الســـــجن للرجـــال قصة: نزيه أبو نضـال
المشهد الأول:
قاعة واسعة من الطراز القديم، جدران بيضاء فقدت لونها بتراكم السنين والغبار والدخان، كنبات راسخة ومتينة تتدلى من زواياها شراشيب فقدت شكلها ونضارتها، آثار التعرق والاتساخ تبدو بوضوح على أيدي الكنبات المغطاة بنسيج داكن الخضرة، وصمت مهيب يخيم على رؤوس الرجال المتقاربين في إحدى الزوايا.
تنحنح أبو شاهر وقال بلهجة صارمة ومتوعدة:
- الفضيحة ما عاد ينسكت عليها، وسيرتنا صارت على لسان إللي بسوى واللي ما بسوى. وإذا ما عندك حل يا أبو برهم، أنا بخلي واحد من ولادي يغسل عار العيلة، بس أنا قلت هذه مش منيحة بحقكم، وإخوانها موجودين.
قال أبو برهم عاتباً وغاضباً: - شو هالحكي يا أبو شاهر لو اخوانها قدروا يلاقوها قبل اليوم كان هي بعدها طيبة؟
اتطمنوا يا جماعة، عرفنا طريقها، وإنشاء لله ما بطلع عليها الصبح.
وقف برهم والشرر يتطاير من عينيه وصوته: - أي قلة زلام ابّيت أبو برهم يا عمي؟! أنا الليلة رايح أجيب خبرها.
قال أبو برهم مهدئاً: - أقعد يابا واهدا، انت متجوّز، وعندك ولاد ومسؤوليات، خلّي واحد من إخوانك يذبحها.
رد برهم بيقين: - يابا اخواني صغار، ولساتهم بالمدارس، والله ما حدا بذبحها غيري.
تدخل أبو شاهر وقال بلهجة آمرة ومتزنة، كمن اعتاد أن لا يردّ له طلب: - أبوك معه حق يا برهم، وانت مسؤول عن عيلة، وهاي أبوك زي ما انت شايف صحته على قدها. وما شاء لله! أخوك سليم شب.
تذكر برهم زوجته وأولاده وقال بلهجة أكثر لينـاً: - بس يا عمي سليم عنده توجيهي هالسنة، واحنا بدنا إياه يكمل علمه.
قال أبو برهم: - بلا توجيهي بلا كلام فاضي، هو لو كان فالح بالمدرسة، كان نجح السنة إللي فاتت.
والتفت إلى سليم وقال بلهجة مهدده: - ها يابا يا سليم شو قلت؟
تلفت سليم حوله وهو يشعر بأن دائرة الحصار تلتف حول عنقه، تذكر سليم وجه مريم ونظرتها الحانية، كانت بمثابة أم وصديقة، رغم إنها تكبره بعام واحد فقط ، وخاصة بعد وفاة والدته. “كيف فعلت ذلك يا مريم”!! واكفهرّ وجهه وهو يتذكر بطنها المنتفخة، قبل أن تهرب من البيت.
انتبه إلى صرخة أبيه: - ها ولـك شو قلت؟
رد سليم متلعثماً: - إللي بتشوفوه يابا أنا بساويه.
كان يعرف سلفاً انه المرشح الوحيد لذبح أخته، فبرهم رغم هيجانه المعلن يعلم ان العائلة لن تفرّط بمصدر رزقها الوحيد، وهو حين يبالغ بالتهديد بأنه هو الذي سوف يذبح مريم، فإنما يريد أن يدفعه هو للقيام بالمهمة.
قال أبو شاهر وهو يسحب مسدسه ويناوله لسليم: - خذ يا عمي يا نشمي! بدنا إياك تحط ست رصاصات بين عيونها هالكلبة.
قال أبو برهم وهو يشعر بالتصاغر لأنه لا يمتلك مسدساً مثل أبو شاهر: - هاي ما بتستاهل الرصاصة، سليم يذبحها بالشبرية، مش هيك يابا؟
أعاد سليم يده الممدودة وهو يرتعش.. فقد تصور نفسه يطعن مريم بالشبرية، وهي تستغيث به، ودمها يغطي يديه وثيابـه: - إللي بتشوفـه يابـا.
إنتبه إلى النظرات التي تحدق به من كل جانب، كان فيها الكثير من الإكبار والتشجيع. لم يسبق لكبار العائلة أن أولوه مثل هذا الاهتمام، بل كثيراً ما سخروا منه وعيّروه، لاهتمامه بمظهره ومطاردته للبنات، وخاصة بعد سقوطه في التوجيهي: “معلوم يا عمي الولد إتشبشب وعقله انتقل من راسه….” أصبح الآن مركز الاهتمام الذي تعول عليه العائلة لإنقاذ شرفها، استحضر بطن أخته المنتفخة ونظرات أهل الحارة له فأستقوى قائلاً: - هاي ما بتستاهل غير الذبح زي الغنمـة.
