“الدكة العشائرية” بين الأرهاب وإعادة انتاج العشيرة ـ ملاحظات سايكواجتماعية
د عامر صالح
يتلخص مفهوم “الدكة العشائرية” بإقدام مسلحين ينتمون لعشيرة على تهديد عائلة من عشيرة أخرى، من خلال عملية إطلاق نار بمختلف الأسلحة بما فيها الثقيلة أو إلقاء قنبلة يدوية أحيانا، على منزل المقصود، كتحذير شديد اللهجة لدفعها على الجلوس والتفاوض لتسوية الخلاف. وفي حال عدم موافقة الطرف المستهدف، تتطور الأمور لتؤدي إلى وقوع ضحايا من الطرفين. وبعد شيوع هذه الظاهرة بشكل خطير في المجتمع العراقي ووقوع الكثير من الضحايا بسبب ذلك فقد أعلن مجلس القضاء الأعلى في بيان له بتاريخ الثامن من نوفمبر للعام 2018 “اعتبار الدكات العشائرية من الجرائم الإرهابية، وضرورة التعامل مع مرتكبيها بحزم”. وأشار الى أن المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب الذي أقر العام 2005، تنص على أن “التهديد الذي يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أياً كانت بواعثه، يعد من الأفعال الارهابية”. ومع اعتقال العديد من المتهمين بهذا الخصوص إلا ان ” الدكة العشائرية ” وبعد صدور بيان المحكة شهدت تزايدا في حدوثها في محافظات مختلفة كالبصرة والعمارة وبغداد وغيرها.
وقبل الدخول في تفصيلات الموضوع يجب التأكيد أن وجود العشائر والقبائل ودورها في المجتمع يعكس مرحلة تاريخية من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, وهي لصيقة مرحلة الإقطاع التاريخية وما قبلها و التي مرت وتمر بها المجتمعات الإنسانية المختلفة, بكل ما تحمله الأخيرة من بنية فكرية وأخلاقية وأدائية متخلفة قياسا بلاحقتها والتي نشأت على أنقاضها ألا وهي الرأسمالية.
بعد نشوء وبداية نشوء الدولة الوطنية بدأت عملية تحول الأمن والحفاظ على المصالح الاقتصادية والاجتماعية تنتقل من يد العشيرة باعتبارها الحافظ الفئوي والمناطقي والأسري لمصالح أبنائها, إلى الدولة باعتبارها المؤسسة الحاضنة للجميع والعابرة للعشيرة والقبيلة والطائفة والدين كما يفترض ذلك من سنة التطور التاريخي التي أفرزتها تجارب بناء الدول المدنية المتحضرة, والتي قامت على خلفية تحولات عميقة في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والأيدلوجية, مما سهل نشأة الأسواق الوطنية والاقتصاد الوطني القومي ونشأة المدن الحضارية, والانتقال من المجتمعات الرعوية والزراعية والريفية المتخلفة إلى مجتمعات المدن الحضارية.
وعلى هذا الأساس وحسب درجة تطور المجتمعات وظروفه الخاصة بدأ الاضمحلال التدريجي لسلطة العشيرة والقبيلة باعتبارها مرحلة متخلفة من مراحل النمو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى خلفية مستويات التطور الاجتماعي والاقتصادي وعدم الاستقرار بقيت العشيرة والقبيلة في علاقة عكسية مع الدولة, فكلما ضعفت الدولة اشتد ساعد العشائرية والقبلية, وبالعكس كلما قويت الدولة واشتد بنائها ضعف الدور ألتأثيري للعشائرية والقبلية. هذه العلاقة بمجملها تدفع العشيرة للتحالف مع الدولة عندما تكون قوية, وتشهر السيف ضد الدولة عندما تكون ضعيفة أو في طور البناء. ومن هنا تنشأ المشكلات بين المركز ” الدولة ” وبين ” الأطراف ” التي هي العشائر والقبائل وحلفائها.
مع ضعف الدولة العراقية وتدهور هيبتها وعدم مقدرتها على بسط سلطة القانون بعد ان سقطت مؤسساتها في عمل قسري من خارج الحدود عام 2003 وتزامن ذلك الأنهيار ليست فقط مع سقوط النظام الدكتاتوري الحاكم أنذاك, ولكنه أسقط فيه مؤسسات الدولة العراقية التي امتدت الى عهود تأسيس المملكة العراقية وبدايتها منذ عام 1921, وقد اختلف آداء هذه المؤسسات اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا مع تعاقب الأنظمة السياسية المختلفة على الحكم في العراق وتباين فلسفاتها. أي ان الاحتلال الأمريكي للعراق لم يستهدف التغير النوعي لأداء مؤسسات الدولة العراقية, بل استهدف بنتائجه الميدانية تحطيم البنية التحتية المؤسساتية للمجتمع, والتي هي ثابتة نسبيا بأختلاف من حكم العراق.
