الحكاية الرشادية تحليل بنيوي لشهريار يرحل بعيدًا لرشاد أبو شاور -د. أفنان القاسم
أولاُ) ليس هناك سرد شهرزادي كما تعودنا عليه في ألف ليلة وليلة، هناك سرد رشادي عن بطلين من أبطالها شهرزاد وشهريار وابنيهما، وهناك سارد شهرياري شهريار لا شهرزاد، كذلك هناك محور ثيمي يدور حوله السرد الرحيل. مستويات الرحيل الثلاثة هي في نفس الوقت أسبابه، المستوى الأول هو توقف شهرزاد عن سردها السحري وما يتبعه من مشاركة الملك في فراشه، فينام في حضنها كأنه طفلها، وبدلاً من الاهتمام به والاعتناء، تعتني بطفليهما وتهتم. إنه المستوى الوظيفي للسرد وقد تبدلت فيه الوظيفة، فلم تعد لاستمتاع شهريار وإمتاعه، الوظيفة هنا للتمهيد للتخلي عن الحكم لصالح ابني شهريار لمطالب الحكم عليه ومستجدات الزمن. المستوى الثاني هو مستوى الحدث، شهرزاد مع طفليها تنام، وشهريار مع هجرها إياه. المستوى الثالث هو مستوى السرد في تفاصيله التي تدور حول “الكيف” و “المتى” و “اللماذا” ليكون التبرير للرحيل.
ثانيًا) الوظيفة هي وحدة من وحدات المضمون الذي يتشكل من وحدات سردية تدور حول خواص الشخصيات الثلاث الرئيسية، شهريار وشهرزاد وطفليهما (الطفلان شخصية واحدة)، وصف لحالته كيف كانت هنيّة وكيف صارت شقيّة، وصف لجمال شهرزاد وسلوكها العشقي معه كيف كانا له الأكثر روعة وكيف صارا له الأكثر روعًا، وصف للابنين الوادعين الضامنين لدوام الحكم كيف كانا ينتظران أمهما وكيف صار هو ينتظرها. لتحوي الأوصاف إشارات دلالية تتعلق بالشخصيات بأدوارها بأجوائها، ولتكون الوظيفة وظيفة دالة، على الحدث، الذي هو الرحيل، أن يدور، أن يجري، وأن يتم، فشهريار يُعِدُّ صُرَّته ويختفي تاركًا عرشه.
ثالثًا) الحدث الحداثي في النص الرشادي هو تطوير للحدث الأرسطوطالي في النص الشهرزادي، فالشخصية كمفهوم لم تعد تخضع للحدث، كما هي في ألف ليلة وليلة، الشخصية كمفهوم تخضع للشخصية المتمثلة بشهريار من لحم ودم و… مشاعر، إنها جوهر نفسي، وشكل وصفي لهذا الجوهر دونه لا يكون الحدث، إنها الشخصية لا الشخص، إنها الشخصية كشكل تاريخي. لهذا يعبر شهريار في تمثيله الرشادي عما يفترض أن يجري في مملكات وجمهوريات العرب في وضع “طبيعي” للحكم، فتكون الشخصيات الثلاث شخصيات مشاركة بالمفهوم البنيوي، “اشتراكية” بالمفهوم السياسي، لكل منها أحداثها الخاصة بها، حسب عالم اللسانيات بيرمون، وأحداثها الخاصة بها مع غيرها، حسبي، وكل منها بطل أحداثه الخاصة به، وأحداثه الخاصة به مع غيره، شهريار وما يتعلق بعلاقاته مع شهرزاد، شهرزاد وما يتعلق بعلاقاتها مع ابنيها، الابنان وما يتعلق بعلاقاتهما مع أمهما، علاقات الحب والسلطة.
رايعًا) السرد فيه التواصل بين مانح، الذي هو الراوي في النقد الكلاسيكي، وموضوع المنح، الذي هو القارئ في النقد الكلاسيكي، بين أنا وأنت، بين سارد ومسرود إليه، وجود الواحد يفترض مسبقًا وجود الآخر، لكن يبقى مشكل وصف الكود الذي عَبره تتم الإشارة إلى الراوي والقارئ، الكود هو الرحيل، الراوي هو شهريار، والقارئ هو القارئ، أي قارئ، ولولا الوصف الرشادي لما كان افتراض وجود الواحد لوجود الآخر، وذلك عن طريق ما يأتي به الراوي من وقائع يجهلها القارئ، ولهذا يُبنى القارئ كما يُبنى الراوي. الراوي الرشادي غير رشاد، الراوي الرشادي وعي مبني للمجهول، فهو رشاد في ثوب شهريار، وهو شهريار في ثوب الملك كما جاء وصفه في القصة، في “زمن الحكايات” كما يقول، لهذا تتشكل بنيته من الخيالي والواقعي، مع الفصل بين خيال المؤلف وواقعه، وإن لم يكن النص مرويًا بضمير الغائب، ضمير “حكايته” كما يقول، فالشخص النفسي (الكاتب) لا علاقة له بالشخص اللغوي (شهريار). أريد أن أصل إلى أن النظام السردي في النص الرشادي ليسه النظام السياسي، فليست هناك أية كلمة تشير إلى انحطاط وانهيار وسياسات الأنظمة العربية، بينما يطرح المؤلف الرحيل “الفردي” “الذاتي” “الطوعي” كأحد الحلول للتخلص منها.
