الرسائل بين شقي البرتقالة الفلسطينية – شاكر فريد حسن
لا شك أن وفاة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم ومن قبله صنوه ورفيق دربه المبدع محمود درويش يشكل فاجعة ثقافية بل انتكاسة كبرى وخسارة جسيمة بكل المقاييس لحركة الإبداع الفلسطيني المقاوم والملتزم ، وللحركة الثقافية والوطنية الفلسطينية المعاصرة ، لأنهما من أبرز مؤسسيها وروادها ومبدعيها وفرسانها وكواكبها الساطعة والمضيئة ، وتركا بصماتهما الواضحة في فضاءاتها ، وكان لهما الدور الإسهامي النضالي والمقاوم في صيانة وحماية وتعزيز الهوية الفلسطينية والدفاع عن حقوق شعبنا الوطنية ، وكونهما قامتان ثقافيتان وسياسيتان وكفاحيتان متميزتان حلقتا في سماء المعرفة والثقافة الإنسانية الكونية .
وهما يعدان من مؤسسي أدب الرسائل الفلسطيني الحديث من خلال رسائلهما التي تبادلاها منذ فتوتهما الشعرية والزمنية ، ونشرت على صفحات “اليوم السابع” في باريس ، وفي الملحق الثقافي لصحيفة “الاتحاد” العريقة في حيفا ، وصدرت في كتاب “الرسائل” عام 1989 عن دار “عربسك” الحيفاوية ، وأعادت دار “العودة” في بيروت إصدارها عام 1990 . وكان الكاتب القصصي الفلسطيني محمد علي طه أطلق عليها رسائل بين شقي البرتقالة الفلسطينية ، لأن صاحبهما فعلاً وحقاً يشكلان شطري البرتقالة الفلسطينية .
وقدم للرسائل الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي تحت عنوان “هيك مشق الزعرورة ، يا يمّة هيك ” ، مؤكداً أن هذه الرسائل ” لم تكن مجرد قطرات دمع من عيون بخيلة بالدمع بل مشي حجلان كبيرة تسير وراءها أفراخها قاطعة ، بأمان ، عرض شارع معبد بالزفت والقطران “، ويرى في ضجة العصافير شطراً في سمفونية مجانية كمبشر بقدوم الربيع في بلادنا .
جاءت هذه الرسائل في ثلاث حزم ، الحزمة الأولى وتضم قصيدة “تغريبة إلى محمود درويش ” لسميح القاسم ، وقصيدة “أسميك نرجسة حول قلبي ” لمحمود درويش ، فيما تحتوي الحزمة الثانية على الرسائل النثرية المتبادلة بين هذين الشاعرين المبدعين الكبيرين .أما الحزمة الثالثة والأخيرة فتشمل الرسائل التي كتبت بعد تفجر الثورة الشعبية الديمقراطية الفلسطينية في المناطق المحتلة ، ثورة الحجارة ، ما عدا رسالة واحدة كتبها درويش بعد إنشاء أول اتحاد للكتاب العرب الفلسطينيين في الداخل ، وهنأ فيها باسم الكتاب الفلسطينيين في المهاجر والمنافي القسرية بانتخاب القاسم أول رئيس للاتحاد بالإجماع ، وانتقد الأصوات التي شككت بشرعية الاتحاد .
وفي هذه الرسائل نلمس المشاعر الحميمة الفياضة والأحاسيس الصادقة بين مبدعين تميزا بالخصوصية الفلسطينية ، وجمعتهما العقيدة والفكر الواحد والإحساس الوطني المشترك والهم الواحد والمعاناة الواحدة والقضايا المشتركة والصداقة العميقة والشاعرية الفذة والخاصة ، وحتى عشق فتاة واحدة – كما صرحا في احد الرسائل .
وتحمل هذه الرسائل في ثناياها وطياتها نبوءات للزمن الآتي ، وأشواق وذكريات الطفولة والشباب والمراهقة ، فضلاً عن أراء وأجندة سياسية وفكرية حول العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية ، وكذلك أناشيد للمقاتلين الفلسطينيين الذين يذودون وينافحون دفاعاً عن الوطن والمستقبل ، ويعمرون بنيان الدولة الفلسطينية ويؤسسون المجتمع الإنساني الفلسطيني الديمقراطي الجديد . يقول سميح في رسالته “قبلة الحجر” : ” وهكذا فأنت ترى اننا دائماً نعود . نقلع في جهات الأرض والجسد ، نغيب في خبايا الروح ، ونعود . دائماً نعود ، إلى ملمس العينين ، إلى بصر القلب وبصيرة الأصابع ـ إلى هنا ، حيث يكمن الحجر النظيف بجوار شجيرة القندول المزدهرة شتاءً في اعقاب شتاء ، نعود إلى الولادات المنتظرة وغير المنتظرة في فوضى هذا الزمن الجارح والمدهش في آن “.
تتسم رسائل سميح القاسم ومحمود درويش بأسلوبها الشائق والممتع وكلماتها الرقيقة ومعانيها الراقية ولغتها العذبة الصافية وصدق توجهها ووضوح رؤيتها . وهي تمثل ثروة لثقافتنا الفلسطينية ولأدب الرسائل بشكل خاص ، وكنا نتلهف لقراءتها في ملحق الجمعة لصحيفة “الاتحاد” .
لقد مات سميح القاسم ومحمود درويش وبقيت رسائلهما للتاريخ والذكرى وللأجيال الفلسطينية الحاضرة والقادمة ، ماتا وهما يمسحان دموعهم التي انهمرت من عينيهما بمناديل الكلمات الشاعرية التي رافقتهما منذ صباهما ومطالع شبابهما حتى اللحظات الأخيرة من عمرهما الطافح بالإبداع والعطاء والنضال والمقاومة والدفاع عن قضية شعبنا الوطنية ، التي كانت محور كل ما كتباه وأبدعاه من نصوص شعرية ونثرية . فلهما البقاء والخلود ، والعظماء مثلهما لا يموتون ، بل يتجددون بعد مماتهم .
الرسائل بين شقي البرتقالة الفلسطينية – شاكر فريد حسن