الخيوط: رواية وليد أبوبكر الثانية – رشاد أبوشاور
من رواية الإستبطان النفسي والأسئلة الفلسفية
إلى رواية الأرض..وأسئلة الواقع
بعد روايته الأولى ( العدوى) بسنتين أصدر وليد أبوبكر روايته الثانية ( الخيوط) عن منشورات دار( الاداب) – بيروت عام 1980، وبهذا أكد أنه لم يكتب رواية واحدة نزوة، أو رغبة بالشهرة، وكان قد حظي بها من عمله الصحفي، ومتابعته للنشاط المسرحي خليجيا وعربيا، ولكن لأنه شعر بأنه يملك ما يقوله للقارئ العربي.
من المجرّد إلى الواقعي انتقل وليد أبوبكر، من روايته الأولى التي لا مكان لها، ولا زمان، إلى رواية تدور على أرض واقعية، وفي زمن لا يحتاج للتخمين لتحديده، وأبطالها، أو شخوصها، بشر عاديون من لحم ودم يعيشون في قرية فلسطينية باتت بعد نكبة 1948..حدودية!
في الرواية صراع ، وتحولات، وتبشير بزمن جديد آت لا محالة، يسهم بقدومه الفرد المتميز، و..الجماعة التي عرفت بالتجربة أنه لا خلاص لها بدون توحيد قواها تمهيدا للمواجهة لانتزاع الحق!
تتكون الرواية من قسمين، في فصول يرويها( شخوصها) بالتتابع، والشخوص متمايزون، مرسومون بملامح تبديهم مختلفين عن بعضهم، وهم ليسوا شخصيات افتراضية مصنوعة تعبّر عن أفكار..إنهم شخصيات اجتماعية في قرية تدور فيها صراعات تسببها أطماع وظلم، و..احتلال دمّر الوطن الفلسطيني ومزقه أرضا ومجتمعا، وحوله أشلاءً.
القسم الأول يرويه سبعة من شخوص الرواية، أولهم شريف الصالح..العائد للقرية بعد أن اضطر لقطع دراسته في المدينة.
شريف الصالح في مدخل الرواية يخاطب نفسه متسائلا بلوعة: وأنت وحدك الآن تحس بأن أنظارك تحتضن الأرض الغافية فوق التل…
ومن خلال منولوج شريف الصالح نتعرف على معاناته، ومصيبة والده، وما تعانيه قريته التي باتت حدودية بعد الاحتلال، والتبدلات الاجتماعية في تلك القرية، وتبدأ الخيوط في التشابك تحت نظر القارئ، وفي حياة شريف الصالح وأسرته..والحياة في قريته.
الوالد خليل الصالح المسافر دائما إلى مدن الساحل الفلسطيني للتجارة، يضطر بعد الاحتلال وقيام دولة العدو للتهريب على الجمال، وابنه شريف ينصحه ويحذره مما هو آت، والوالد يطمئنه بأنه لا يرى أحدا وهو يعبر ما بات حدودا، وشريف يردد:
– يا والدي سيأتون…( ص11 )
وهم يأتون، بالأحرى يزحفون ويحتلون المزيد من الأرض، ويطلقون الرصاص على ( المتسللين) والحاج خليل يفقد ساقه، بعد أن فقد أسباب رزقه في التجارة مع مدن الساحل الفلسطينية التي احتلتها عصابات اليهود.
عاد شريف ليقف مع والده، ويدعم أسرته، وهكذا ضاع حلمه بأن يعود معلما للقرية، وأمل والده أن يراه متعلما لا حرّاثا.
يرفض شريف عرض خطيب شقيقته عائشة بأن يمده بمبلغ يدخره للزواج من عائشة لينهي دراسته..فالزواج يمكن تاجيله.
ويعرض عليه زميل الدراسة أحمد الفايز أن يكلّم والده ويحضه على مساعدته في إكمال دراسته للسنة الباقية لتخرجه.
يتساءل شريف عند مجئ عبد الرحمن الفايز، والد أحمد، وهو ملاّك يتاجر بالدخان، إن كانت زيارته لها علاقة بابنته جميلة؟
الخيوط تتداخل وتتشابك، وأحوال شريف تتعقد، والواجب تجاه الوالد والأسرة يضعه أمام خيار واحد: العمل..أي عمل! في قرية فقدت أرضها، وكان شبابها قبل النكبة يعملون في مدن الساحل، ولكنهم باتوا بطّالين، ورواد مقهى القرية..وحاله بات كما قال له أحدهم: أتريد أن تزيدهم واحدا؟!
