الدولة الأردنية في خدمة قطاع البنوك – د. لبيب قمحاوي
لا تُبدي الدولة الاردنية وحكوماتها المتعاقبة أية حساسية تجاه معاناة المواطن الأردني على مختلف المستويات وآخرها الزيادات الفاحشة المستمرة واللامعقولة في اسعار الطاقة ومنها البنزين والسولار والكاز وما يتمخض عن تلك الزيادة من زيادات عامة في اسعار المواد والخدمات المرتبطة بالطاقة، علماً أن المواطن الأردني مقبل على فصل الشتاء والبرد . إن نفس الحكومات تُظهر في المقابل حساسية مفرطة واستجابة سريعة في حماية مصالح قطاع البنوك في الأردن وفي تجاهل أي مطالب عامة من هذا القطاع بوجوب َتصَدُّر جهود دعم موارد الدولة لغرض التخفيف عن المواطن الأردني، وكذلك المساهمة الفعلية والحقيقية في دعم القطاعات الاقتصادية المنتجة من خلال تخفيف كلفة الاستدانة لغايات التنمية والاستثمار، بالاضافة الى المطالبة بضرورة الالتزام بالمادة 111 من الدستور والتي تنص على تطبيق مبدأ الضريبة التصاعدية كوسيلة لتحقيق العدالة والتوازن وتقليص الفوارق بين الطبقات في المجتمع الأردني .
قطاع البنوك هو القطاع الابرز في الأردن والأكثر وحشية في جناية الأرباح بشكل متزايد وفي التبجح بزيادة هذه الأرباح فصلاً بعد فصل وعاماً بعد عام بغض النظر عن المعاناة التي تسببها تلك الزيادة في الأرباح للمواطنين والشركات الصغيرة والناشئة المقترضة . فمثلاً قامت البنوك الأردنية بالإعلان عن زيادة أرباح 14 بنكاً بنسبة 43% كمعدل عام بنهاية الربع الثالث من هذا العام 2022، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الأردني من حاله من الانكماش والركود وتواجه العديد من القطاعات التجارية والزراعية والصناعية صعوبات تجعلها قريبة من حافة الافلاس . إن زيادة الارباح بمعدل عام 43% تعكس مدى الزيادة في الارباح مقارنة بالفترة نفسها من السنة السابقة وليس مجمل الأرباح مما يعكس التمادي الذي تمارسه البنوك الاردنية في استغلال المواطنين كافراد وشركات .
لم تكتف الحكومات الأردنية بإطلاق يد البنوك في جناية المزيد من الأرباح على حساب المواطن الأردني، بل وضعت نفسها وامكاناتها في خدمة ذلك القطاع والى الحد الذي جعل المواطن الأردني والعديد من قطاعات العمل في الأردن رهينة لذلك القطاع . وفي هذا السياق من الملحوظ أن الحكومة الأردنية الحالية كسابقاتها تتمتع بدرجة مذهلة من فقدان الحساسية تجاه ما يعانيه المواطن الأردني من صعوبات . والسبب يعود الى أن أولويات الحكومة تكمن في تعزيز قدرتها على الاستدانة الداخلية من تلك البنوك مقابل التغاضي عن مغالاتها في جني المزيد من الأرباح على حساب المواطن الأردني . وهكذا فمن العبث الادعاء بعدم وجود دور للدولة من خلال البنك المركزي في التسبب بمعاناة المواطن في الوقت الذي تستمر فيه النتائج الفصلية والسنوية في اظهار المزيد من الأرباح للبنوك الأردنية . وكما يعلم الجميع فإن الأرقام لا تكذب .
لا أحد يدعو الى إفقار البنوك أو انكار حقها في جناية الأرباح، ولكن بالمقياس نفسه لا أحد يريد أو يقبل بإستغلال المواطن وإفقاره من خلال اطلاق يد البنوك سواء مباشرةً أو بوسائل وطرق غير مباشرة في استغلال المواطن .ومثال على ذلك أن البنك المركزي الأردني قام خلال أزمة الكورونا ومنع التجول الذي استغرق شهوراً بإعفاء المدينين للبنوك من غرامة التأخير على تسديد القروض وهي مبالغ قليلة لا قيمة فعلية لها، ولم يقم باعفاء المقترضين من الفوائد سواء كلياً أو جزئياً وهي ما يشكل العبأ الحقيقي على المواطن أو الشركات المقترضة، علماً أن النشاط التجاري والمالي كان شبه متوقف خلال تلك الفترة، وكأن البنك المركزي الأردني كان يحمي أرباح البنوك وليس حقوق المواطنين والمقترضين.
