السلطة الفلسطينية تفقد كل صدقية – منير شفيق
السلطة الفلسطينية، أو في الأصح رئيسها محمود عباس، في مأزق سياسي وأخلاقي ووطني وعروبي وإسلامي وإنساني. ويرجع ذلك لإصرار الرئيس محمود عباس على مواصلة سياسته التي فشلت، وشبعت فشلاً، ولم يبق له ما يدافع به عنها، أو تسويغ الاستمرار بها. فهي لم تفشل في تحقيق هدفها المتمثل بحلّ القضية الفلسطينية على أساس حلّ الدولتين فحسب، وإنما أيضاً، سُدّت في وجهها أبواب استمرار المفاوضات ولو شكلياً. وهذا معنى مأزقها السياسي. طبعاً إنه لأمرٌ حسن فشل حلّ الدولتين.
ودخلت مأزقها الأخلاقي حين راحت تنسّق أمنياً مع الشاباك والجيش الصهيوني في مطاردة المقاومين الفلسطينيين والتصدّي لشباب الانتفاضة وشابّاتها. وقد فقدت ما سوغت به هذا التعاون والتشارك المسمّى التنسيق الأمني حين تأكدّ بأن نتنياهو لن يقدم لها مقابل ذلك دويلة، ولا حتى احتمال تقديم الدويلة. بل لم يقدّم لها بسط سلطتها على مناطق (أ)، كما نصّ اتفاق أوسلو، ولو لمدة أسبوع. كما طالب محمود عباس. وهو موقف يؤكد بأن نتنياهو لا يقيم له أي اعتبار. ويريد لسلطته أن تخدمه بلا حفاظ على ماء الوجه. علماً أن تلبية طلب بسط السلطة الأمنية على مناطق (أ) يخدم نتنياهو بأفضل من التشارك الأمني الراهن المفضوح.
أما المأزق الوطني والعروبي والإسلامي والإنساني فسببه الرئيس ينبع من جوهر السياسة التي تخلّت عن الثوابت، وأدارت ظهرها إلى كل نقاط القوة التي توفرّها المواقف الوطنية والعروبية والإسلامية والإنسانية في دعم الانتفاضة الشعبية لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وإطلاق كل الأسرى وفكّ حصار قطاع غزة. ناهيك عن المأزق الخلاقي الناشئ عن التخاذل أمام مواجهة العنصرية وجرائم الاحتلال والاستيطان والاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية ولا سيما المسجد الأقصى بخاصة، والقدس بعامة.
وبعد كلّ ذلك يأتي فقدان محمود عباس لكل صدقية حتى في المضيّ في تمثيل أبسط ما هدّد باللجوء إليه للضغط على نتنياهو عساه يعود للمفاوضات، ولو عادت عبثية وبلا جدوى شكلياً فيما تغطي الاحتلال والاستيطان عملياً.
لقد تابع الجمبع تلك الضجة التي أثارها إعلام السلطة وعدد من مسؤوليها، ولا سيما وزير خارجيتها حول قرار اللجوء إلى المنظمات الدولية، وخصوصاً محكمة الجنايات الدولية. وكيف اخذت تتراجع خطوة بعد خطوة، وذلك بسحب الخطوة أو تأجيلها، أو تقديمها والتواطؤ على تجميدها. وكل ذلك تحت ضغوط أمريكية أو أوروبية. ومحمود عباس يعتبر كل مرة أن تلبيته تلك الضغوط يعزّز تأييد تلك الدول له شخصياً والانقلاب على نتنياهو. ولكن نتيجة العملية كانت صفراً من حيث ما أُريدَ لها أن تحققه. وكانت سلبية جداً ودون الصفر على مستوى الوضع الفلسطيني. لأن تلك السياسات أخذت تطرح نفسها بديلاً للانتفاضة ومواجهة الاحتلال وحسم الصراع في ميدان المواجهة.
