الرّقة في العينين مهمة ثقافية على ضفة الفرات -رشاد أبوشاور
الرّقة في العينين
مهمة ثقافية على ضفة الفرات
رشاد أبوشاور
أتوجه للقتال دفاعا عن فلسطين
كي لا يتهدد الخطر اليهودي مدينتي الرقّة
الدكتور عبد السلام العجيلي
الروائي ، القاص، الشاعر..الطبيب
في احتفالية يوم الثقافة السوري التي أقيمت على أرض الخير والعطاء: الرقّة درّة الفرات، أقيم مهرجان الدكتور عبد السلام العجيلي للإبداع الروائي…
دُعيت فلبيّت، وهل لي أن أتأخر أو أتردد، أنا الذي بشّر بانتصار سورية العروبة وعاصمتها العريقة دمشق محاصرة، وحين كانت تقصف صباح مساء من جوبر وداريا، ومن أمكنة بعيدة، بالصواريخ الثقيلة المدّمرة التي زوّد بها القتلة الذين فتحت لهم كل حدود سورية، وبكّل صنوف أسلحة التدمير، وأُنفقت عليهم مليارات الدولارات من دول النفط والغاز بتوجيه أمريكي وغربي استعماري، وشحنوا بخطاب ديني وهابي طائفي مريض متخلّف حاقد ومستأجر…
كنت أتوجه من عمّان بالطائرة إلى بيروت، ثم من بيروت بالسيارة برّا إلى دمشق غير آبه بالتحذيرات من مخاطر الطريق. وكنت أصل إلى دمشق، وأحيانا ليلاً بينما الظلام يشملها، فأهتدي بنبض القلب..أنا الذي عشت فيها طفولتي وشبابي، فأزداد إيمانا بأنها ستحطم الحصار، وستنهض، وستبقى عاصمة سورية العروبة، وكل بلاد الشام..وفلسطين جنوبها ومحط نظر عينيها دائما.
صبيحة الجمعة انضممت أنا وصديقي الروائي والقاص الدكتور حسن حميد، وكنا ننتظر أمام مبنى اتحاد الكتاب العرب، في الساعة التاسعة، إلى رفاق الرحلة: الصديق نذير جعفر الناقد والروائي منسّق الرحلة والمهرجان، القاص والسيناريست حسن م يوسف، الدكتور عاطف البطرس الأستاذ الجامعي والناقد، الدكتور غسان غنيم الأستاذ الجامعي والناقد، الدكتور طلال الحديثي الناقد العراقي المقيم في دمشق، المحامي الروائي محمد أحمد الطاهر ورفقته زوجته، وهو من الرقّة،..وانطلق بنا الميكرو في رحلة لا بد من وصفها بالشجاعة.
وجهتنا الرقّة التي لن ندخلها لأن فيها مجموعات( قسد) الكردية، وعلى مقربة منها أميركان يضعون أيديهم على بعض آبار النفط السورية!
سيقام المهرجان في بلدة السبخة –جارة الرقة على ضفة نهر الفرات…
مررنا بالنبك، وها قد وصلنا مدينة حمص، وعبرنا شوارعها، ورأينا بعض الدمار في الأمكنة التي احتلتها داعش، ولكن المدينة نهضت وضجّت بالحياة بعد ما حررها الجيش العربي السوري.
في حمص أوقف السائق الميكرو لنصطحب الروائي غسان ونوس، والروائية توفيقة خضور، والكاتب منير الحافظ، والدكتور عبد الله الشاهر…
المسافة بين حمص وحماة قريبة، فهما جارتان تتقاسمان مياه نهر العاصي، والنكات عن علاقتهما لا تنتهي، ومن حماة واصلنا إلى مدينة السلمية المشهورة كما كان يصفها الراحل الكبير محمد الماغوط بالشعر والبصل!