غمر الجميع الارتياح.. قال ابو شاهر وابو برهم معا: - عفية عليك يا عمي، عفية عليك يابا. ** المشهد الثانـي: قاووش السجن واسع وكئيب، والشبابيك الضيقة عاليـة ومغطاة بالحديد والشبك القذر، الأسرة الحديدية ذات الطابقين تلتف بمحاذاة الجدران الرمادية على شكل حدوة حصان. في الفراغ المتبقي آنيـة قذرة للتبول الليلي وأكوام من البطانيات للذين ينامون على الأرض ولا يجدون مكاناً لهم فوق الأسرة إلا مقابل أجرة معلومة يدفعها المستجدون لـ(أبو الروس). وأبو الروس هو رئيس القاووش الذي لا يُرد له أمر، ومن يتجرأ مرة على الاعتراض فإن “روسيه” واحدة كفيلة بإقناع المعترض بأن الله حق. ولكنك تستطيع أن تكسب رضا أبو الروس ما دمت تدفع المعلوم فتحصل على سرير تنام عليه، وتعفى من عمليات التنظيف البشعة للقاووش وللحمامات والمراحيض القذرة. والحقيقة أن أبو الروس قلما يستخدم رأسه أو عضلاته لفرض ما يريد، ذلك أن المستجد ومنذ دخوله القاووش يستطيع أن يكتشف أن أبو الروس ، برأسه الضخم وجبهته الغليظة البارزة المليئة بالكدمات وآثار التشطيبات، هو قوة ماحقة لا ترد. خصوصاً وان عتاة المجرمين قد اضطروا قبله إلى الرضوخ لهذا الواقع، فما باله وهو الشاب المستجد. مند دخوله القاووش دب الذعر بقلب سليم، فقد استقبله أبو الروس بأسلوبه التحقيري المتسلط وبنظراته الهائلة وهو يقيسه من فوق لتحت:
- إنت يا ولد! خذ بطانياتك ونام هناك في الزاوية.
ولم يمهله:
- إنت يا ولد! خذ بطانياتك ونام هناك في الزاوية.
- والدور في التنظيف عليك اليوم، قومْ نظّـف القاووش.
حاول سليم الاعتراض: - بس انا..
قاطعه ابو الروس بلهجة ماحقة: - قوم هز طولك ولا! وبلاش اقوم لك هه!
- حاضر حاضر.
وبنفس اللهجة المتسلطة أصدر أوامره للمستجدين الآخرين. ولم يملك أحد منهم في هذا الجو المرعب سوى الأمتثال لأوامر أبو الروس.
في الليل لم يستطع سليم النوم فالأرض قاسية وروائح البطانيات والمساجين والبول تملأ المكان وأصوات الشخير غير المنتظمة تختلط بحركات وأصوات مريبة.
لم يعرف سليم متى تمكن النوم منه حين صحا على حركة غريبة خلفه وجسد هائل يحشره إلى الحائط، وحين حاول أن يتفلت كانت قبضة قوية تغلق فمه بينما الأخرى تدفع سرواله إلى أسفل، حاول بكل قواه أن يصرخ أو يتحرك دون جدوى ، وجاءه صوت أبو الروس المتحشرج: - إذا ما بدك تمـوت، خليك ساكت، ما تخاف! وأنا ببسطك وبريحك.
المشهد الثالــث:
..بعد سنوات، في نفس القاعة الواسعة، إلا أن جدرانها قد أصبحت أكثر إصفراراً وتشققاً، والكنبات الخضراء الداكنة أكثر إهتراء وإتساخاً، لكنها كانت تغص بالهرج والأهل والضحكات.
حين دخل سليم القاعة، بصحبة برهم، دبت الزغاريد وانطلقت التهاني وتدافع الأهل لعناق الغائب.
كان أبو برهم قد مات، كما مات أبو شاهر.
قال برهــم:
- الحمدلله على سلامتك يا سليم! بيضت وجهنا.
وقال شاهر : - والله زلمة يا سليم! رفعت راسنا. وترى لا تهكل هم، احنا رتبنالك كل شي الشغل والمره! واسمع قدام الجميع، انا اعطيتك بنت عمك: اختي سروة.
(اصوات زغاريد)
ام برهم: مبروك يما مبروك سروة زينة البنات.
قالت ام شاهر بعدم رضا: - مبروك يا سليم والحمد الله على سلامتك.
تابع شاهر بحماس: - ها شو قلت يا سليم؟ والعرس آخر الشهر؟
رد سليم بصوت انثوي: - تسلم يا شاهر! انا ممنون لك!
قال شاهر ليملأ مساحة الصمت والحرج: - بس إنشالله ما تكون اتعبت كثير في السجن؟
رد سليم وعيناه تبرقان بصفاقة ومباهاة: - ولا يهمـك يا شاهر! السجن للرجـال .