطيّة في أميركا»).
لكن ما هي أوجه الشبه في حربيْن أهليّتيْن بين بلديْن لا يتشابهان. والمفارقة أن كليهما وقعَ في نظاميْن اتّصفا بالديموقراطيّة، ووجودها، حسب الدراسات (راجع كتاب إدوار نيومان، «فهم الحروب الأهليّة: الاستمرار والتغيير في النزاع داخل الدولة»، ص. ٢٥)، يُقلّل من احتمال إصابة المجتمعات بالحروب الأهليّة. فلبنان كان يُعتبر أكثر النظم تقدّماً في الديموقراطيّة في العالم العربي، فيما كانت أميركا تعتبر نفسها — في كل لحظة تاريخيّة— أكثر النظم الديموقراطيّة تقدّماً. لكن تتشابه الحربان في الوحشيّة. لقد خسر لبنان في حربه الأهليّة نحو ١٣٠ ألف ضحيّة (ليس هناك من تعدادات دقيقة)، فيما خسرت أميركا أكثر من ٦٠٠،٠٠٠ ضحيّة (سقط في بعض المعارك نحو ٧٠٠٠ قتيل)، لكن في مدّة أقصر من الحرب اللبنانيّة. أي أن أميركا خسرت في تلك الحرب الأهليّة أكثر مما خسرت في كلّ حروبها الخارجيّة مجتمعة (حتى في الحرب العالميّة الثانية، خسرت أميركا نحو ٤١٨ ألف جندي — قارن ذلك بنحو ٢٤ مليون ضحيّة للاتحاد السوفياتي، بين مدنيّ وعسكريّ، ومع ذلك تنسب أميركا فضل هزيمة النازيّة لنفسها، كما هي الآن تنسب هزيمة «داعش» للألفيْ جندي أميركي في سوريا وللخمسة آلاف جندي في العراق). وحشيّة الحروب الأهليّة تعود لتَقارب مواقع المتقاتلين ولشدّة حدّة الصراع وأهميّة حسم نتائجها لكلا طرفيْ — أو أطراف — النزاع. ولو احتسبنا عدد سكّان أميركا في حقبة الحرب الأهليّة (نحو ٣١ مليوناً) مع مدّة الحرب، تدرك وحشيّتها.
اختلفت مدّة الحرب الأهليّة في لبنان (١٥ سنة) وأميركا (نحو ٤ سنوات). واختلاف مدة الحرب في الحالتيْن سببه أنّ الحرب اللبنانيّة شهدت تدخلات خارجيّة متعدّدة ومتشعّبة (ومُتغيِّرة على مرّ السنوات، مثل أن «منظمة التحرير» والنظاميْن العراقي والسوري، بدّلا وجهة تحالفاتهما فيها عبر السنوات)، فيما بقيت الحرب الأهليّة الأميركيّة نزاعاً داخليّاً. وقد حاول الطرف الجنوبي الكونفدرالي جرّ الدول الأوروبيّة إليه لكنّه فشل في ذلك، كما أن ديبلوماسيّة أبراهام لينكولن نجحت في تحييد التدخّلات الأوروبيّة (مثلما أمر بالإفراج عن ديبلوماسيّيْن من الدولة الجنوبيّة في عام ١٨٦١ كانا على متن سفينة بريطانيّة، تحاشياً لغضبة بريطانيا— فيما عُرف بـ«قضيّة ترِنت»). حاولت الدولة الجنوبيّة الكونفدراليّة أن تجذب بريطانيا إليها، عبر وقف شحنات القطن إلى بريطانيا، لكن الأخيرة عوّضت عن ذلك عبر زيادة الإنتاج في الهند ومصر. انقسم الرأي العام البريطاني حول الحرب: كانت هناك بورجوازيّة بريطانيّة تريد تأييد الجنوب، فيما وقفت الطبقة العاملة البريطانيّة إلى جانب الجهوريّة الاتحاديّة في الشمال. وكان كارل ماركس وأنجلز (اللذان كتبا عن الحرب الأهليّة الأميركيّة في جريدة «نيويورك تربيون») من مناصري الشمال بقوّة، إذ كان الحزب الجمهوري آنذاك يضمّ في صفوفه عتاة الساعين إلى إعتاق العبيد، بالإضافة إلى ناشطين جذريّين. حافظت بريطانيا على الحياد في الحرب، مع أن ٩٠٪ من تجارة الجنوب كانت مع بريطانيا. فرنسا كانت أكثر تعاطفاً مع الجنوب لكن حربها في المكسيك شغلتها في تلك الفترة.
