الروائي وليد أبوبكر أربع روايات..ثم صمت! – رشاد أبوشاور
قد يبدو نتاج وليد أبوبكر الروائي قليلاً، ولكن منجزه الأدبي، حضوره ومتابعته للحركة المسرحية في الأقطار العربية مشرقا ومغربا، وعمله الصحفي مشرفا ثقافيا يتابع بنشاط وجدية كل ما هو جديد وذي مستوى..روائيا، ومسرحيا، وشعريا..عربيا، مسهما بالإضاءة على تجارب جديرة بالاهتمام، وهو ما أعطى فرصا لكثير من الكتاب العرب، في بلدان الخليج، وبلاد العرب، وانطلاقا من صحافة الكويت التي احتلت حضورا بارزا في الستينات، والسبعينات، والثمانينات.
وليد ابوبكر متعدد، لذا فما قدمه روائيا هو جانب، من حيث الكم، ولكن حضوره الغني الفسيح منحه ما يستحق من تقدير على المستوى الثقافي العربي، مع التذكير بترجماته، وبدوره كناشر بعد عودته لرام الله.
من جديد أعود لقراءة روايات وليد الأربع، وأتساءل بيني وبين نفسي: كيف استقبلتها عند صدورها، وفروغي من قراءتها؟
لم أجد جوابا واضحا، وكل ما أتذكره أنني اهتممت بقراءتها، وأنني أحيانا تبادلت الرأي حولها، شفويا، تحديدا مع صديقي الشاعر أحمد دحبور المتميز بقراءاته الجادة التي تجلّت في كتاباته حول كثير مما يقرأ.
الآن أعود لقراءة روايات وليد، وقد بعد الزمن بيني وبينها، بذائقة تختلف، وبعمر مضى منه الكثير، وفي زمن مرهق، مفجع بأحداثه، ويعاني من جدب ثقافي عربي رغم الزحام، والجوائز.
رواية وليد الأولى صدرت عن أكبر وأهم دار نشر عربية، هي (الآداب) اللبنانية في عام 1979، وأن ترحب الاداب بنشرها فهذا يعني أن مديرها الدكتور سهيـل إدريس قد وجد في الرواية ما يستحق النشر.
لا بد من عودة سريعة إلى ذلك الزمن ثقافيا، فآنذاك كانت الفلسفة الوجودية، وكتابات أعلامها الروائية والفلسفية قد ازدهرت..وتسيّدت، وتفشت بين المثقفين وتم تبنيها فلسفيا..وفنيا، وأسئلة وجود.
رواية وليد الأولى (العدوى) صدرت في ذلك الزمن، وهو لم يكن كاتبا ناشئا، فهو كان قد بدأ رحلة حضوره بعلاقاته بالمسرح العربي، وبصحافة الكويت واسعة الانتشار- القبس..والوطن- وبمشاركاته في المواسم الثقافية، والمهرجانات العربية.
قرأت( العدوى) وتساءلت: ماذا أراد وليد من هذه الرواية؟
ثم سألت نفسي: كيف سأعرف ما دار في ذهنه، وما دفعه لكتابتها آنذاك، قبل أزيد من أربعة عقود؟
هذه الرواية لا تقع أحداثها، وأحداثها قليلة جدا، في مكان بعينه، وهو بهذا أراد أن (يعمم) أسئلة الرواية على مساحة واسعة غير محددة بمكان محدود صغير في الوطن العربي، فلو فعل لصارت الرواية عملا روائيا آخر يبتعد عما فيه من أسئلة وجودية تترافق مع أسئلة ذلك الزمن (الثقافي) السائدة.
في حوار معه يقول وليد: أعجبت بالوجودية، وقرأت اللامنتمي..وهكذا فهو يعترف بتأثره، وهو ما نستشفه من روايته (العدوى) حتى لو لم يفصح عن هذا التأثر.
في (العدوى) حكاية هي حكاية العدوى التي تسببت بها سلوى لنبيه، وسلوى هذه فتاة أجبرها والدها على الزواج من كهل..مات و..ترك لها ثروة، فانفلتت باحثة بجوع يؤرقها عمّن يشبع نهم الجسد والنفس التي قمعت وأكرهت على الاقتران بعجوز أتلف شبابها و..رحل.
لم تبح لنبيه بأنها (مصابة) بالمرض – ماهو هذا المرض؟ لم نعرف طيلة الرواية، فالروائي معني بسلوك شخوص ( العدوى) لا بطبيعة المرض، وكأنه يقول: المرض هنا نفسي، روحي..حالة شقاء، تيه، ضياع..و..بحث عن حب حقيقي ينقذ النفس الشقية.