كان لا بد من التوقف في السلمية لتناول طعام الغداء في أحد مطاعمها…
من مشهوري السلمية شاعر قصيدة النثر سليمان العوّاد، وتلميذه من بعد محمد الماغوط، وأبناء الجندي: سامي، إنعام، علي، عاصم..وكلهم اشتهروا كتابا وشعراء وصحفيين. والشاعر فايز خضور، وهو من أهم الأصوات الشعرية السورية، وقد نشأت بيننا صداقة منذ مطلع الستينات، ومن شعراء السلمية إسماعيل عامود..إنها حقا مدينة مدهشة بتاريخها، وبمثقفيها، وفنانيها.
ها قد هبط المساء، والآن نستأنف الرحلة التي ستحتاج إلى أزيد من أربع ساعات، على طرق محفّرة، محفوفة بالمخاطر، رغم أن الجيش العربي السوري حررها، ووصلت وحداته المقاتلة إلى نهر الفرات، وهي تقف على مقربة من الرقّة متحفزة لتحريرها.
بينما الحافلة تمضي بنا، مهتزة، مرتّجة، منعطفة انعطافات سريعة مباغتة، كنت استعيد وقائع زيارة الرقّة قبل سنوات والمشاركة في مهرجان العجيلي، واتجاهنا إليها من مدينة حماة في رحلة سهلة آمنة! كان ذلك قبل زمن وحشية داعش وأخواتها وضخ أموال النفط لتدمير سورية برعاية أمريكية صهيونية..لم تعد خافية.
استعدت في ذاكرتي لقائي الأول بالدكتور عبد السلام العجيلي في بيت شاعر فلسطين الكبير عبد الكريم الكرمي ( أبوسلمى) وإهدائه روايتيّ: أيام الحب والموت، والبكاء على صدر الحبيب، وتذكرت أول قصة قرأتها له أحضرها لي صديقي الشاعر فوّاز عيد، وكانت مقررة على طلاب قسم الأدب العربي في جامعة دمشق، ومسحوبة على الستناسل، وبعنوان: النهر سلطان..وهي عن نهر الفرات، وعن فلاح وابنه..وكيف ابتلع النهر ابن الرجل الذي كان يسير وراء والده. تلك القصة جذبتني لقراءة كتابات العجيلي، وفي مقدمتها روايته التي اشتهرت في نهاية الخمسينات بعنوان( باسمة بين الدموع).
العجيلي تخرّج طبيبا، وانتخب عضوا في البرلمان السوري عام 1947 وكان دون الثلاثين، وحين وقعت الحرب في فلسطين قرر التوجه للقتال في فلسطين.
حاول عمه، وهو الذي رعاه وشجعه على دراسة الطب الحؤول دون توجهه إلى فلسطين، وقال له: علاجك لفقراء الرقة وقرى وبلدات الفرات هو جهاد يا عبد السلام..ولكن عبد السلام العجيلي رأى أن دوره القتال في فلسطين حتى لا يصل اليهود إلى الرقة في يوم من الأيام.
بهذه الرؤية القومية فهم العجيلي البعد القومي للصراع مع الهجمة الصهيونية على فلسطين..ومبكرا، وجسّد المثقف العضوي بدون تنظير، وقبل أن يسمع بنظرية ( غرامشي) عن دور المثقف العضوي!
يشق ضوء السيارة الظلام أمام السائق..وعيوننا المحدقة تحاول أن ترى شيئا مما يحيط بنا، فلا نرى سوى خط أسود محفّر، ومطبات مباغتة يتفاداها السائق البارع المخضرم ( أبويحي) الذي يقطع صمته بإشعال سيكارة بين وقت وآخر.
