الحرية والاستقرار – محمد سيف الدولة
كان أمام السلطات المصرية أو أى سلطة عربية طريقان لتجنب تكرار ما حدث لمبارك؛ الطريق الاول هو علاج الاسباب والمشكلات التى ادت الى تراكم كل هذا الغضب الشعبى والذى أدى فى النهاية الى ثورة يناير. اما الطريق الثانى فهو الاغلاق الكامل للمجال العام سياسيا وبرلمانيا وحصار المعارضة وتأميم الاعلام واسكات أى رأى آخر.
***
ومن الواضح ان القائمين على الحكم اليوم قد وقع اختيارهم على الطريق الثانى؛ فهم يرون، وفقا لعديد من المشاهدات والتحليلات ان “مبارك” قد ارتكب اخطاءً قاتلة هى التى مهدت وأدت فى النهاية الى الثورة عليه؛ وذلك حين سمح بهامش من الحريات للمعارضة السياسية، وحين اعطاهم حصة ولو صغيرة فى البرلمان، وحين سكت على حركات مثل كفاية والجمعية الوطنية للتغيير وغيرها، وحين فتح الصحف والقنوات الفضائية لاستضافة شخصيات معارضة، وحين سمح بمشاركة الاخوان فى الحياة السياسية البرلمانية والنقابية، وحين ترك نقابات مثل نقابة الصحفيين مفتوحة لشتى الفاعليات السياسية والفكرية…الخ.
ومن الواضح انهم قرروا أن كل هذا يجب أن يتوقف تماما، وان يتم اغلاق كل هذه المنافذ والمنابر بالضبة والمفتاح.
فلقد تم إطلاق حملة ممنهجة لإدانة ثورة يناير وتصفية مكتسباتها وعقاب ومطاردة كل من شارك فيها، وذلك رغم النص عليها فى دستور 2014.
مع احكام السيطرة على كل الملفات والمنافذ الهامة واحدا تلو الآخر؛ فبعد حظر التظاهر وفرض عقوبات شديدة القسوة على كل من يتظاهر، تم تكليف الاجهزة الامنية بإدارة ملف الانتخابات النيابية لتشكيل برلمان موالٍ بنسبة تزيد عن 90 %، ثم تنظيم الانتخابات الرئاسية بشكل تستحيل فيه المنافسة مع مرشح الدولة الوحيد. ثم القيام بتمديد الفترات الرئاسية الى أجل غير مسمى من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها بالطريقة المعتادة، ثم الهيمنة التامة على الاعلام بدءا بتكوين أذرعا اعلامية للسلطة وصولا الى تسليم كل الفضائيات المستقلة والحكومية الى الاجهزة السيادية لادارتها والتحكم فى محتواها. وهو ما حدث مثله ايضا مع الصحف المستقلة كالمصرى اليوم والشروق مما أدى الى منع أبرز وأهم كتاب الراى وأى أصوات معارضة أو حتى مستقلة.
***
ولأول مرة فى مصر، يتم اغلاق العمل العام والمشاركة السياسية والفكرية فى وجه الجميع من كافة التيارات؛ ففى سنوات حكم عبد الناصر، شارك الشيوعيون فى النصف الثانى من الستينات فى تجربة الاتحاد الاشتراكى بعد ان تم الافراج عنهم من المعتقلات. وفى عصر السادات تم تأسيس نظاما حزبيا مقيدا، ولكن فى ظله استطاعت المعارضة اليسارية والناصرية بالاضافة الى الاسلاميين، المشاركة فى الحياة السياسية سرا او علانية، مما مكنها رغم كل القيود، من خلق حياة سياسية فاعلة ونشيطة ومؤثرة دفعت السادات فى نهاية حكمه الى القيام باعتقالات سبتمبر الشهير ة التى شملت 1536 شخصية من مختلف التيارات.
وفى عصر مبارك على امتداد سنواته الثلاثين، كان هناك دائما وجود نشيط وفعال للتيارات السياسية المعارضة، استطاعت من خلاله ان تخوض معارك قوية ضد مبارك وحكومته ونظامه وسياسته، من خلال المنابر والمنصات الصحفية والاعلامية والبرلمانية والسياسية والنقابية والطلابية وغيرها، الى الدرجة التى مكنت المعارضة من التصدى بقوة وفاعلية مؤثرة لمشروع التوريث، وكل ذلك رغم ان سجونه لم تخلُ أبدا من سجناء الراى.
اما اليوم فغير مسموح بأى من ذلك لأى تيار أو حزب أو حتى شخصية معارضة.
***
كان هذا هو الطريق الذى اختارته السلطة الحالية لتتجنب، وفقا لتصوراتها وحساباتها ورهاناتها، ذات المصير الذى انتهت اليه سلطة مبارك، وهو ما يبدو لأول وهلة اختيارا ناجعا وفعالا، فلا يوجد على المستوى الداخلى اى منافسات او تهديدات فعلية من اى قوى او تيار سياسى، بحيث يبدو ان الأوضاع مستقرة والامور قد استتبت الى ما شاء الله.
· ولكن السؤال هنا هو: كم من السنوات يمكن ان تتحمل اى دولة كل هذا الاحتقان؟ وكل هذا الرفض والطعن والتشكيك والهجوم من قطاعات عريضة من المعارضة السياسية المحاصرة والمحرومة من اى مشاركة فكرية أو سياسية؟
· وهل يمكن لاى سلطة مهما بلغت قوة قبضتها الحديدية، مواجهة كل ما تتعرض له مصر والمنطقة من مخاطر خارجية واختلال هائل فى موازين القوى الدولية والاقليمية، بدون سند وظهير شعبى وسياسى داخلى، ظهير حقيقى وليس على شاكلة الحزب الوطنى والمواطنين الشرفاء؟
· فتجاربنا وتجارب كثير من الدول فى العقود الماضية كشفت الى أى حد يمكن أن تمثل الشعوب حائط صد شديد المراس فى مواجهة اطماع القوى الاستعمارية وضغوطها التى لا تتوقف من حصار وعقوبات ومحاولات للترويض والاخضاع، أو من اعتداءات عسكرية ومشروعات للغزو والاحتلال.
*****
القاهرة فى 8 فبراير 2022