مع عودة شريف إلى القرية بدأت تتكشف له جوانب كانت خافية، فالقرية يتحكم بها عبد الرحمن الفايز صاحب الأراضي الواسعة وزراعة التبغ، والعلاقات مع رئيس مخفر الشرطة، ومدير الجمارك الذي يطارد مزارعي التبغ الصغار..وقائد الحرس الوطني الذي يفرض على شباب القرية السهر في الليل لحماية القرية..وليس مع واحدهم سوى بندقية تالفة وخمس رصاصات يمنع عليهم التصرف بها حتى لو اقتحم العدو القرية!
أثناء دراسته كان شريف يعتني بأحمد الفايز، يساعده في الدراسة، وشريف اعتقد أن زميل الدراسة إنسان طيّب..وصديق، لكنه يكتشف أنه ساقط أخلاقيا، وأنه يمتهن جسد آمنة ابنة الأب المقعد والأم العجوز التالفة والأخ سعيد الذي يرى ويسمع ..ولكنه يغلق عينيه وأذنيه، ولا يثور لشرفه المنتهك من أحمد الفايز!
يرضى شريف بالعمل في زراعة الدخان مع عائلة الفايز، فيؤلمه أن كل واحد ممن يعملون معهم لا يفكّر سوى بنفسه، وأنه راض باستغلاله، و..أنهم متفرقون..مُذلون مهانون خانعون.
هنا يتلمس شريف دوره، هو المتعلّم في المدينة، والذي رأى وعرف أكثر بكثير من أهل القرية، فيبدأ بآداء دوره خطوة خطوة مع كل اكتشاف لجانب من الجوانب البشعة التي تمتهن القرية وأهلها، تنهبها، وتخيفها أفرادا و..جماعة.
يرفض عرض خطيب أخته عائشة، فهو ما عاد يريد العودة إلى المدينة لتكملة تعليمه، فوالده ووالدته وأخته بحاجته، ثم التعليم يمكن تاجيله بعض الوقت..ومعركته هنا مع من يحتاجونه بينهم.
يُقنع خطيب أخته حسن ابوداوود بالعمل مع آل الفايز، وبأن يستعدوا مع الآخرين لزراعة أرضهم في العام المقبل، ليستفيدوا هم من أرباح عرقهم وشقائهم، و..دون الاصطدام مع آل الفايز الأقوياء بعلاقاتهم النفعية مع المتسلطين على القرية ومقدراتها: رئيس المخفر، وقائد الحرس، ومدير الجمرك.
القرية توقعت أن يعود شريف بعد أن ينهي دراسته ليشغل موقع أستاذ مدرستها، و.. كان الجميع يعرف بأن شريف سيتزوج جميلة ابنة الفايز، ولكن…
عاد شريف ولم يكمل تعليمه، وها هو يرضى بالعمل في أرضهم كأي مزارع آخر!
في الرواية عدّة شخصيات أساسية: بشير الحاج خليل، أحمد الفايز، حمدان الأهبل، جميلة الفايز، خيرية اليوسف، حسن أبوداوود، آمنة الشيخ نعمان،
كل واحد وواحدة من هؤلاء يسرد فصلاً، لا بضمير الأنا، ولكن بضمير المخاطب، ومن توصيل الخيوط ترتسم أمامنا القرية وعلاقات ناسها، وزمنها الذي أعقب نكبة 1948، وما لحق بحياة الفلسطينيين من قهر تضافرت عليه عوامل داخلية ومحيطة.
أيقظ شريف آمنة على مهانتها، وغرس في عقلها الوعي بقدرتها على مقاومة أحمد الفايز الذي امتهن جسدها، وأذل والدها ووالدتها وشقيقها، ومدّ خيطا بينها وبين حمدان الأهبل..أدّى إلى زواجهما..وتحررهما من شروط وضعهما الممتهن في القرية.
تستحق شخصية حمدان التوقف عندها، فهو رغم الوصف الذي ألبسه له أهل القرية لم يكن بالبلاهة التي تلغي عقله ووعيه ومعرفته بدقائق أمور القرية وناسها.
شخصية حمدان ربما تحيلنا إلى شخصية ( الزين) في رواية الطيب صالح ( عرس الزين)، ولكنها، برأيي أغنى لأنها ليست ذات بعد واحد.
حمدان يمارس التقية بغطاء الهبل..الذي هو استهبال، ويقول كل ما لا يقال، ويبيح لنفسه أن يتقافز من مكان إلى مكان مسترقا السمع والنظر.