يُنقل نبيه إلى المستشفى، وهناك يلتقي باليائس سليم..المستسلم للمرض، أمّا نبيه الذي يدعمه صديقه رؤوف..وحب شقيقته بشرى، لنلاحظ الإسم، فيقويان من مقاومته، وتجد بشرى فيه الحب الذي انتظرته، ولذا تسعى لإبعاده عن سلوى..وتستعين بالممرضة (أمل) التي باتت صديقتها بعد أن تبددت هواجسها بالشك في أن الحب هو محرك أمل في العناية بنبيه..فاطمأنت لها، وباحت لها بحبها لنبيه، وبشكوكها في مواصلة سلوى محاولاتها استرداده بعد اكتشافه أنها هي من نقل العدوى له.
قارئ الرواية يمضي مع فصولها التي تروى بالتناوب بين شخوصها، وتختتم بالفصل الخامس الذس يرويه سليم..الذي انتقل من قاع اليأس إلى المقاومة والتفاؤل متاثرا بتجربة نبيه زميله في المستشفى..والحب الذي جمعه مع بشرى.
في الرواية يكون الحب هو الخلاص، والمقاومة هي الخلاص..هي الانتصار على (العدوى) ..على المرض، للخروج من اليأس إلى الحياة المتفائلة.
تأثر وليد بالمسرح قراءة ومشاهدة ومتابعة، وحتى كتابة، تتجلى في رواية (العدوى)، فالحوار هو الأساس، وهو غالبا ينحو للتأمل، للتفلسف، لطرح الأسئلة ..على النفس، وعلى الآخرين، ويضئ دواخل الشخصيات، وأسباب قلقها.
العدوى رواية أصوات تتكون من خمسة فصول، يروي الفصل الأول نبيه، ويضعنا معه، وهو في عيادة الطبيب..أمام (مشكلته)، والحوار مسرحي:
– لكن ما تقوله لي خطر. أعرف عنه. لم يحتمله إنسان. هل هذا يعني…
– خطر..أجل.لكن نتائجه في يدك، والإنسان قادر على أن يقاوم الجسم الغريب، إذا عرف كيف. وما تعرفه ليس الحقيقة كلها. صحيح انه جزء من الحقيقة كلها..صحيح انه جزء من الحقيقة، لكن هذا يبقى الجزء الآخر، الذي قد لا يكون كبيراً…
من هنا تبدأ الرواية، ومعاناة نبيه، ويتقاطع مصيره مع آخرين.
في فترة كتابة وليد أبوبكر لروايته كانت الرواية العربية تنتقل من الرواية الواقعية، رواية الوصف والسرد البطئ..إلى رواية الأصوات، والتقطيع، والمونتاج، بتأثير السينما، والمسرح، والترجمات التي ملأت واجهات المكتبات العربية بالروايات العالمية لأشهر الكتاب، وبالتلفزيون، والصحافة، والصراعات التي شغلت العرب في كل أقطارهم.. والتطلعات إلى حياة جديدة مختلفة في حياة العرب.
كان طبيعيا أن يكتب وليد رواية (حديثة) لا تثقل على القارئ بالسرد الممل، ولكنها تشغل تفكيره بالأسئلة، وتفتح أمامه باب الأمل.
يقول رؤوف لصديقه نبيه:
– دع عنك هذا الخوف، وعليك أن تواجه الأمر كما هو. في هذا المرض ليست العدوى هي القضية، بل من يستعد لقبولها.
– ماذا تعني؟
– ما قلته لك كثيرا، وما أرجو أن تسمعه الآن. هذا الجسم له طاقته وحدوده، وحوله أعداء في كل مكان، يبحثون عن ثغرة، فإذا ضعف دخل الأعداء إليه فورا، تماما مثل المدينة المحاصرة التي تبذل كل جهودها في الاستمتاع دون أن تعد جنديا ليحميها…(ص 79)
الفصل الثاني ترويه سلوى:
تطلع والدي في وجهي بحدّة وصرخ:
– ستتزوجينه.
لم يكن بيدي أن أحتج. كان الأمر قاطعا. وكل الظروف لا تسمح لي بأن أقول لا. لأنني سأختار السكين.
والسكين ستحز عنقها لتبتر رأسها، هي الفتاة العربية التي تتمرد على رأي (الأب) فالمجتمع الذكوري الأبوي بالمرصاد لها.
من هنا بدأت مأساة سلوى، ناقلة العدوى لنبيه الذي كان آخر من (التقطته) في رحلة بحثها عن رجل (مختلف) يمنح حياتها معنى.. فمنحته (العدوى).
هي ليست مؤذية، فهي تتمنى لو تستعيده بعد أن اكتشف، وترغب لو تنبئه وتصارحه بأنها السبب في (عدواه):
_ لو عرف نبيه أنني لم أعد أدخن، لم أعد أشرب، لم أعد أرقص، لم أعد أسهر، لم أعد أعرف أحدا..لو عرف… (ص 86)
تعترف سلوى لنفسها: قد لا تكون حياتنا حبا، لكنها كانت مشاركة. كنت آخذ منه وأعطيه…(87)
امرأة قلقة، ذات ماض بلا حب، تجاربها .. كما نستشف، لم تغيّر نفسيتها وتنقلها إلى حب يعطيها ويغيرها.