أما في لبنان، فحربه حوَت، أو عكست، ليس فقط الحرب الباردة بل الحروب العربيّة الباردة والساخنة: إذ بالإضافة إلى استخدام ساحته من قِبل المعسكريْن الأميركي والسوفياتي (كالعادة، كان التدخل السوفياتي خجولاً مقارنة بالتدخّل الأميركي)، كانت كل الصراعات العربيّة والإقليميّة تنفجر فيه: الصراع السعودي-الليبي، والسوري-العراقي، والأردني-السوري، والسعودي-العراقي، والعربي-الإسرائيلي، والسوري-العرفاتي، والفلسطيني-الأردني، والسعودي-اليمني، والجزائري-السعودي، والإثيوبي-الإريتري، والإيراني (الشاهنشاهي)-العراقي، والإيراني (الإسلامي)-السعودي، والإيراني-الإسرائيلي، والمغربي-الصحراوي، والكردي-العربي، والعماني-الظفاري، والمصري-السوري. إن حجم هذه التدخّلات وعددها ساهما في إطالة أمد الحرب الأهليّة، فيما أطالَ أمدها في الحالة الأميركيّة أداء الجنرال ماكليلان. إن إحجام وتردّد الجنرال ماكليلان، الذي كان ينجح في تشكيل الجيوش وإعدادها وتدريبها، أخّر أيضاً موعد إنهاء الحرب. كان الجنرال ماكليلان يقف عند حدود الصراع من دون التقدم، وهذا عزز من انتصارات الفريق الانفصالي الجنوبي في السنة الأولى من الحرب. تغيّرت وجهة الحرب بعد أن عزل لينكولن الجنرال ماكليلان واستبدله بالجنرال يوليسس غرانت، الذي لم يكن يعوزه إقدام أو جسارة عسكريّة.
خسرت أميركا في الحرب الأهليّة أكثر مما خسرت في كل حروبها الخارجيّة مجتمعة
الجانب الآخر في المقارنة هو في إصرار الفريق الشمالي على الحسم العسكري الفاصل والقاطع. لم يساعد ذلك في إنهاء الحرب بوتيرة أسرع من وتيرة أمد حرب لبنان فقط، لكنه قضى على إمكانيّة تكرار تجربة الحرب. لم يكن أبراهام لينكولن متساهلاً في التعامل مع الجنوب أثناء الحرب، لكن الشمال تساهل بعد انتهاء الحرب والقضاء على عصيان وانفصال الجنوب عندما أصدر الرئيس أندرو جونسون (الذي خلف لينكولن) عفواً عاماً (مع إعدامات هنا وهناك طالت نحو ٥٠٠ جندي). الإصرار على الحسم العسكري من جانب الشمال لم يكن فقط من أجل تحقيق النصر بل من أجل كسر شوكة النزعة الانفصاليّة مرّة واحدة وإلى الأبد. إن حملات الجنرال شيرمان العسكريّة، خصوصاً في ولايتيْ جورجيا وكارولينا الجنوبيّة، لم تكونا إلا عمليّات انتقام جماعي وجرائم حرب صاحبها حرق وإتلاف مزروعات وعمليّات نهب منظّمة. كان الشمال يرسل إشارة قويّة إلى الجنوب مفادها أن فكرة الانفصال لا يجب أن ترتبط بغير الإذلال والهزيمة. لكن من منظور الدولة الاتحاديّة، ماتت فكرة الانفصال (الجديّة) كليّاً بعد الهزيمة المنكرة في عام ١٨٦٥.