بعد عودة شريف يمتد خيط بينهما، يمتن مع كل يوم، وكل حدث في القرية، فينمو وعي حمدان، وتتقوى شخصيته الممسوخة، ويأخذ دوره بين الجماعة التي باتت قوة واحدة في القرية.
دور الإنسان المتعلّم أن يوقظ الكرامة في نفس الإنسان المظلوم المستكين، وووعي إمكانياته الكامنة يدفعه لقول:لا..وممارسة هذه اللا!
هذا ما فعله شريف الصالح مع حمدان، ومع آمنة..آمنة التي استباح جسدها أحمد الفايز على عيون أهل القرية، ورضخت لأنه ابن صاحب الأرض التي تقيم فيها أسرتها المحطمة، ولأن شقيقها صغر..ومن بعد ذليل وجبان.
تقول آمنة لنفسها: شريف الصالح وضعك أمام نفسك، رسم السؤال الكبير أمام عينيك: لماذا؟
وتكّر الأسئلة، ويبدا الصراع النفسي بين حالة العجز..والرغبة في المواجهة والخروج من حالة الذل، يساعدها تعلّق حمدان بها..وصرخته: أنا لا أخاف، ومواجهة شريف لأحمد الفايز، وأنفاس المظلومين التي بدأت ترتفع معلنة عن هبوب ريح مقاومة استغلال آل الفايز ناهبي خير القرية المتحالفين مع عناصر الفساد والاستغلال.
لعل الفصل المسرود بلسان آمنة يشكل ذروة في الرواية، ففيه صراع نفسي وحزن ورغبة في مغادرة حالة الهوان…
البطولة في الرواية جماعية، وعلاقة خيرية بشريف، وإدارته الظهر لجميلة الفايز، هي تعبير عن نقاء البسطاء المنتمين للأرض، وخيرية أخت شهيد، وهي تعيش في القرية مرفوعة الرأس ببطولة شقيقها الشهيد الذي دفع دمه وهو يتصدى للعصابات الصهيونية التي دهمت القرية..وبالبندقية والرصاصات القليلة.
أن تحب خيرية شريف الصالح، وأن يحبها شريف، فهذه هي العلاقة المنطقية بين إنسانين تمتلئ نفساهما بالكرامة والكبرياء والإنتماء للبسطاء المُستغلين.
برع وليد ابوبكر برسم شخصيات ( الخيوط)، وبرهن على معرفة عميقة بالقرية، وبزراعة الدخان من بذر الأرض حتى جمعه ونشره على خيوط..وحتى فرمه وإعداده للنقل للمشترين.
هناك مشاهد موجعة في الرواية، أبرزها اقتحام العصابات الصهيونية للقرية وقتلها لعشرة من مواطنيها..وعجز أهل القرية عن الرد والاشتباك لعدم توفر السلاح في أيدي القرويين، وهذا ما تكرر في كثير من القرى الفلسطينية التي اعتبرت بأنها قرى( حدودية) بعد نكبة ال48! والتي حرمت من السلاح..والتسلّح؟!
رواية الخيوط تبدأ بالفصل الذي يرويه شريف الحاج خليل..وتنتهي بفصل يرويه شريف..وفي الفصل الأخير اسئلة تنم عن القلق، وتشير للمستقبل بدون تفاؤل مجّاني..لكنه الآتي بعد تراكم الفواجع، وتنامي الوعي، وانطلاق الأسئلة التي تعبّر عن بركان يوشك على الانفجار.
هذه الرواية كتبت عن ما بعد نكبة 1948..عن سنوات الخمسينات المُرّة على الفلسطينيين ، وليس على قرية واحدة ..هي نموذج لقرى كثيرة استبيحت من الاحتلال، ومن الفساد والكذب والتدليس على الفلسطينيين وقضية فلسطين.
كتب وليد أبوبكر روايته بلغة ( دقيقة) لا إنشاء فيها، ولا تهويمات شاعرية، ولا خطابات حماسية، بلغة تنقل ما يمور في النفوس، وما يصوّر الواقع كما هو بدون تزويق.
بعد أن طويت صفحات رواية ( الخيوط)..الخيوط التي تصل بين ناسها..والخيوط الذي تعلّق فيها أوراق التبغ حتى تجف، تساءلت: لماذا لم تدرس هذه الرواية ويحتفى بها كما تستحق؟!
* صدرت الطبعة الثانية من ( الخيوط) عن دار الرعاة – بيت لحم 2008