الرئيسة نيكي هيلي! – عبداللطيف مهنا
من الخطل بمكان شخصنة السياسات الكونية الأميركية، كما ليس صائباً ولا مجدياً الانشغال العبثي في البحث عن تباين ما يعكس اختلافاً جوهرياً في سياسات الإدارات الأميركيه على اختلاف مسمياتها الحزبية جمهورية أو ديموقراطية، لاسيما فيما يتعلق بقضايانا العربية. نحن هنا لسنا إزاء دولة من دول ما يصنفونه بالعالم الثالث، ولكن حيال دولة أكثر من عظمى تشهد تآكلاً لآحادية قطبيتها، وباتت وجهاً لوجه أمام صيرورتها الأمبراطورية المحتومة الأفول، مثلها مثل ما خلت من امبراطوريات عرفهن التاريخ، كما أن تشبُّثها البادي بسطوتها الكونية هو ملازم لقدرية هذه الصيرورة ومن اعراضها.
هذا يعني أن سياساتها الخارجية قد يعبّر عنها على طريقته ذاك الشخص المتربّع على سدّة القرار في المكتب البيضاوي لكنه لا يصنعها، لأنه أصلاً لم يهبط في موقعه بمظلة قادماً من كوكب ما، وإنما هو نتاج لجملة من تدافعات داخلية صرفة وفي سياق هذه الصيرورة وتحت طائلة أحكامها.
…ويعني أنه لا بد من أن نضع في الحسبان هؤلاء الذين جاءوا بترامب وفريق إدارته، هذا المتبدلة شخوصة لمقتضيات الانسجام مع اندفاع توجُّهاته الخارجية والداخلية على السواء، إلى الحكم، ومعهم وقائع ومآلات الصراع المحتدم الآن بين الترامبوية الهائجة والدولة العميقة الكامنة، كعوامل حاكمة وإليها تحتكم كافة سياسات هذه الإدارة الخارجية منها والداخلية، وعليه، نلاحظ أن كثير من مواقفها الخارجية تصرف غالباً، ووفق الأسلوب الترامبوي، لدواع داخلية، أي أنها تخاطب قاعدته الانتخابية وتخدم مكاسراته الدائرة مع الدولة العميقة.
وحين نقول قاعدته الانتخابية، فنعني بها تلك التي تطربها تغريداته التويترية، مثار الجدل داخلياً واللهاث لملاحقة ما بين سطورها خارجياً، وهي كتلة صماء تعادل 30 إلى 40% من الشعب الأميركي، قوامها العنصريون من البيض، والإنجيليون الأقرب للمتصهينين لدواع عقدية، ومن هؤلاء نائبه بنس، اضف لهم معشر المحافظين واللوبي الصهيوني وكارتيلات صناعة الأسلحة.
ترامب في سياساته، التي قسمت بلاده إلى فسطاطين، وتداعياتها التي اثارت رياح القلق في اربع جهات الأرض، لم يزد على موالاته التزام الإيفاء بوعوده الانتخابية لمن انتخبوه وتنفيذها دون هوادة، كما أن مطابشاته ومهابشاته مع الأعداء والحلفاء على السواء، وبمظاهرها المتعددة، ومنها حروبه الاقتصادية، وابتزازاته لمحمياته وتابعيه في بلادنا، قد انعكست برداً وسلاماً على قلوب متضرري العولمة في بلاده، وحسَّنت، أقله آنياً، من أوضاعها الاقتصادية، وقللت من حجم البطالة. لذا، لا تستغربوا ازدياد شعبيته رغم كل ما تثيره سياساته ويثيره الفسطاط الآخر في وجهه من مشاكل، كما وليس عليكم أن تتفاجأوا إذا ما أطل على العالم من شرفة البيت الأبيض في فترة رئاسية ثانية.
ما تقدَّم نستحضره ونحن إزاء ما أثارته الاستقالة المفاجئة لنيكي هيلي، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، من تكهُّنات وتحليلات تدور حول أسبابها وما ورائها، لاسيما، وعلى غير عادة سائر الانسحابات والإستقالات والإقالات، التي رافقت الإدارة الترامبوية خلال سنيّها الإثنتين وباتت وكأنها من طقوسها، لم تسبقها تلميحات أو تصريحات ولا تسريبات، وزاد منه، ان المستقيلة هي من عصب هذه الإدارة، ومن أشد شخوصها انسجاماً وتناغماً مع التوجُّهات الترامبوية الخارجية، ومنها الموقف من الهجرة، مع أنها سليلة مهاجرين هنديين. هذا إلى جانب أن السبب الذي ساقته لاستقالتها، وهي تعلنها برفقة ترامب، أي “طلباً للراحة”، لم يكن مقنعاً.
قالت: إنها انما تنسحب” في الوقت المناسب، وبعد أن حققت المراد”…وماذا حققت؟!
اجابت، وتأملوا اجابتها وقد قالت: “إذا نظرنا إلى السنتين الأخيرتين فإن المجتمع الدولي يحترم الولايات المتحدة أكثر من ذي قبل، إذ قمنا بتنفيذ ما وعدنا بها في السابق، فيما يخص الأسلحة الكيميائية في سورية، وقمنا بتخفيض ميزانية الأمم المتحدة بحوالي مليار ونصف دولار، وعملنا على الملف الإيراني والكوري، وأظهرنا قدرتنا على تحريك الأمور في ملفّات أخرى، كما قمنا بنقل السفارة الأميركية للقدس، وهذا من حقنا”…ولا تنسوا، نحن هنا إزاء رؤية كيلي لمنجزات إدارتها، والتي لا تبتعد قيد انملة عن المنطق الترامبوي إياه ورؤيته لمنجزاته، هذه التي اثار سرد صاحبها لها من على منبر الجمعية العامة ضحك هذا المجتمع الدولي ممثلاً في مشاركيه في قاعة محفلها!
كافة التكهُّنات التي دارات حول استقالة نيكي هيلي تفتقر إلى تماسك، ونرى أن الأقرب إلى الصحة منها هو ذاك القائل بأنها تعد نفسها للترشُّح للرئاسة، إذ أنها تتمتع بشعبية في حزبها الجمهوري، والأمر ذاته لدى المحافظين، وسائر شرائح قاعدة ترامب الانتخابية، ولا ننسى اللوبي الصهيوني، ذلك لما تتمتع به من صفات على رأسها العنصرية المعادية للمهاجرين، والعداوة الزائدة للعرب والمسلمين…في مؤتمر “ايباك” الأخير صدحت “درع إسرائيل الواقي”:
“أنا انتعل حذاءً ذا كعب عال ليس من أجل الموضة، ولكن لأركل أي شخص يوجّه نقداً لإسرائيل”!
وهي إذ نفت أنها ستنافس ترامب كمرشح لفترة رئاسية ثانية بعد عامين، فهذا لا ينفي نيتها محاولتها خلافته في انتخابات العام 2024…ذلك إذا حسمت الترامبوية صراعها مع الفسطاط الآخر لصالحها.