خامسًا) كما يقال في النظرية البنيوية “ليس دور الكتابة نقل الحكاية بل عرضها، فلو كان في النص الرشادي نقل للحكاية لكان نظامه السردي النظام السياسي لا النظام الأدبي، لهذا جاء المضمون الرشادي عرضًا لدراما شهريار مع حبيبته قبل وبعد، وترك بنية النتائج التي هي بنية الاستنتاج تبني نفسها بنفسها. عَبر السرد يعرض للعالم، هذا العالم الذي هو بالصدفة عالم شهريار، ليصبح النص ليس السرد وحده، ليس العرض وحده (كما هو في القصة الفلسطينية خاصة وفي القصة العربية عامة) بل وعناصر من نوع آخر كالوقائع التاريخية التي تميزت بها حياة شهريار وحكمه، وكإصراره على الرحيل، وكسلوكه سلوك الملوك الحق حتى في أتعس اللحظات وأشد القرارات عليه ضراوة.
سادسًا) أود أن اقول كلمة عن اللغة لدى رشاد أبو شاور، لغة لم يعطها حق قدرها النقاد العرب الذين في مقدمتهم “أعظمهم” فيصل دراج، وأنا لو قلت لغة السهل الممتنع لأوفيته حقه، لكنها اللغة الرشادية أولاً وقبل كل شيء، لغة يتنافس فيها التعبير والتشكيل الذي هو في ديناميته الشكل، فتنتج عنها وحدات يكون التكامل ما بينها في المعنى.
* * * * * *
القصة
شهريار يرحل بعيدًا
لا أدري كم أمتدّ نومي على هذه الحالة.
يدي تحت رأسي، وعنقي ملتوٍ، وتنفّسي مضطربٌ حتى لأكاد أختنق.
لا يدَ تربّتُ بحنانٍ على رأسي أو كتفي، أو تداعبُ خدّي، لتنبّهَني بسلاسةٍ إلى أنّ نومي سيّئ، وإلى أنّه ثمّة مَن يهتمّ بي وبراحتي.
لم أجدْها حيث ننام في مقصورتنا. تأمّلتُ الفراشَ الخالي، وتساءلتُ: منذ متى كفّت عن رواية الحكايات التي كانت تأخذني إلى عالمٍ ساحر، ونومٍ هانئٍ، فأريح رأسي في حضنها كأنّني طفلُها؟
تحاملتُ على نفسي، وأنا أترنّح، وتوجّهتُ إلى جناح ولديْنا. حين دفعتُ البابَ الموارب، رأيتُها تتمدّد في سرير ابننا الأصغر، بينما هما يريحان رأسيْهما على ذراعيْها. كانت تستلقي على ظهرها، وشعرُها الأسود ينبثق من تحت رأسها، ويؤطّر وجهَها الغافي المطمئنّ.
لبثتُ أتأمّلهم. ولوهلةٍ شعرتُ كأنّني غيرُ موجود؛ فحضوري لا يلفت انتباهَ أحد. وتساءلتُ، وكأنّني أوجّه سؤالي إليها: “منذ متى اعتدتِ تركي نائمًا في جناحي الملكيّ وحيدًا، لتنامي مطمئنّةً بين طفليْنا الغارقيْن في سبات عميق على ذراعيكِ اللتين لطالما أرحتُ رأسي بينهما، وغفوتُ عميقًا، لا أتقلّبُ، بفضل حكاياتك التي هدهدتْ قلقَ روحي؟ أبتِّ، يا حبيبتي، تستمتعين برواية الحكايات لهما أكثر من روايتها لي؟!”