لنقارن حرب لبنان بحرب أميركا من ناحية فكرة الانفصال والوحدة، مقابل فكرة الحسم العسكري القاطع في الحرب. في الوحدة: كان فريق الحركة الوطنيّة حتى عام ١٩٨٢ يسعى جاهداً إلى وحدة لبنان في دولة مركزيّة ضد مشروع التقسيم الانعزالي. لكن فكرة الإصرار على الدولة الاتحاديّة المركزيّة تقلّصت بعد ١٩٨٢، خصوصاً أن رئيس الحركة الوطنيّة السابقة، وليد جنبلاط، عمل على إنشاء إدارة مدنيّة في الجبل. أما في المقلب الانعزالي، فيمكن تقسيم الحقبات في الحرب بين ١٩٧٥ وبين عام صعود الليكود في عام ١٩٧٧. كان المشروع الانعزالي في سنوات حزب العمل — إلى هذه الدرجة ارتبط مشروع «الجبهة اللبنانيّة» و«القوات اللبنانيّة» بدولة إسرائيل الراعية لهما —مشروعا تقسيميّاً. كان المسؤول في حزب «الوطنيّين الأحرار»، موسى برنس، ناقل فكرة الكانتونات السويسريّة إلى لبنان. والوثائق الأميركيّة التي أُفرج عنها عن تلك الفكرة، تؤكّد أن الانعزاليّين — كما اتّهمهم أعداؤهم في «الحركة الوطنيّة» والمقاومة الفلسطينيّة آنذاك — كانوا سعاة تقسيم للبنان. حلموا بإقامة وطن قومي مسيحي (بتعريفهم للمسيحيّة) من المرفأ إلى جسر المدفون. لكن صعود الليكود، خصوصاً بعد تبوّء أرييل شارون منصب وزير الدفاع في عام ١٩٨١، دغدغ مشاعر بشير الجميّل الذي عوَّلَ على دعم إسرائيلي قوي لوضع كلّ لبنان تحت النفوذ الإسرائيلي على أن يُنصَّب هو رئيساً صوريّاً للرئاسة. لم يكن رفع شعار ١٠٤٢٥ كلم مربّعاً إلّا المؤشّر الزمني على هذا التغيير في أهداف الفريق الانعزالي. لم يكن الشعار يعني إلا وضع كل لبنان تحت سيطرة جيش العدوّ.
فكرة الحسم العسكري كانت إذاً ثابتة لدى الفريق الانعزالي، وعند رعاته. فريق الحركة الوطنيّة بدّل رعاته، من النظام السوري، إلى المصري الساداتي والعراقي، ثم السوري بعد ١٩٧٧، وهلمّ جرا. وبالرغم من أن هناك في جيلي مثلي مَن لا يزال يضع الملامة على النظام السوري، لأنه منع الحسم العسكري في عام ١٩٧٦ عندما تدخّل لصالح الفريق الانعزالي، فإن موانع أخرى ساهمت أيضاً في إنجاح أهداف التدخّل السوري. لم يكن كمال جنبلاط يثبت في موقف في موضوع الحسم العسكري: ينادي به يوماً ويعارضه يوماً آخر، وكان يتراسل سرّاً — كما ابنه من بعده — مع بشير الجميّل. وحتى عندما أخبر الطرف السوري بنيّته حسم المعركة، فقد كان يرفض تجنيد «الحزب التقدمي الاشتراكي» والمساهمة في المعارك بقوّة (قبل حرب الجبل).
وكان كمال جنبلاط يريد هزيمة محدودة لشمعون في السعديّات، لكنه سخر من لجوء «التنظيم الشعبي الناصري» إلى استخدام زوارق صيد في البحر لقصف السعديّات: لم يكن الزعيم التقليدي ليرضى بإذلال زعيم تقليدي آخر. ولم يكن ياسر عرفات نفسه يريد الحسم العسكري، الذي كان فريق في «فتح» وفي قوى «جبهة الرفض» يريده. ياسر عرفات خشي على فكرة «نموذج التعايش اللبناني» — على كذبة هذا التعايش — لأن ذلك يؤثّر على فكرة الدولة العلمانيّة الواحدة في فلسطين. إن الحسم العسكري بعد ١٩٧٦ كان سيحدث حالة من الانهزام والإحباط الطائفي عند فريق كبير من المسيحيّين. لكن في المرحلة الأولى من الحرب، لو أن القوات المشتركة دفعت نحو المرفأ بعد هزيمة الانعزاليّين المنكرة في حرب الفنادق، كان يمكن لها أن تؤدّي إلى هزيمتهم. ولأن الحركة الوطنيّة كانت يومذاك غير طائفيّة في شعاراتها وقياداتها — إلى حدّ ما — فإن إمكانيّة تحقيق النصر من دون زعزعة التعايش كان يمكن أن يكون ممكناً.