في نهاية الفصل تبوح لنفسها: كنت حاقدة عليه. كنت أريد أن أنتقم. هل يتصور أنه يذلني؟ ..قذفته من ذاكرتي. تطلعت في عيون الناس، في عيون الرجال. كنت أبحث فيها عمن أستطيع أن أشير له دون تردد. أن أسعى إليه. أن أهتف في وجهه بجرأة وحشية: أنت الذي أريد!. (ص91)
الفصل الثالث ترويه أمل، الممرضة، وفيه نعرف أنها كانت مريضة، وأنها تعلمت من تجربتها مع المرض كيف تعتني بالمرضى: لم يكن لي يد في المرض. كنت صغيرة. في منزل تسكنه عائلة كبيرة. كانت كل مصائب الفقر تعيش في المنزل. قبلي أخوة تركوا المدرسة، وبعدي أيضا. لكن المرض فتح لي طريقا صغيرة لأستمر قليلاً.(ص92)
نتعرف بأمل ممرضة تعتني بالمرضى، وتواسيهم، وتشجعهم، وبهذا تكون قد انتصرت على المرض (العدوى) و..تجاوزته إلى العطاء بسخاء.
هي تعرفت على سلوى، ونصحتها كثيرا أن تعتني بنفسها، واطلعت على علاقتها بنبيه، ثم..على حب بشرى لنبيه.
تصف أمل (سليم) بأنه إنسان فقد طموحه تماما، لا يهمه أن تسير الأيام أو تقف.
ولأن (أمل) ممرضة، فهي تنخرط معه في نقاش حول حالته، حتى إنها لا تتحرج من الحديث معه عن ضرر الجنس راهنا به..و..أنه سيعود للمارسة بعد الشفاء.
تتعمق معرفتنا بحالة نبيه من خلال ما دونته عنه (أمل) و..حرصه على إرضائها كممرضة، وهو ما أراحها، على عكس سليم اليائس دائما..وغير المؤمن بإمكانية الشفاء.
تنهي (أمل) بوحها: رأيت السعادة في عينيه، تركته يعيشها. مضيت إلى مكتبي، دخلت مكتب الطبيب، أغلقته، بكيت، كنت سعيدة إلى حد البكاء.
يحدث هذا مع أمل بعد أن نبهت نبيها إلى حب بشرى له، ورأت السعادة في عينيه.
أيعقل أنها بكت لفرط سعادتها بجمع قلبي نبيه وبشرى؟ أم لأنها ودت لو أن حب نبيه لها، هي التي قبلته قبلة سريعة في فمه، وارتاحت لاستجابته لأوامرها في العناية بصحته؟ هي معطاءة..ولكنها أيضا تملك قلبا في صدرها.. ولكن!
الوحيد الذي لا يروي فصلا بنفسه، وعن نفسه، وعمّن يحيطون به، هو رؤوف، ولكن شقيقته تروي الفصل الرابع، وتبدي لهفتها وخشيتها من سلوى على نبيه..نبيه الذي شغل قلبها منذ عرفها به شقيقها.
تعيش بشرى مع شقيقها وحيدين، هو بلا زوجة، وهي ..تنتظر! وهما معا بلا أب ولا أم ولا أخوة!
الكاتب يحرّك شخوص روايته وكأنهم على خشبة المسرح، وما يشغله نهاية الصراع بينهم، ومواجهة (العدوى) التي تغزو حياتهم، وتفسدها، وتضعهم أمام خيارات تحدد مصير كل فرد منهم.
لعل فصل الختام – هو فصل الأمل.. والفوز، ومغادرة كابوس تلك (العدوى)، ففيه يسرد سليم حكاية تحوله من يائس محبط إلى إنسان يعديه (نبيه) بتفاؤله.. وإقباله على الحب مع بشرى، فتستيقظ روحه، ويفتح النوافذ لتدخل نسائم الحياة المنعشة الصحية…
ابتسامة نبيه كبيرة. ابتساماتنا. كنا معا..كنا جميعا معا…
قال وهو يدخل داخل السيارة :
– لعلك تعلمت كثيرا…
قلت أودعه، والفرح حزين:
– لعلنا تعلمنا .. أن نبدأ من جديد.
هذا هو مشهد الختام لمغادرة نبيه المستشفى مع بشرى، وانتهاء حقبة التشاؤم في حياة سليم…
ولا ننسى هنا أن الروائي تربى في صفوف قوى اليسار، ولذا فهو لا يبشّر باليأس، ولكنه يدعو للمقاومة حتى يتحقق الأمل.. الشفاء، والانتصار على المرض، كائنا ما كان هذا (المرض) الذي يحتل الأجساد.. ولا يمكن الانتصار عليه إلاّ بالإرادة والمقاومة.
هل قالت رواية وليد أبوبكر أفكارا رافقته من بداية رحلته الروائية، والكتابية، وما زال يطورها و..يعمقها؟
بالتأكيد.
الروائي وليد أبوبكر
أربع روايات..ثم صمت!
رشاد أبوشاور