وكان من جراء ذلك فقدان الأمن المجتمعي وتفكك الوحدة الجغروأثنية للعراق, فأنتعشت بسبب ذلك كل الاشكال المتخلفة للضبط الاجتماعي والسابقة للمدنية وفي محاولة منها أستغلال تأزم الاوضاع وخروجها عن السيطرة وانهيار مؤسسات الدولة ولتفرض نفسها بديلا عن الحياة المدنية ومؤسساتها المستقرة, وكان من تداعيات ذلك هو التشرذم الديني والمذهبي والاحتماء بالطائفة والمكون الاثني وتشديد قبضة العزلة والانكفاء الجغروطائفي والاثني وتعزيز دور الهويات الفرعية خارج اطار السياق الوطني الجامع, فأنطلق الارهاب الفردي والمنظم وشاعت التنظيمات المسلحة, من مليشيات وعصابات اجرامية مختلفة تتخذ من من المناطقية والتمترس الجغرو اثني والمذهبي واجهات لفرض نفوذها كبديل عن الدولة وسلطة القانون والقضاء.
في ظل تلك الاجواء اشتد ساعد كل اشكال الضبط والسيطرة البدائية السابقة لنشوء الدولة, والتي اختفت او ضعفت في عهود وحقب سابقة للأحتلال الامريكي, بفعل التغيرات الجذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية والساعية الى بناء نمط من الحياة المدنية بأختلاف طبيعة الأداء الفكري والسياسي لها. وفي ظل هذه الظروف كان حضور العشيرة وتصدرها مشهد الحياة اليومية ما بعد 2003 هو تحصيل حاصل لعملية التفكيك المنظم للبنى المؤسساتية للدولة والرجوع الى بنى اجتماعية سابقة تستند في قوامها الى الانتماء الجغرووراثي لأصول مجاميع من الافراد والعوائل ذات الروابط المحددة في الوراثة والنسل والقربى.
وفي الوقت الذي كان حضور العشيرة تاريخيا حضورا مشروعا نسبيا باعتبارها تعبر عن مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي وتعبيرا عن الضعف الموضوعي لمفهوم الدولة والمواطنة, وكانت لها اسهاماتها الايجابية في مجريات الاحداث التاريخية التي مرت بها تلك التجمعات للحفاظ على كيانها وتماسكها الداخلي, ولكن ظهورها اليوم هو ظهورا نكوصيا تقهقريا يفرض نفسه بديلا عن دولة المواطنة ومتسلحة ضدها بشتى صنوف الاسلحة الثقيلة والخفيفة وسلوكيات التمرد والانحراف والانفصال عن الدولة, ومتجاوزة الدور التقليدي للعشيرة في الحفاظ على الاعراف والدفاع عن الشرف والكرامة والاستجابة للنخوة ونصرة الضعيف وتحولها الى مليشيات عشائرية تهدد الامن والاستقرار الاجتماعي.
وبفعل تعقيد العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والاثنية والتمترس الجغرو اثني وطائفي والذي يستهدف بطبيعته اضعاف الدولة ومكانتها فقد وجدت العشيرة ضالتها في الصراعات السياسية الطائفية والمذهبية الجغرومكوناتية, فاصبحت العشائر واجهات للأحزاب والمليشيات الطائفية والمذهبية, واستغلت ايضا كواجهات وظهير من قبل عناصر الجريمة الفردية والمنظمة لأرهاب المواطن واستغلاله. كما استغلت العشيرة من قبل الاحزاب الطائفية والاثنية لتشديد قبضة الصراع السياسي على السلطة والاستعانة بسطوتها لفرض اجندة مشوهة تقف بالضد من وحدة وسلامة البلاد وسلطة الدولة. وقد ساعد اندماج الصراع السياسي الطائفي والاثني مع بنية العشيرة على تعزيز شراسة طابع الفساد الاداري والمالي والاقتصادي والاجتماعي, حيث اصبح الفاسد مطلق العنان ومحميا سياسيا وطائفيا وعشائريا في ظل سلطة قانون هشة غير قادرة على لجم الصراعات وبنفس الوقت عاجزة عن الحديث عن رموز الفساد.
في ظل تلك الاوضاع الشاذة ليست من المستغرب عندما يلجأ برلمانيا او قائد حزب سياسي الى عشيرته لحل نزاع شخصي او سياسي مع برلمانيا آخر وبوسائل عشائرية دون اللجوء الى القضاء, مستخدمين اسلوب المقاضاة العشائرية وفض النزاعات وفرض الغرامات المالية, وليست من المستغرب ايضا ان يقوم البرلمان بمحاولاته الحثيثة لأصدار قانون مجلس قبائل وعشائر العراق ” والذي ألغي عام 1959 ” في محاولات منه لأستحداث سلطة موازية لسلطة الدولة واشباع المجلس بصلاحيات واهداف ومهمات وارصدة مالية تفوق ما تقدمه اي عشيرة في العالم من دور محدد وليست فقط في العراق, ويتعارض هذا المجلس حتى مع روح الدستور بنصوصه المكتوبة, والتي يدعو فيها الى بناء دولة المؤسسات القانونية والتي حددها بالسلطة التشريعية ومجلس الاتحاد والسلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية والسلطة القضائية ولا وجود للدور العشائري ضمن مؤسسات الدولة, ولكن فساد الطبقة السياسية الحاكمة واجنداتها الطائفية وصراعها على السلطة والمال وعدم اكتراثها ببناء الدولة المدنية وثقافة المواطنة والتقدم الاجتماعي والاقتصادي هو من يقف وراء ذلك لأبقاء المجتمع في دوامة التخلف وسيطرة القيم البالية التي عفى عليها الزمن.
ومن الناحية السايكولوجية فأن العقل العشائري والقبلي هو عقل وثوقي ” أي يثق بما لديه من مواقف ثقة عمياء ويعتبر كل عيوبه مزايا مطلقة “, وهي احد أسباب صراعاته مع التحولات والتغيرات الايجابية التي تجري من حوله, و تزداد وثوقية هذا العقل وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصام هائل في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. فالعقل ألوثوقي والعشائري المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته, فالعقل القبلي والعشائري يرى مثلا أن النصر قريبا على الدولة التي يحيا فيها وأن النصر لا محال للعشيرة والقبيلة.
لقد اسهمت كل هذه التحولات الخطيرة الى تشكيل ما يسمى ” بالدولة العميقة ” او ما يسمى شيوعا في بعض وجوهها ” دولة بداخل دولة ” تشكل قاعدتها كل سراق المال العام والعصابات المسلحة, ورموز الفساد الاداري والمالي والسياسي, وقيادات احزاب مختلفة وجماعات بيروقراطية طفيلية, وأعلام اصفر بل وحتى رموز من السلطات القضائية والدينية وقيادات من السلطات التنفيذية, ورؤساء عشائر, وجميعها تصارع الدولة وتنهش بقدراتها المالية والعسكرية والامنية والاقتصادية وتمنعها من النهوض, وفي احيان كثيرة هي من يتحكم في المشهد السياسي ويديره مثل ما تشهد عليه صراعات اليوم من اجل تشكيل الحكومة أو ما شهدت عليه الانتخابات وتشكيل الرئاسات الثلاث.
في خضم كل هذا التعقيد فأن ” الدكة العشائرية ” باعتبارها فعلا ارهابيا يزرع الرعب في نفوس المواطنين يستحق كل الأدانة والعقاب وخلق المقومات اللازمة لمكافحته, وقد تمت ادانته من بعض الرموز العشائرية الكريمة, ولكن من جانب آخر يرتبط بمنظومة كاملة من السلوكيات العشائرية البالية والتي تعرقل تنفيذ القوانين وتضع سلطة القضاء في المؤخرة, الى جانب ان ” الدكة العشائرية ” كسلوك ارهابي يرتبط ارتباطا وثيقا بعموم ظاهرة الارهاب في البلد وبالتالي فان المعالجات الشاملة والجذرية من خلال الاسباب يضمن الحد ثم القضاء على الظاهرة. أن دراسة العشائر والقبائل كظاهرة سوسيولوجية ونفسية وما تفرزه من سلوكيات خطيرة ” كالدكة العشائرية ” لا يعني أبدا النيل من عشيرة دون غيرها أو إلحاق الأذى بسمعة عشيرة ما ورفع شأن أخرى, فكلنا ننتمي إلى عشائر كتحصيل حاصل, بل هو دراسة لظاهرة موضوعية تشكل مرحلة سابقة من مراحل النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ولها إبعادها السياسية والاجتماعية الخطيرة, وأن أعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على أسس من التطور والحداثة والتي تستند إلى العلم والتكنولوجيا والاقتصاد المتطور في كل المجالات كفيل ببناء دولة المواطنة العصرية عابرة لجميع الولاءات الضيقة من عشائرية وطائفية ومذهبية وأثنية. وفي الختام فأن ” الدكة العشائرية ” جزئية بسيطة قياسا بأزمة النظام العامة. ولتتظافر كل الجهود المجتمعية المخلصة كي ينالوا مرتكبي ” الدكة العشائرية ” العقاب الصارم.