إن ما يزيد المشكلة سوأً أن الدولة الأردنية لا تستعمل مواردها المالية للاستثمار في مشاريع انتاجية سواء مباشرة أو بالاشتراك مع القطاع الخاص، ولا تستعملها لتعزيز وتطوير البنية التحتية كما كانت عليه الأمور في عهد الملك حسين، وانما تستعملها بشكل يكاد يكون كاملاً إماّ لتمويل الفساد أو لدفع رواتب موظفي الدولة ومصاريف قطاعات معينة في الدولة . وهكذا يتم تسخير موارد الدولة في اتجاهات خاطئة تعزز الانفاق غير المنتج والعشوائي والجائر لدولة فقيرة محدودة الموارد تحتاج لتعزيز قدراتها الإنتاجية باستمرار انطلاقاً من مسؤوليتها العامة تجاه مجموع الشعب . وفي ظل غياب سياسة استثمارية حكيمة، ستبقى الدولة الأردنية تعاني من شح الامكانات مما يبقيها في حاجة مستمرة لتعزيز مواردها الأمر الذي يدفعها الى الاستمرار في ممارسة الجباية الضريبية الجائرة بغض النظر عن المعاناة التي تسببها تلك الممارسة للمواطنين بشكل عام .
إن النتيجة الحتمية لسياسة رفع الضرائب المستمرة والجائرة على العديد من السلع وأهمها مشتقات الطاقة هي التسبب في المزيد من البؤس والمعاناة للمواطنين بشكل عام . من الخطأ اعتبار المعاناة أمراً محصوراً بالفقراء أو محدودي الدخل . فالمعاناة هي موضوع نسبي يصيب الجميع بطرق مختلفة ولأسباب مختلفة خصوصاً إذا كانت مسببات المعاناة مفروضة من الدولة، وهي الطرف الأقوى في المجتمع، والتي تستطيع فرض إرادتها على أي فرد أو مجموعة دون أي اعتبار للنتائج أو التبعات .
يقترب الأردنيون بسرعة من حافة الألف دينار ثمناً للطن الواحد من مادة السولار أو الديزل وهي مصدر الطاقة لقطاع النقل وبالتالي الزراعة، كما أنها وقود التدفئة للكثير من المنازل وكذلك مادة الكاز وهي وقود التدفئة الأساسي للفقراء . إن إدعاء المسؤولين بالافتقار الى خيارات أخرى لدعم خزينة الدولة هو ادعاء غير صحيح لأن الحد من الانفاق العشوائي والتسيب والفساد هي أحد أهم وسائل السيطرة على العجز في الموازنة وبالتالي تقليل الحاجة الى اللجوء الى وسائل الجباية لسد العجز . كما أن الادعاء بوجود عدالة في الظلم من خلال المساواة في ظلم أفراد الشعب من منطلق أن الجميع متساوون تحت مطرقة الزيادات في الضريبة والأسعار دون تمييز بين الاغنياء والفقراء، هو ادعاء غير صحيح كونه يتناسى غياب القدرة على مواكبة الغلاء لدى الفقراء، مما يجعل من معاناة الفقراء أمراً أكثر حقيقة واكثر إستفحالاً وأكثر إيلاماً، بالاضافة الى أن الظلم يبقى ظلماً مهما اختلفت الصفات المرافقة له .
إن اختصار المواطن بالوطن والوطن بالدولة والدولة بالحكم والحكم بالحاكم هو مسار لن يؤدي في النهاية إلاَّ إلى الخراب والى اختصار المواطن باللاشئ . اللاشئ هو ما يؤدي الى الشعور بالضياع والاحساس المستمر بالظلم، علماً أن الظلم يصنع الثوار في حين أن الاحساس العام بالظلم يصنع الثورة .