الدرس الآخر من الحرب الأهليّة الأميركيّة ضرورة توفّر قيادات آمرة. كان أبراهام لينكولن الزعيم الأوحد للشمال، وبالرغم من وجود معارضة له حتى في داخل حزبه، فإن رئاسته لم تكن موضع نزاع أو اختلاف، خصوصاً بعد أن فاز بولاية ثانية. وكان لينكولن يفوّض جنرالاً (ماكليلان، ثم غرانت) القيادة العسكريّة العليا، ولم تكن هناك اعتراضات حتى عندما يصبح الرئيس مرؤوساً في التراتبية العسكريّة. وفي المقلب الآخر، بقيَ الجنرال الفذّ، روبرت إي لي، القائد العسكري الأوحد المُطاع في الجنوب، وبقي جيفرسون ديفيس، رئيس الكونفدراليّة الجنوبيّة حتى الاستسلام في عام ١٨٦٥. في لبنان، كان هناك تعدّد قيادات عسكريّة في الطرف الانعزالي، لكن بشير الجميّل أصبح القائد الأوحد خصوصاً بعد تشكيل «القوّات اللبنانيّة» في ١٩٧٦ (وبعد مقتل ويليام حاوي في مجزرة تل الزعتر). لم يكن هناك من رادع أخلاقي أو عسكري مهني عند الجميّل كي يمتنع عن قتل الخصوم والحلفاء على حدّ سواء، وقتل أطفالهم وزوجاتهم. في الجانب الآخر، كان هناك تعدّد قيادات سياسية وعسكرية. صحيح أن كمال جنبلاط كان الزعيم الأكثر نفوذاً في المنطقة الغربيّة لكنه كان يتنافس أيضاً مع نفوذ النظام السوري ومع قيادة ياسر عرفات. وبعد اغتيال جنبلاط تشتّتت القيادة في المنطقة الغربية وتحولت إلى قيادة أحياء وأزقّة بالرغم من تمتع ياسر عرفات بنفوذ كبير. هذا أيضاً مطّ في أجل الحرب.
حسم الصراع وكسر شوكة الفريق الانفصالي التقسيمي كان يمكن له أن يوفّر سنوات من الحرب
تقاتل الجانبان في الحرب الأميركيّة بإيمان ديني راسخ بأن الله يساندهما في موقفهما حتى أن كتاباً جديداً صدر مؤخرًا لإليزابيث فارون (عنوانه «جيوش الخلاص») وفيه تحاجج المؤلفة أن الحرب كانت مسيحيّة خلاصية عند الطرفيْن. وكان أبراهام لينكولن يقول إن طرفي الحرب مؤمنان أن الله في صفّهما لكنه كان يضيف متهكّماً أنه لا يمكن أن يكون الله مع الفريقيْن. الإيمان بالحق الإلهي يزيد من العزيمة في استمرار الحرب ويزيد من القدرة على القتال المرير.
في لبنان بدأت الحرب بوجود فريقين متنافرين في العقائد والنزعة الدينية، لكن فريقاً واحداً آمن أن قضيّته ربّانيّة دينيّة: رفض البطريرك خريش تقديم رعاية (ومال) البطريركيّة لقضيّة الانعزاليّين، لكن الرهبانيّات المارونيّة احتضنت القضيّة وأسبغت شرعيّة دينيّة على جرائم فظيعة ارتُكبت، وقدّمت أديرتها وأراضيها لتخزين السلاح وتدريب المقاتلين (شربل قسّيس كان في فلسطين المحتلّة يوم اندلاع الحرب). الحركة الوطنيّة لم تكن تقدّم أي مشروع أو تسويغ ديني في حرب ١٩٧٥-٧٦ والأحزاب الدينيّة الطائفيّة (مثل «جند الله» أو «حركة أمل» أو «قوات حسين الانتحاريّة») كانت هامشيّة في تلك المرحلة. بعد انفراط عقد الحركة الوطنيّة في ١٩٨٢، برزت الأحزاب الدينيّة والعقائديّة، وحزب الله مثّلَ الحركة السياسيّة التي تعتمد — كما الفريق الانعزالي المقابل — على إلهام وتسويغ ديني لأعماله.
في أسباب الحرب
لكن ما هي أسباب الحرب في كلا الحالتيْن؟ هنا لا تجد إجماعاً. الكليشيه المعروف (لأهل الشمال، والمُدرَّس في أرجاء البلاد في أميركا) أن الحرب كانت من أجل تحرير العبيد. حتى ماركس انساق وراء هذا الكليشيه المُخادِع. في الحقيقة لم تكن من أجل العبيد. ولينكولن نفسه لم يؤمن بالمساواة بين البشر وكان حلّه المُفضّل هو في ترحيل السود إلى غرب أفريقيا. وفي غمرة الحرب، خاف الشمال في البداية من تسليح السود، كما أن لينكولن أمر بإعادة السود الذين رحلوا إلى الشمال أملاً بالحريّة إلى الجنوب، حيث مُستعبديهم. وفي عام ١٨٦٣ جرت «بوغرومات» (جرائم قتل) في مدينة نيويورك من قبل عمّال بيض لأنهم خافوا من منافسة السود ضدّهم (لا تُعرف تلك القلاقل بعنصريّتها بل تسمّيها كتب التاريخ بـ «أعمال شغب التجنيد»، لأن العمّال كانوا يعترضون على التجنيد الإجباري الذي أُعفيَ منه الأثرياء). قُتلَ نحو ١٢٠ شخصاً، معظمهم من السود—في الشمال.