تتساءل الروائية توفيقة خضور: ماذا تتوقعون؟ وتلتفت باتجاهي، فأجيب ضاحكا: إن أسرتنا داعش ستأكل أكبادنا..وأميل على صديقي حسن م يوسف: فأسأله ضاحكا: هل يأكلون الأكباد قبل القتل..أم بعده؟ وأضيف، بينما تتعالى الضحكات: أفضل أن يأكلو كبدي بعد قتلي…
وإن أسرنا غيرهم؟ أجيب: إن كانت قسد فالجيش العربي السوري سيحررنا لأنه، كما رأينا متحفز على النقاط التي مررنا بها..وارتفع صوت سائلاً: وإن وقعنا في أيدي الأميركان؟! قلت: بسيطة: سنسألهم سؤالاً واحدا: أنتم حضرتم إلى سورية بحجة نشر الديمقراطية، وها أنتم تحتلون آبار النفط..فبماذا تجيبون؟!
أربع ساعات ونصف تقريبا حتى رأينا أضواء تمتد كالسيف، فارتفعت الأصوات: إنها الرقة..وإذ تهادت السيارة بنا متمهلة، فتح ( أبويحي) نافذة السيارة فرأينا وجوه جنود الجيش العربي السوري، وسمعنا: أأنتم وفد وزراة الثقافة؟ وأبو يحي يجيب: نعم..وفجأة يرتفع صوت: اتبعنا يا أخي..فيحرك أبويحي الميكرو ببطء، ونصل بسرعة إلى بيوت ..وأمام بيت كبير مطّل تتوقف سيارتان كانتا في المقدمة..فيوقف أبويحي الميكرو، ونبدأ في الهبوط.
الظلام شامل، ولكن البيت المرتفع الفسيح مضاء، وثمة أشخاص يرحبون بنا، ويحمدون الله على سلامتنا، يتقدمهم الشيخ ( أبوالزعيم) عضو مجلس الشعب..مضيفنا في بيته.
هنا، في هذه البلدة ( السبخة) جارة الرقّة سيقام الاحتفال، وهي تقع على الطرف الجنوبي من الفرات، والتي عُيّن الدكتور العجيلي فيها بعد تخرّجه،ثم نقل إلى الرقة فيما بعد.
المواطنون هنا يعرفونه،لأنه لم يغادر الرقة، وخدم أهالي القرى المجاورة متنقلا مقدما خدماته في الريف والبادية.
احتفي بنا، وتناولنا طعام العشاء، وسهرنا حتى وقت متأخر، ثم نمنا متجاورين في غرف واسعة، و..لم نأبه بالبرد الشديد، فقد تغطينا بألحفة صوفية..ونمنا على الأرض كما هو شأن مواطني الريف..وهو ما اعتدنا عليه في طفولتنا.
في الصباح المبكر تجمعنا في الصالون، حول مدفأة مازوت، وشربنا شايا لذيذا دفّأ صدورنا، وأحاط بنا شباب من أقارب الشيخ أبوالزعيم، ومن أهالي السبخة…
استقبلنا محافظ الرقة في مكتبه، وتبادلنا الحديث الودي، وتعرفنا بالقائمين على خدمة المنطقة، ثم توجهنا إلى مكان الاحتفال في مدرسة البلدة، حيث أقيم مسرح مؤقت..وبدأت الكلمات الرسمية، وأعلن عن عرض فني قدمته فرقة من الشباب والشابات قدموا من مدينة حماة، وكان العرض جميلاً مفرحا..وهو أول عرض يقدّم منذ سنوات في هذه المنطقة، وهو إعلان عن أن الحياة..والفرح يعود، والأغاني والرقصات تتألق بعد القضاء على داعش، وتحرير قرى وبلدات الرقّة..وأن فجر تحرير الرقّة قريب، وان سارقي النفط الأميركان لن يبقوا على هذه الأرض طويلاً، وأن الرقة التي دمرها جنكيز خان..وهولاكو..نهضت دائما ، وعادت..وستعود..إلى الحياة.
على امتداد يومين قدمنا شهاداتنا ومداخلاتنا، ورددنا على أسئلة، وخضنا في حوارات..مع جمهور ذكي، متلهف على عودة نبض الحياة إلى هذه المنطقة التي اجتاحها داعش، وخرّبها، وشرّد أهلها، ونهبها.
