الراية لمن يرفعها – عبداللطيف مهنا
لم يتبقَّ من اوسلو واتفاقاتها إلا “التنسيق الأمني”، بمعنى التعاون بين اجهزة سلطة “اوسلوستان” والمحتلين. هذه حقيقة لا يجادل فيها احد حتى في رام الله المحتلة. لم يعد الاحتلال، بل لم يك، ينظر لهذه السلطة إلا من خلال رؤيته لوظيفتها عنده، والتي يراها ذات وجهين: واحدهما، اداة امنية في خدمة أمنه، والثاني، وسيط بينه وبين شعبها، مهمته حصراً أن يكفيه شر الاحتكاك المباشر بشبه المعتقلات الكبيرة التي تحشر فيها التجمُّعات السكانية الفلسطينية في وطنها المحتل، وهذا بالتالي يعفيه من مسألتين: مسؤولية المحتل تجاه من هو يحتلهم على الصعد الحياتية والخدماتية وإعفائه من تكاليفها، وكلفة الاشتباك المباشر معهم لجهة مقاومتهم لاحتلاله. أي انها، أي السلطة، تؤمن له احتلالاً مريحاً على مستوى سبعة نجوم، ناهيك أن التغريبة الأوسلوية الكارثية أصلاً قد أمنت وغطَّت للمحتلين على مدى ما قارب الربع قرن وقتاً كافياً لتهويد غالب الضفة ومواصلة تهويد مالم يتم تهوِّيده منها بعد، أما القدس فلا من مجادل في أنه قد أُنجز تهويدها جغرافياً، ومطلوبهم الآن اكمال تهويدها ديموغرافياً، بالاجتهاد في سلوك شتى السبل والتفنن في وضع مختلف المخططات للتخلص من اهلها المقدسيين، ومنه، خنق كانتوناتهم المضيَّق عليها والمزمع تسويرها، مع مواصلة استباحتها وموالاة محاولة اختراقها تهويدياً، وكذا سحب الهويات، ومصادرة بيوت الشهداء، أو نسفها، أو اغلاقها بالاسمنت، وتشريد ساكنيها.
وإذ اندلعت الانتفاضة الشعبية الراهنة، لتستمر على هذا الشكل الفدائي الفريد ومن خارج سياقات السلطة والفصائل ودونما إذن منهما، اتاحت لكليهما، السلطة والفصائل، الخروج مما هما فيه، وبالتالي تخليص الساحة الوطنية من ازمتها…السلطة بالعودة عن مسارها الكارثي والخروج من هاويته المدمِّرة باللجوء لبرنامج حد ادنى وطني مقاوم مُجمع عليه يجمع شتات الساحة ويعيد العافية للنضال الوطني والاعتبار للثوابت الوطنية. والفصائل بالانفلات من تكلُّس وهرم وعجز لحق بها بتبني الانتفاضة، أو الالتحاق بها إن لم يك تصدُّرها، وانتهاز فرصتها لاعادة الاعتبار للمنطلقات التحررية المقاومة للنضال الفلسطيني المعاصر، الامر الذي يتيح لها فرصة تجديد الدماء في عروق قياداتها، بافساح المجال لجيل الراهن المثبت بفدائيته صلابةً ارعبت عدوه وابهرت عالمه، وبها وحدها اثبت أنه الكفيل بحفظ القضية، أو ما يستوجب بالتالي تسليمه الراية وإتمانه عليها.
بيد أنه، ومن اسف، بدلاً من اغتنام هذه الفرصة التي تتيحها دماء وتضحيات وبطولات جيل مابعد اوسلو وما تلى الانتفاضتين الأولى والثانية، لم تغادر سلطة اوسلو وفريقها مربَّعها الأول، ولا هناك ما يشي لديها بإمكانية الكف عن المراهنة العدمية على مزمن الاوهام التسووية التصفوية، أو استجداء عدالة ممن تصفه ب”المجتمع الدولي”، أو الغرب المتصهين بالمعنى الأدق للكلمة، وموالاة تعليق الآمال الخلبية على تبدُّل يطرأ في المواقف الاميركية حيال “اسرائيل الأميركية”، وانتظار غيث هذا التبدُّل المشتهى من حقبة رئاسية اميركية إلى أخرى، او لوثة جنوح صهيوني مفاجىء للسلمية المأمولة، وصولاً إلى التسلي بتضخيم مظاهر التعاطف الشعبي مع القضية في المجتمعات الغربية على هامشيته بالنسبة لاتخاذ القرارات في تلك المجتمعات. أما الفصائل فما من مجادل في عجزها حتى اللحظة أولاً، وخشيتها من كلفة تبني الانتفاضة أو الالتحاق بركبها ثانياً، وبالتالي وقوفها موقف المتضامن معها المتفرِّج عملياً عليها، ناهيك عن اكتفاء اغلبها بدور المعارض لا المناقض للنهج الأوسلوي.
كنت لسنين خلت، وكتبت لمرات، أقول بأن مشكلة الشعب الفلسطيني هى دائما في نخبه التي لا ترتقي لمستوى تضحياته، ودائماً دائماً في قياداته. ومنذ ما قارب العقد عبرت عن ايماني بأن كافة اشكال النضال الفلسطيني العنيد، والتنظيمية منها بوجه خاص، والتي جرَّبها هذا الشعب وقدَّم فيها اسمى آيات التضحية والعطاء، وعلى مدار ما شارف على القرن، إن هى قد راكمت مخزوناً كفاحياً هائلاً، فهى في ذات الوقت قد فشلت في مردودها الذي لم يتساوى مع اسطورية صمود وصلابة وبذل هذا الشعب المناضل المضحي في سبيل فلسطينه، وعليه، لابد وأن يبتدع هذا الشعب المكافح اشكاله النضالية الجديدة البديلة والمختلفة والمستندة في آن لموروثه النضالي المشار اليه ولا تقطع معه، وهو دائماً لها، وتثبت الانتفاضة الراهنة أنه كذلك. وعلى من انحرفوا عن درب النضال، أو تساقطوا على جنباته، أو تعبوا، وكذلك من عجزوا، أو هرموا وتكلَّسوا، تسليم الراية لجيل هو أهل لحملها…جيل يثبت هذا يومياً ويخطه بدمه على امتداد خارطة الوطن، كل الوطن، من ضفته المقموعة إلى غزته المحاصرة مروراً بساحله السليب، ومن جليله شمالاً إلى اعماق نقبه جنوباً.
إن ارهاصات تطوُّر اشكال وادوات انتفاضة الراهن الفريدة، التي اختلطت واختلفت وتعددت مسمياتها عند العدو والصديق، من انتفاضة السكاكين إلى انتفاضة الفدائيين، تؤشر على أننا ازاء تبلور هذه الاشكال النضالية الجديدة، في هذه الانتفاضة، أو ما سيتبعها من انتفاضات لن ينقطع تواترها ما دام هناك احتلال، وفي مديات إن لم تك منظورة فلن يطول انتظارها…هؤلاء الفتية والفتيات يعيدون بفدائيتهم الاعتبار للنضال الوطني. يعيدونها لثوابته، لمسلماته، لمنطلقاته، لدفق والق ونقاء البدايات. يعيدونه لكونه كان ويظل نضالاً مقاوماً وجوباً وبالضرورة، وتحررياً تصنيفاً وطبيعةً. ولأنه صراع وجود ومسألة بقاء، فابطاله يقطعون بعملياتهم الفدائية بأنه ما من علاقة ولا من وشيجة له بهابط بائس المسارات التفريطية التسووية التصفوية ولن تكون…لن تكون لأنه نقيض بالكامل لها.