الصراع في تلك الحرب كان حول الاقتصاد (كان الشمال ضد التجارة الحرّة)، وحول تشديد قبضة السلطة المركزيّة وحول مفهوم الولاية: قبل الحرب الأهليّة كانت عبارة «الولايات المتحدة» تستعمل هنا بصيغة الجمع، فقط بعد الحرب أصبحت بصيغة المفرد.
وتجربة الحرب في أميركا تظهر أن لا تجارب لخوض الحروب مع وجود حريّات. علّق لينكولن أحكام الدستور المتعلّقة بالحريّات الفرديّة طيلة فترة الحرب، كما أن الحريّات في الجنوب كانت معدومة. في لبنان، سلطة بشير الجميّل فرضت حكماً فاشياً بوليسيّاً وكان جهاز الأمن (الإسرائيلي التدريب والإعداد) يطغى، أمّا في بيروت الغربيّة فسادت حتى ١٩٨٢ ديموقراطيّة سائبة سهّلت دخول واختراقات المخابرات العدوّة على أنواعها. كان على الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة فرض حكم أمني لمنع التسيّب الذي سمح بانتشار عصابات مشبوهة واختراقات أدّت إلى الكثير من حروب الشوارع وتفخيخ السيارات، كما خلقت أجواء مؤاتية لاجتياح إسرائيل في عام ١٩٨٢.
هناك اختلاف آخر بين حرب لبنان وحرب أميركا. الحرب الأهليّة الأميركيّة باتت تُعرف بحروب الجنرالات لأنها شهدت ولادة جنرالات طبعوا بنمط قيادتهم مسار الحرب. لا شك أن الجنرال الخاسر، روبرت إي لي (قائد القوّات الجنوبيّة) كان أهم قائد عسكري في الحرب لأنه أجّل لبضع سنوات يوم الهزيمة لشعبه (وكان ولاؤه لولاية فرجينيا يطغى على ولائه لدولة الجنوب، وكان هذا عاديّاً). في المقلب الآخر، يُحمل الجنرال ماكليلان المسؤوليّة عن تمديد أمد الحرب بسبب تردّده وإحجامه، فيما أصبح الجنرال غرانت القائد الأعلى في المرحلة الثانية من الحرب رئيساً للجمهوريّة فيما بعد. لم يبرز جنرالات حرب في الحرب الأهليّة اللبنانيّة لأن قادة العدوّ الاسرائيلي تولّوا القيادة بالنيابة عن الميليشيات الانعزاليّة في بيروت الشرقيّة، فيما تشتتت القيادات وتعدّدت في بيروت الغربيّة. قد يكون أبو الوليد (سعد صايل) من أهم جنرالات الحرب الأهليّة، وهو الذي نظّم قوات المقاومة الفلسطينيّة وأشرف على اختيار أنواع السلاح من دول المعسكر الاشتراكي (لكن يؤخَذ عليه أنه حوّل فصائل المقاومة العسكريّة إلى جيش نظامي وهذا أثبت فشله في ١٩٧٨ و١٩٨٢، حيث حرب العصابات تعتمد على نمط مقاومة حزب الله في ٢٠٠٦). يتشارك أبو الوليد، الذي يعود إليه فضل خطة الدفاع عن بيروت في حصار ١٩٨٢، مع جنرالات حرب أميركا أنه درس في كليّة «وست بوينت» (حيث تخرّج معظم جنرالات الحرب الأميركيّين في الشمال والجنوب) بعد أن تخرّج من كليّة «سندهرست» في بريطانيا.
مثال الحرب الأهليّة الأميركيّة له دلالات وعِبر للحرب الأهليّة اللبنانيّة، ولجولاتها المُقبلة — لو أتت. حسم الصراع وكسر شوكة الفريق الانفصالي التقسيمي كان يمكن له أن يوفّر سنوات من الحرب وآلاف من الضحايا في لبنان. هُزمَ الفريق الانعزالي في الحرب لكن ليس بصورة قاطعة ولم تُكسَر شكوته مما سمح له بخلق سرديّة خياليّة بعيدة كل البعد عن الواقع عن دوره ومواقفه في الحرب. الغريب أن جيلاً من اللبنانيّين من غير المطلعين صدّق ويصدّق هذه البطولات والأكاذيب. يمكن وأد الحرب الأهليّة في مهدها عندما يُهزم المشروع الفتنوي ويحاكم قادته أمام الناس. دون ذلك، مخاطر لتكرّر النزاعات والحروب.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)
الأخبار اللبنانية 29-6-2019