فبدلاً من أن تنتقل فتح إلى وضع ثقلها إلى جانب الانتفاضة أراد لها محمود عباس أن تعيش على أوهام نجاح سياسات اللجوء إلى المنظمات الدولية باعتبارها استراتيجية بديلة للانتفاضة والمقاومة، أو قل بديلاً لحشد كل طاقات الشعب الفلسطيني بإعلان عصيان شعبي مدني سلمي يشمل كل المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية وفي القدس وفي قطاع غزة. الأمر الذي سيقلب كل المعادلة على رأس نتنياهو، ومن يدعمه دولياً، أو يريد أن يتعاون معه عربياً وإسلامياً، لِيَجِدَ نفسه مضطراً إلى الانسحاب وتفكيك المستوطنات من الضفة والقدس وإطلاق الأسرى وفكّ حصار قطاع غزة.
جاءت آخر جولة من جولات محمود عباس فس الهروب إلى الأمام من خلال التقدّم بمشروع قرار ضد الاستيطان يصدر عن مجلس الأمن. وكان الوصول إلى هذا القرار مضموناً إذا لم تستخدم إدارة أوباما الفيتو ضدّه، ولكن بحرج لا يسهُل عليها تجاوزه مما جعل احتمال صدوره قويّاً.
ومع ذلك سَحَبَ، أو جَمّدَ، محمود عباس هذا المشروع إستجابة لأول ضغوط تعرّض لها، مؤكداً مرة أخرى أن لا صدقية له في أيّة خطوة يخطوها حتى لو كان تأثيرها جزئياً ومحدوداً ضد نتنياهو.
وهكذا مرّة أخرى تراجع عن تقديم هذا القرار الذي ما كان ليضيف شيئاً جديداً ذا دلالة. لأن كل أعضاء مجلس الأمن بما فيهم أميركا يعلنون رسمياً أنهم ضد الاستيطان. لهذا ما كان القرار أن يأتي سوى تأكيد على ما هو حاصل. ولكن هذا التأكيد يزعج نتنياهو فتدَخَل مَنْ تَدَخّلَ عند محمود عباس لتأجيل مناقشة مشروع القرار وَوَضَعَهُ في أدراج الانتظار.
المهم هو إعادة طرح السؤال على فصائل المقاومة التي تغطي سياسات محمود عباس من خلال المشاركة في منظمة التحرير الفلسطينية على مستوى المجلس المركزي واللجنة التنفيذية. مما يتيح له التحرك تحت غطائها، وباسم منظمة التحرير والسلطة. فالسؤال: إلى متى تستمر هذه السياسة الرسمية لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية والتي وصلت مستوى مريعاً في التراجع والتخاذل والتدهور في الموقف الفلسطيني الرسمي. وذلك في وقت تندلع فيه انتفاضة شبابية وتعبّرُ الجماهير عن تأييد واسع لها وكذلك الفصائل جميعاً، وفي وقت يُواجِه فيه نتنياهو عزلة دولية ومأزقاً في مواجهة الانتفاضة والرأي العام العالمي.
وقبل أن يدفع هذا المقال إلى النشر، وقبل أن ينسى الفلسطينيون فضيحة سحب أو تجميد المشروع ضد الاستيطان عاجَلَ السفير الفلسطيني في الأمم المتحدة رياض منصور وبتوجيهات من الرئيس محمود عباس، بالتقدّم بمشروع إلهائي جديد إلى مجلس الأمن. وذلك تحت عنوان “عقد جلسة بحثية هي الأولى من نوعها في شأن مسألة تأمين الحماية الدولية للشعب الفلسطيني”. وهذه الصيغة، أو البدعة، غير رسمية، ولا تتضمن إصدار موقف عن مجلس الأمن.
وهكذا يتحول مصير الشعب الفلسطيني إلى لُعْبَة عَبَثِيَة في مجلس الأمن بدلاً من أن يُخاض صراعٌ ميداني جديّ فوق الأراضي الفلسطينية لمواجهة الاحتلال والتصميم على دحره، ومواجهة الاستيطان والتصميم على تفكيك كل المستوطنات، وبلا قيد، أو شرط.
هنا تقع مسؤولية مباشرة على فصائل م.ت.ف لوقف هذا العبث ومن ثم فرض انخراط الجميع وبوحدة شاملة في الانتفاضة وهذا ما يجب أن يكون القول الفصل في تبنّي استراتيجية لا تقبل المساومة والتسويف في ما يتعلق بالاحتلال والاستيطان وإطلاق الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة.