الدكتور محمد عمارة وشجاعة المراجعات الفكرية – محمد سيف الدولة
غادرنا منذ ايام قليلة المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة، تاركا وراءه انتاجا ضخما وثريا من المؤلفات والدراسات والابحاث والمواقف.
ورغم اننى كنت واحدا من قرائه منذ مرحلة الشباب وعلى الأخص لمؤلفاته التى تتناول العدل الاجتماعى والارتباط العضوى بين العروبة والاسلام والتراث الثورى فى التاريخ الاسلامى واطلالاته على المذاهب الفكرية المختلفة فى الفكر الاسلامى كالمعتزلة وغيرهم.
اقول على الرغم من ذلك الا اننى حين انتويت المشاركة فى نعيه ورثائه المستحق بجدارة، فاننى قررت ألا اتطرق الى افكاره واجتهاداته ومعاركه الدؤوبة…الخ، وانما الى تناوله كأحد النماذج البارزة والمؤثرة من ظاهرة هامة ومتميزة فى حياتنا الفكرية والثقافية، وهى ظاهرة المفكرين والكتاب والسياسيين الذين تحدث لهم تحولات جذرية فى معتقداتهم وتوجهاتهم الفكرية وفى مواقفهم السياسية.
· فلقد بدأ الدكتور محمد عمارة ماركسيا، فى مرحلة شبابه وتعرض للاعتقال لخمس سنوات كاملة 1959-1964 ضمن الاعتقالات الشهيرة لغالبية الحركة الشيوعية بعد توحدها فى تنظيم واحد عام 1958 ثم خلافها مع عبد الناصر على الموقف من الوحدة المصرية السورية وقضايا اخرى تتعلق بالديمقراطية والتوجهات الاقتصادية والطبقة العاملة.
· وفى السنوات التالية للسجن، انفتح الدكتور عمارة، على الفكر القومى وقضايا وتحديات الوحدة العربية، وصدر له عدد من الكتابات والمؤلفات فى العلاقة بين العروبة والاسلام، ثم ما لبث ان استقر به الحال كواحد من أهم وأبرز كتاب ومفكرى التيار الاسلامى.
· هذا التحول الفكرى الذى مر به الدكتور محمد عمارة، لم يكن ظاهرة خاصة او فردية، بل تكرر مع عدد من الشخصيات الهامة فى مصر والوطن العربى ممن كان لهم دورا كبيرا ورائدا فى التأثير فى الشباب العربى واعادة تشكيل توجهاته.
· كان منهم عليهم رحمة الله الاستاذ عادل حسين الذى خاض تجربة حزبية وصحفية ثرية ومؤثرة فى حزب العمل محاولا بناء تحالف بين الاسلاميين والقوميين أطلق عليه التيار القومى الاسلامى. والدكتور عبد الوهاب المسيرى صاحب المقولة الشهيرة بأنه “ماركسى على سنة الله وروسوله”. ومنهم أيضا، أمد الله فى اعمارهم، المستشار الجليل الاستاذ طارق البشرى، والاستاذ منير شفيق المفكر الفلسطينى وغيرهم.
· ولم تقتصر هذه الظاهرة بطبيعة الحال على المفكرين العرب، بل تكررت على المستوى العالمى، وربما يكون من اشهر امثلتها هو الفيلسوف الفرنسى الشهير روجيه جارودى الذى شهدت حياته الفكرية والسياسية نقلات ايديولوجية كبرى، بدات ايضا مع الحزب الشيوعى الفرنسى والفلسفة المادية قبل ان ينتقل الى المرحلة الايمانية، انتهاءً باعتناقه للاسلام من منظور ثورى، والذى جعله اكثر انفتاحا على قضايا الأمتين العربية والاسلامية، وعلى الأخص القضية الفلسطينية، وانخراطه فى معارك شرسة ضد النظام الراسمالى الاستعمارى العالمى، بالاضافة الى معاركه وكتاباته الرائدة والمتفردة ضد (اسرائيل) والحركة الصهيونية، والتى دفع فيها أثمانا فادحة، حيث تمت محاكمته وادانته بتهمة معاداة السامية.