خطر ببالي أن أشدّها من أصابع راحتها الجميلة، لأوقظها، لأزجرَها بصوتٍ لم أفجّرْه في وجهها منذ أن أخذتني إلى عالم حكاياتها في ليلة زواجنا الأولى؛ صوتٍ كثيرًا ما أرعد في وجه كلّ فتاةٍ تزوّجتُها، منذرًا بوضع حدٍّ لحياتها. وددتُ أن أصرخ بأعلى صوتي: “ماذا فعلتِ بي؟! كيف تهجرينني، وتنشغلين بابنيْنا، وكأنّني شيء لا لزوم له؟!”
يا إلهي، أأغار من طفليَّ؟!
منذ دخلتْ قصري لم يعد جنسُها ملعونًا، منذ أن باتت أمًّا لابنيَّ الوادعيْن الضامنيْن لدوام حكم سلالتي من بعدي، بدمٍ نقيّ لا تشوبه شائبة؛ فلقد جعلتها حبيسة القصر ثلاثَ سنوات، ولم تغب عن “عيوني” في القصر. ولكنْ، ما أدراني أنّها أحبّتني كما كانت تردّد بهمسها المدوِّخ في الفراش، وأنا أريح رأسي على فخذيْها، فيما هي تسكب حكاياتِها الساحرةَ في أذني؟
منذ متى تتسلّل إلى جناح الأميريْن، اللذيْن ينتظرانها كلّ ليلة ربّما بعد أن تنيم أباهما الملك؟
أتراها ملّت روايةَ الحكايات لي؟ أمْ أنّها لم تعد تملك حكاياتٍ تنيمني بها؟
واضحٌ أنّ الولدين اجتذباها منّي، وأنّهم ــــ الثلاثة ــــ باتوا أسْرةً لا تحتاج إليّ، وبتّ زائدًا عن الحاجة!
هل انتهت حكايتُنا يا سيّدة روحي؟!
كان عليّ أن أتنبّه إلى أنّ حكاياتك لي غدتْ سريعةً، وأنّكِ صرتِ تروينها بلامبالاة. وهذا ما أفقد مخيّلتي متعةَ التحليق إلى بلادٍ بعيدة، إلى دنيا لا تخطر على بال بشر.
بماذا تحلمان يا أميريَّ؟ أمّا أنا فلا أحلم؛ فلياليَّ باتت خاويةً بعد ان انتزعتما أمَّكما منّي!
***
جرجرتُ ساقيَّ تحت جسدي المتهاوي، عائدًا إلى جناحي الفارغ. وضعتُ تاجي الملكيّ على السرير فوق وسادتيْن. تأمّلتُه. راودتني فكرةُ تحطيمه، ثمّ دحرتُ الفكرة.
ها أنا أترك لكِ التاجَ، والولديْن، والسريرَ الخالي، بل أترك لكِ المملكة أيضًا. فقد عزمتُ منذ أزحتِ رأسي عن حضنك، وهجرتْ أصابعُكِ رأسي، على الرحيل.
مرّةً، وأنا في موكبي المهيب، رأيتُ في الريف رجلًا يحمل على كتفه صرّةً، ويتوكّأ على عصًا. كان يغنّي، وهو يتمشّى بين الحقول، متوجّهًا إلى لامكان. تمنّيتُ أن أكون مثله: أتمشّى بين الحقول، وأسافر إلى حيث أشاء، بلا موكب ولا حاشية.
سأحقّق أمنيتي. سأفعل. وحين تستيقظين لن تجدي مليكَكِ، ولن تضطرّي إلى سرد الحكايات لتهدهدي روحَه.
هيّا، فلأُعِدّ صرّةً تحوي بعضَ الملابس. ولأحملْ قليلًا من المال، وعصًا عاديّةً من عصيّ كرومي. ولأمضِ مع الفجر إلى حيث تأخذني أقداري. ولتؤلّفْ سيّدتي حكايةً جديدةً ترويها للأميريْن الصغيريْن عن ملكٍ اختفى تاركًا عرشَه من دون أن يعرف أحدٌ إلى أين يمضي.
هل ستخبرين الأميرين أنّ والدهما الملك تزوجّ من جنّيّة سحرتْه وأحبّها، فأخذته إلى مملكة أبيها تحت مياه البحر؟
هل ستتساءلين، عندما تريْن عجوزًا يحمل بقجةً على ظهره، ويمضي متوكّئًا على عصًا بين الحقول: أيكونُ قد صار كهذا العجوز، مترحّلًا في بلاد لن يعود منها؟
***
وداعًا لزمن الحكايات. فلأذهبْ وحدي في حكايتي التي تبدأ مع هذا الفجر.
الحكاية الرشادية تحليل بنيوي لشهريار يرحل بعيدًا لرشاد أبو شاور
د. أفنان القاسم