الحرب الرابعة على قطاع غزة – منير شفيق
قرار حكومة الحمد الله باقتطاع 30 بالمئة من رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في قطاع غزة ليس قراره، ولا قرار واضع ميزانية الحكومة، وإنما هو قرار محمود عباس الذي يصر، ويصر مؤيدوه، على أن يحمل اسم الرئيس الفلسطيني أي باعتباره رئيساً لكل الفلسطينيين بمن فيهم فلسطينيو قطاع غزة. وذلك بالرغم من نهاية ولايته القانونية وفق النظام الداخلي منذ سنوات وسنوات.
فالقرار المذكور ميّز بين موظفي السلطة في رام الله وموظفي السلطة في قطاع غزة تمييزاً فاضحاً يُخل بذلك الإصرار على اللقب العتيد “الرئيس الفلسطيني”. ولكن السؤال لماذا هذا التمييز؟ الجواب يبدأ في تصريح لمحمود عباس سابق للقرار، أو مُصاحب له، قال فيه أنه في صدد القيام بـ”خطوات غير مسبوقة” بشأن الانقسام. وفهم من إيحاءات الخطوات غير المسبوقة أنه سيدخل معركة لإنهاء الانقسام. كيف؟
أوضح مسؤول فلسطيني رفيع في رام الله لجريدة “الحياة” اللندنية-السعودية في 14 نيسان/إبريل 2017 “منذ عشر سنوات وحماس تحكم قطاع غزة بينما نموّل الصحة والتعليم والكهرباء والمياه والشؤون الاجتماعية وغيرها، وآن الأوان لأن تنتهي هذه المعادلة”. “لن نواصل تمويل انفصال حماس في قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية”. “إذا أرادت حماس حكم غزة، عليها تولي إدارة المستشفيات والصحة والتعليم والكهرباء والمياه وسننسحب كلياً، وإذا لم تكن قادرة على ذلك، عليها الانسحاب من الحكم وإتاحة الطريق أمام السلطة لإدارة القطاع وتوفير الخدمات والحياة الكريمة للمواطنين”.
لندع، جانباً ما في هذا التصريح من مبالغة بالنسبة إلى الحجم الذي حافظت عليه سلطة رام الله في تمويل الإدارات المذكورة في قطاع غزة خلال العشر سنوات الماضية. إذ لا حاجة إلى مناقشة تفاصيل ذلك لأن الذي حدث الآن باختصار، هو انقلاب محمود عباس على المعادلة التي سادت خلال العشر سنوات في معالجة ما اصطلح على تسميته “الانقسام” الفلسطيني. فمحمود عباس في هذا الانقلاب شنّ معركة الحسم بعيداً عن كل ما تمّ الاتفاق عليه في حوارات حماس/ فتح/ الفصائل منذ 2005 حتى الاجتماع التحضيري في بيروت لإعادة تشكيل المجلس الوطني. كما حتى الحوار الذي شهدته الدوحة حول المبادرة القطرية لحلّ ملف الموظفين. وقد قدمت منذ ثلاثة أشهر للدراسة من قِبَل فتح وحماس.
وللإمساك بجوهر هذا “الحسم”-“المعركة” فلنتأمل في ما نقل “للحياة” نفسها في 14 نيسان/إبريل 2017 حول اللجنة السداسية التي شُكلت من قِبَل محمود عباس لزيارة غزة: “لن تأتي إلى غزة على أرضية الحوار أو النقاش، بل لتقول لحماس: سلموا قطاع غزة كاملاً وإلاّ…”.
وجاء في المصدر نفسه عن عزام الأحمد حول الموضوع إياه بأنه عبّر عن أمله في “عدم الاضطرار لاتخاذ موقف يزيد الأمور تعقيداً”، وذلك في “أن يتم الذهاب لتشكيل حكومة وحدة تبسط سيطرتها الكاملة على قطاع غزة كما هي الحال في الضفة، بما يؤدي إلى إنهاء الانقسام”.
عند هذا الحد يمكن القول، بدرجة عالية من اليقينية أن الثلج قد ذاب وبان ما تحته. فمن لم يكن يعلم من قبل، فليعلم اليوم، أن إنهاء الإنقسام من وجهة نظر محمود عباس وقيادة فتح التي تتبعه كان، ولم يزل، يتلخص، في بسط حكومة رام الله سلطاتها الكاملة على قطاع غزة “كما هو الحال في الضفة” أي تُردَم وتُدمَّر الأنفاق، ويُسلم سلاح المقاومة الذي بيد كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس (الجهاد الإسلامي) وكل سلاح آخر لدى تشكيلات مقاومة مهما كان حجمها للأجهزة الأمنية الفلسطينية التي شكلها الجنرال كيث دايتون. هذا ولا يُستثنى ما عند كتائب الأقصى “فتح” والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية من سلاح في قطاع غزة كذلك.
يعني كل ما أنجزته المقاومة في قطاع غزة منذ حزيران 1967 حتى اليوم سوف يُسلم للجيش الصهيوني كما حدث في الضفة الغربية منذ الاتفاق الأمني لعام 2007. ناهيك عما حققته المقاومة في قطاع غزة وبصمود شعبي هائل وبتضحيات لا حدود لها من الشهداء والجرحى والدمار على مدى عشرات السنين ولا سيما في العشر سنوات الأخيرة، وما تحقق من انتصارات كبرى في ثلاث حروب نزلت فيها ثلاث هزائم عسكرية في الجيش الصهيوني…
كل ذلك قرر محمود عباس القضاء عليه وإنهاءه، بضربة واحدة، تبدأ بحصار التجويع بعد تصعيده الأخير تحت استراتيجية “الخطوات غير المسبوقة” و”إنهاء الانقسام من خلال بسط حكومة رام الله وأجهزتها الأمنية سيطرتهما الكاملة على قطاع غزة، كما هي الحال في الضفة”.
التغيير العسكري الاستراتيجي الذي أحدثته المقاومة عبر أنفاقها وسلاحها وقياداتها ومفاتليها وصمود الشعب في الصراع مع الكيان الصهيوني، يريد محمود عباس ضربه من خلال الانقلاب الذي أعلنه. وهو بطبيعة الحال التتويج الطبيعي لكل استراتيجيته وسياساته منذ استشهاد ياسر عرفات وتسلمه السلطة مكانه وعقده للاتفاق الأمني وما بُنِيَ على يد دايتون من أجهزة أمنية.
ولكن هذه القفزة ما كان لها أن تحدث الآن لولا الإنعطافة التي أحدثها دونالد ترامب الرئيس الأمريكي عبر توجهه لعقد مؤتمر إقليمي فلسطيني (محمود عباس) عربي (السيسي أولاً) – صهيوني – أمريكي لإنهاء القضية الفلسطينية بما يعتبره “الصفقة التاريخية”، أو ما سماه البعض بالمصالحة التاريخية العربية- الفلسطينية- الصهيونية.
هذا التوجه هو الذي أخرج محمود عباس من عزلته الأمريكية وتناقضه مع الرباعية العربية (مصر، الأردن، السعودية، الإمارات). وكان من أولى مطالبه أن يقدم رأس المقاومة وقطاع غزة ثمناً له.
على أن حساب محمود عباس هنا، ولنبدأ، فلسطينياً، سيُمنى بالعزلة والفشل فإذا ظن أنه يخوض معركة ضد حماس مستفرداً بها في قطاع غزة فهو على وهم ولم يحسب إرادة الشعب الفلسطيني. فالمقاومة في قطاع غزة ليست ملكاً لحماس وحدها فحسب وإنما أيضاً للجهاد وللشعبية والديمقراطية بل ولفتح الأصيلة، ولكل أبناء الشعب الفلسطيني.
وإن المعادلة الاستراتيجية العسكرية التي تمثلها المقاومة وقطاع غزة في مواجهة الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني لا تمثلها حماس وحدها وليست حماس وحدها الحريصة عليها أو الجهاد أو الفصائل مجتمعة أو الشعب الفلسطيني كله فحسب وإنما الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم (ودعك من القيادات الرسمية المتهافتة) سوف ترى في الاعتداء على المقاومة وغزة تحت ادعاء إنهاء الانقسام ما يشكل كارثة استراتيجية في صراع الأمة مع العدو الصهيوني.
ولهذا فإن الحرب العار التي يريد أن يشنها محمود عباس ضد المقاومة وقطاع غزة نيابة عن الكيان الصهيوني ومشروع ترامب لتصفية القضية الفلسطينية هي حرب قذرة وفاشلة لا محالة. وهي عار على كل من يشارك فيها أو يؤيدها. ولن تكون موازين القوى في مصلحتها.
وبالمناسبة إن ما تمتلكه المقاومة من أسلحة وقدرات قتالية إنما امتلكته لتوجهه إلى العدو الصهيوني، كما حدث في حروبه العدوانية الثلاث ومن ثم فهو أولى بها، دائماً، لتعود إليه: إذا ما بلغ السيل الزبى.
كلمة أخيرة إذا كان من العار أن يتخذ محمود عباس “خطواته غير المسبوقة” ضد المقاومة وقطاع غزة (الحرب الرابعة) فإن على الفصائل مجتمعة، بما في ذلك من تبقى في فتح من تاريخها ومنطلقاتها أن يسارعوا إلى إنقاذ الموقف ووقف هذا العار قبل فوات الأوان. ولا ساعة مندم بعدئذ.