***
·
كثيرا ما كنت أتوقف امام هذه الظاهرة، وامام هذه النوعية من الشخصيات ثقيلة الوزن التى لم تتردد ان تقوم بمراجعات كبرى لمعتقداتها ومواقفها قد تصل الى التحول والتغير 180 درجة فى منطلقاتها وقناعاتها الفكرية، وفى أدواتها التحليلة وموازينها ومقاييسها المنهجية.
· ولقد كنت اعتبرهم على الدوام من اكثر الشخصيات ثقلا وعمقا وبصيرة، ليس بسبب انحيازى الى مواقفهم او توجهاتهم الاخيرة بقدر ما هو تقديرا لشجاعتهم وقدرتهم على الوقوف مع النفس على كبر، والمراجعة والتراجع اذا لزم الامر والتصحيح والتغير والانتقال الى مسارات وحيوات مختلفة تماما مع جمهور وقراء ورفاق واخوة وتلاميذ مخلتفين تماما.
· انه نوع من أنواع الهجرة، يتعرض فيها المهاجرون فكريا من منظومة الى اخرى او من تيار الى آخر، لذات الصعوبات والمشاكل والتحديات التى يعانى منها من يترك بلاده على كبر ليبدأ حياة جديدة فى بلاد الله الواسعة.
· والحقيقة ان القدرة على المراجعة والتغير والتصحيح كانت احدى السمات الرئيسية لعديد من القادة والزعماء الكبار فى العالم، ساكتفى هنا بضرب أربعة امثلة او نماذج من تجارب معروفة لنا بحكم شهرتها او معايشتنا لها:
· فلقد فعلها من قبل لينين قائد الثورة البلشفية فى روسيا 1917، حين قرر رغم انه كان تلميذا نجيبا لكارل ماركس، الخروج عن المانيفستو الماركسى لتطور المجتمعات، والاقدام على قيادة ثورة اشتراكية فى روسيا الاقطاعية وهو ما كان من المحظورات وفقا لمبادئ المادية التاريخية الصارمة التى تشترط النضوج الراسمالى الكامل فى اى بلد حتى تستطيع ان ينتقل الى الاشتراكية ثم الى الشيوعية، او كما فى القاعدة الماركسية الشهيرة التى تؤكد “ان مكان الاشتراكية فى اى مجتمع يقبع فوق الدور الاخير لعمارة الراسمالية بعد ان تبلغ اقصى مراحل تطورها”. بالاضافة بطبيعة الحال عن تراجعه الكبير عن سياسة التأميم الشامل الذى انتهجها بعد الثورة مباشرة، لما ترتب عليها من كوارث اقتصادية، هذا التراجع الذى سمى بالسياسة الاقتصادية الجديدة.
· وكذلك كانت تجربة ماوتسى تونج زعيم الحزب الشيوعى فى الصين الذى قادة الثورة الاشتراكية بطبقة الفلاحين، وليس بالطبقة العاملة (البروليتاريا) التى هى احدى الشروط والتابوهات المقدسة وفقا لنظرية الصراع الطبقى وبناء الاشتراكية فى النظرية الماركسية.
· وسنجد ذات النهج فى التغير والتراجع والتصحيح فى مسار ثورة يوليو فى مرحلتها الوطنية، على قصر مدة حكمها 1952 – 1973، التى اعتمدت المنهج التجريبى منذ البداية، حيث لم تكن تمتلك رؤية او نظرية واضحة للتغيير، فانتقلت من الاجندة المصرية البحتة بمبادئها الستة الخالية من اى حديث عن الوحدة العربية او عن فلسطين، الى اجندة ومعارك القومية والوحدة العربية بعد 1956، ومن الرهان على القطاع الخاص والراسمالية المحلية فى قيادة التنمية الى الاشتراكية وقرارات التاميم 1961، ومن اعتقال الشيوعيين الى التحالف معهم، ومن هيئة التحرير والاتحاد القومى الى الاتحاد الاشتراكى ثم التنظيم الطليعى ثم الى مراجعات شاملة بعد هزيمة 1967 لطبيعة النظام السياسى وقضايا الديمقراطية والحريات لم يكتب لها التطبيق فى ارض الواقع…. الخ.
· شيئا قريبا من ذلك حدث فى الفكر الراسمالى، حين طرح المفكر الاقتصادى الشهير “كينز” بعد الازمة العالمية الكبرى عام 1929 وما لحقها من كساد عالمى نظريته الهامة حول ضرورة تدخل الدولة فى ادارة الاقتصاد، فى تناقض وتراجع جذرى عن أحد الاسس المقدسة فى الفكر الراسمالى حول اقتصاد السوق الحر وسيطرة القطاع الخاص وحريته المطلقة واقتصار الدولة على دور الحارس الامين فيما يعرف فى الادبيات الراسمالية بالدولة الحارسة.
· والامثلة كثيرة.
***
·
ان التغير والتحول ليس غاية فى حد ذاته، وليس كل تحول هو نقلة الى الامام أو الى الافضل، فما اكثر المتحولين والمتلونين فى مجتمعانا العربية الذين يغيرون جلودهم مع كل حاكم جديد او سلطة جديدة.
· ولكن على العكس من ذلك تماما، كانت التحولات والمراجعات الفكرية والسياسية فى حالة الدكتور محمد عمارة ونظرائه من النخبة الكريمة التى اشرنا اليها، تنقلهم من مناطق مأمونة نسبيا الى مناطق ودوائر اكثر خطورة واشد عرضة للحصار والرفض والحظر من قبل اجهزة الدولة وحكامها، ناهيك عما تعرضوا له من نقد وهجوم قاسى من رفاق وانصار تياراتهم القدامى.
· كما أن نهل اى انسان أو مفكر من أكثر من مدرسة فكرية وانفتاحه عليها، يجعله اكثر ثراء وسعة أفق من ابناء المدرسة الواحدة مهما بلغت درجة علمهم بها وتعمقهم فيها. وهى مسألة قريبة الشبه بمن يجيدون اكثر من لغة، ويستطيعون الولوج الى العلوم والمعارف والافكار بلغات متعددة.
· ان التغير والتطور والمراجعة والتصحيح هى من اكثر الظواهر انسانية وتناسبا مع طبيعة النفس البشرية، والعكس هو الصحيح؛ فالتمترس وراء
المعتقدات والايديولوجيات والافكار والمواقف بعد ان يثبت ويكشف كثير مما يحدث لنا وحولنا، عجزها عن تفسير الظواهر واستشراف المستقبل وفهم الشعوب والاقتراب منها، هو نقطة ضعف ونقيصة كبيرة فى حياتنا الثقافية.
· ان كثيرا من الناس ومن المفكرين والسياسيين تنتابهم شكوك كثيرة بعد تعرض بلادهم او معتقداتهم ومشروعاتهم الفكرية او تياراتهم والسياسية الى هزات او هزائم كبرى، ولكن قليلين منهم الذين يكون لديهم جرأة وشجاعة الاعتراف بالقصور والثغرات فى ابنيتهم الفكرية.
***
·
ان غالبية التحولات الفكرية الكبرى، عادة ما تكون مقترنة باحداث وتغيرات كبرى وجسيمة تتعرض لها الاوطان التى ينتمى اليها المتحولون او العالم الذى يحيط بهم، أحداث مثل الثورات الكبرى كالفرنسية والروسية، أو الثورات الصناعية والتكنولوجية، او الحروب العالمية، أو الهزائم والانتصارات الكبرى وما يرتبط بها من سقوط أو صعود امبراطوريات أو دول أو أنظمة حكم، وغير ذلك من التغيرات والأحداث الكبرى.
· وفى حالة الدكتور عمارة وجيله من المفكرين العرب، كانت لهزيمة 1967 وانسحاب مصر من مواجهة العدو الصهيونى وتوقيعها اتفاقية اشبه الى الاستسلام فى كامب ديفيد، وظهور بوادر انكسار وتبعية وعجز النظام الرسمى العربى، فى تزامن مع تفجر ثورة شعبية غير مسبوقة تحت راية الاسلام فى ايران ضد حاكم من كبار عملاء الولايات المتحدة، وصمود الثورة فى مواجهة الولايات المتحدة، وما ارتبطت به من زخم جماهيرى لعشرات الملايين من المواطنين الايرانيين، طرح سؤالا مفصليا على كل المهمومين العرب بمشاكل مصر والامة العربية وبالبحث عن الطريق الى الخروج من الهزيمة، وهو سؤال عن النموذج الثورى الانسب لمجتمعاتنا. وهو ما استتبع بالضرورة اعادة نظر وتقييم للاديان عامة وللدين الاسلامى فى بلادنا على وجه الخصوص، وهل يمكن ان يكون له دورا رئيسيا فى تثوير الناس وتعبئتها فى مواجهة التفوق والجبروت الغربى الامريكى الصهيونى؟
· صدمة مماثلة حدثت، مع فارق المآلات، لقطاعات واسعة من الماركسيين فى مصر والوطن العربى وكل العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وانهيار الدول الاشتراكية وانتصار الغرب الراسمالى بقيادة الولايات المتحدة الامريكية فى الحرب الباردة التى استمرت منذ 1945 حتى 1991.
· وشيئ مثل ذلك يجب ان يحدث لكل النخب الفكرية والسياسية العربية والفلسطينية بعد ان عجزت ثلاثة او اربعة اجيال من الامة على امتداد قرن من الزمان، عن تحرير فلسطين وانقاذها من المشروع الصهيونى. وبعد أن عجزت المقاومة الفلسطينية فى نسختها الوطنية المتمثلة فى منظمة التحرير الفلسطينية 1964-1982، أو فى نسختها الاسلامية المتمثلة فى حماس والجهاد 1987-2020 عن النصر والتحرير رغم كل ما قدموه من تضحيات؟
· وقس على ذلك الاسئلة التى طرحت بمناسبة الذكرى المئوية لثورة 1919 التى كانت تسعى لتحقيق هدفى الاستقلال والديمقراطية، ولماذا عجزنا على
امتداد مائة عام عن تحقيق اياً منهما؟
·
وقائمة طويلة أخرى من الٍأسئلة التى من الطبيعى ان تثير شكوك الجميع فى قناعاتهم ومعتقداتهم، وتدفعهم دفعا الى الوقوف مع النفس والمراجعة والتصحيح؛ اسئلة على شاكلة:
· لماذا فشلت ثورة يناير؟ وغالبية الثورات العربية؟ وماذا كان دور ومسئولية كل منا فى هذا الفشل؟
·
لماذا تقدم اليسار والقوميون وتراجع الاسلاميون 1945-1977؟
·
ولماذا حدث العكس 1977-2013؟
·
ولماذا تصدرت الأجندات الليبرالية برامج ومطالب قوى الثورات العربية؟
·
وما هى مواصفات التيار او القوى الجديدة القادرة على انتشالنا من مستنقع الفشل والهزيمة والتخلف، بعد أن تعثرت كل تيارات الأمة؟
·
وكيف تغير بنا الحال من الوحدة والالتحام فى ميادين الثورة الى الانقسام والكراهية والتحريض على القتل والاجتثاث؟
·
ولماذا نختلف أو نتصارع او نتقاتل فى سوريا واليمن والعراق وليبيا؟
·
وقبل ذلك وبعده هناك سؤال الساعة عن السبيل لمواجهة واجهاض ما يسمى بصفقة القرن؟
· وأسئلة أخرى كثيرة
فهل تواتينا نحن ايضا شجاعة الوقوف مع النفس، للمراجعة والتراجع اذا لزم الأمر والتصحيح لمواصلة التقدم وتحقيق النصر؟
الله أعلم.
*****
القاهرة فى 5 مارس 2020
الدكتور محمد عمارة وشجاعة المراجعات الفكرية
محمد سيف الدولة
Seif_eldawla@hotmail.com