صبيحة يوم 25 في وقت مبكّر غادرنا السبخة، وكنا متلهفين على رؤية المنطقة التي مررنا بها ليلاً..والتي هي جزء من الجزيرة السورية.
مررنا بحواجز للجيش، ورأينا جنودا يحرسون الطريق..وآبار النفط السورية التي عاد بعضها للعمل، ثم مررنا بقرى مقفرة بيوتها مخلعة الأبواب والشبابيك..ولكن في بعضها لحظنا وجود بعض الحياة، وهو ما يبشر بعودة من هجّروا قسرا من بيوتهم وقراهم.
هنا في هذه القفار جاء الربيع..ولكن نباتاته جفّت، فمن كانوا يفلحون الأرض رحلوا، والأرض تبدو جافة بسبب تشريد وغياب أصحابها الذين عاشوا من خيرها واعتنوا بتا دائما…
طيور غريبة.. طيور كبيرة الأحجام..صقور تحلق عاليا ثم تهبط.. ثم تفرد أجنحتها سابحة في الفضاء مستمتعة.. ربما تبحث بعيونها الحادة النظر عن فرائس..وحمام وديع يرفرف قرب البيوت المهجورة.
أوقف أبويحي الميكرو قبالة مكان عريق اسمه( الرصافة) – وهو غير رصافة بغداد – كان يقيم فيه الخليفة هارون الرشيد في أوقات الربيع، بل يقال أنه قضى أغلب سنوات حكمه الأخيرة في هذا المكان.
داعش عملت على تدمير بعض الجدران حول المكان..فهي لا تخلّف وراءها غير الخراب.
عبرنا السلمية من جديد، ثم مضينا باتجاه حماة..وحمص، وفي مدخل حمص رأينا الدمار..حيث كانت داعش تحتل هذه الأبنية ..وكان على الجيش العربي السوري أن يقتلعها ويلفظها بعيدا عن حمص وقلبها.
في حمص ودعنا الأصدقاء : غسان ونوس، وتوفيقة خضور، ومنير الحافظ…
في النبك..والنبك مشهورة بالهريسة اللذيذة بالفستق والسمن البلدي..وقد حننا إلى هريسة النبك، فتوقف أبويحي أمام محلات أبوالعز المشهورة..وتحلينا، وحمل كل منا هدية لأسرته…
و..عدنا إلى دمشق.
يوم للطريق من دمشق إلى السبخة – جارة الرقّة..ويومان للنشاط الثقافي..ويوم للعودة إلى دمشق..ذلك هو الزمن الذي استغرقته رحلتنا.
نعم: قمنا بدورية ثقافية .. بانتمائنا..وبرهاننا على أننا قلنا وانتمينا..ولم نتردد في الوصول إلى حيث وصلت وحدات الجيش العربي السوري متحفزة على ضفة الفرات..وحول الرقّة..للاندفاع لتحرير المدينةالعريقة: الرقّة..وتطهير ما تبقى في منطقة الجزيرة من رجس الأميركان..والتابعين لهم !
سعدنا جميعا بالرفقة، والوقت الذي قضيناه معا، وتحمل مشقة الطريق، وبيننا تعززت الصداقة، وتعمدت بمحبة أهل السبخة والبلدات المجاورة الذين تدفقوا وشاركوا بحضورهم بإنجاح تلك الاحتفالية الثقافية اللائقة.
مع أهالي السبخة، ومع محافظ الرقة..وكل من حضر الفعاليات، تواعدنا على اللقاء في الرقة ..في العام القادم، والرقة ، غالبا، ستتحرر قبل قدوم احتفالية العام القادم..فعلاً، وكما قال ضباط الجيش العربي السوري الذين حضروا الفعاليات: الرقة في العينين..وإدلب في العينين..وسورية كلها في عيون الأوفياء لها..محرريها البواسل..وكل المؤمنين بنهوض الأمة وعروبة فلسطين…