السياق الإقليمي لجريمة الطيونة – موفق محادين
ما شهده لبنان مؤخراً من جريمة مروعة، خطّط لها ونفذها حزب القوات اللبنانية بزعامة جعجع بحق مشاركين في اعتصام سلمي، ليس حدثاً عابراً ولا محلياً يتعلّق بتداعيات ملف التحقيق في جريمة تفجير ميناء بيروت، بالنظر إلى تاريخ القوات اللبنانية وطبيعتها وتركيبتها وخطابها الطائفي الفتنوي، وبالنظر أيضاً إلى السياق العام لتلك الجريمة والقوى المستهدفة، ممثلة بحزب الله أساساً، ومحاولة فكّ تحالف التيار الوطني الحرّ معه.
أولاً، إنَّ القوات اللبنانية كجناح عسكري سابق لحزب الكتائب في حروبه الطائفية المختلفة، ضليعة في أعمال كهذه منذ تأسيسها كبندقية للإيجار، قبل تأسيس حزب الله وحركه أمل، بل إنَّ حزب الكتائب نفسه الذي انبثقت منه هذه القوات، سابق أيضاً لوجود المقاومة الفلسطينية في لبنان خلال ما عُرف بالحرب الأهلية، كما أنه سابق للظاهرة الناصرية التي انتشرت في لبنان في العام 1958، فهو الذي أطلق مناخات الفتنة الطائفية في العام 1948 بالتنسيق مع العصابات اليهودية، وساهم في تغطية مذابحها في فلسطين وفق ما ورد في كتاب المؤرخ اليهودي بني موريس “الطائفيون العرب والحركة الصهيونية“.
أيضاً، إنّ حزب الكتائب هو الذي دعا إلى نزول القوات الأميركية في لبنان مرتين، الأولى في العام 1958 ضد الحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع الظاهرة الناصرية القومية، والثانية ضد الحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية 1983، وهو الَّذي أشعل الحرب الأهلية في العام 1974، انطلاقاً من عين الرمانة أيضاً، عندما استهدف حافلة لمدنيين فلسطينيين وقتلهم جميعاً، بالتزامن مع بدايات الانحراف الساداتي والتحضير لمناخات “كامب ديفيد” مع العدو الصهيوني.
من جهتها، كانت القوات اللبنانية الجناح العسكري الضارب لبشير الجميل، الَّذي حملته الدبابات الصهيونية إلى الرئاسة قبل مقتله. وقد قامت هذه القوات، بالتنسيق مع القوات الصهيونية، باقتحام مخيم صبرا وشاتيلا واغتيال آلاف المدنيين الفلسطينيين.
وقد انشقّت بعد ذلك، وأسّست حزباً خاصاً تحت قيادة سمير جعجع، الَّذي دشّن عهده بعشرات الاغتيالات التي طالت رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رشيد كرامي ومفتي لبنان حسن خالد، كما طالت ضمن ما عُرف بترتيب البيت الماروني طوني فرنجية وزوجته وابنته وداني شمعون والعديد من ضباط الجيش اللبناني. ومن ذلك أيضاً محاولة اغتيال الجنرال ميشال عون عندما كان قائداً للجيش، إضافةً إلى جرائم جماعية أخرى، منها مجزرة نهر الموت في العام 1989.
أيضاً، وقبل الجريمة الأخيرة في الطيونة، أقدمت عصابات جعجع على إطلاق النار على لاجئين سوريين في لبنان كانوا متّجهين إلى السفارة السورية للمشاركة في الانتخابات الرئاسية السورية الأخيرة.
وليس مستبعداً أن تكون الجريمة المشابهة على الطريق الساحلي نحو الجنوب، والتي نفَّذها تكفيريون، نُسقت مع جعجع في سياق إقليميّ دوليّ واحد، بالنظر إلى اعتراف سابق لأحد القادة الإسلاميين (عماد الحوت الذي اعترف في حوار مع قناة الجديد بتاريخ 27/4/2018 بالتنسيق مع جعجع)، وبالنظر إلى تواطؤ القوات اللبنانية وتيار المستقبل مع احتلال الدواعش للتلال الشرقية اللبنانية.
ثانياً، إنَّ كل ما يجري من حوادث مسلّحة مبرمجة ومفتعلة وصل حد الجريمة في الطيونة وقبلها في عرمون هو أمر شديد الصلة بتحالف دولي إقليمي معروف (الأميركيون والعدو الصهيوني ودولة نفطية رجعية لطالما أدت مثل هذه الأدوار من قبل ضد الظاهرة الناصرية القومية وحركة التحرر العربية والعالمية).
ولم يعد خافياً على أحد أنّ التحالف المذكور في ما يخصّ لبنان يسعى لإعادة تموضع هذا البلد في سياق ترتيبات دولية وإقليمية تنسجم مع الاستراتيجية الأميركية لاستبدال الوجود الأميركي المباشر بأشكال من فوضى الكانتونات المحلية المتناحرة، الطائفية والجهوية، وبما يذكّر بالسياسة الإجرامية للإمبريالية البريطانية، عندما كانت تترك خلفها مناخات توتر واحتقان جهوية تحت شعار “فرق تسد“.
ومن الواضح أنَّ لبنان بات هدفاً مركباً للتحالف المذكور، سواء بتفجيره مقدمةً لقلب الخارطة البرلمانية في الانتخابات المقبلة، أو خدمةً للإزاحة الصهيونية واختلاق تناقضات تناحرية بديلة من العدو الصهيوني.
ويمثّل حزب الله أهمّ عقبة أمام هذا السيناريو والمصالح المتكاملة للتحالف الأميركي الصهيوني الرجعي، فحزب الله هو الذي ابتكر الإزاحة الاستراتيجية من التجاذب التاريخي داخل الأمة (نواصب وروافض) إلى التناقض التناحري مع العدو الصهيوني، مضيفاً إلى عاشوراء الدم بعداً جديداً يجمع بين المظلومية التاريخية وديناميكيتها الحية، وإسقاطها على قاتل خارجي يهدد الأمة كلّها، هو الصهيونية واليهودية العالمية.
وحزب الله هو الذي أهان العدو مرتين خلال العامين 2000 و2006، ولاحق الدواعش المجرمين في سوريا، وبرهن على أن ما ينقص الأمة هو الإرادة والشهادة.
إلى ذلك، إنّ التحالف الأميركي – الصهيوني الرجعي يدير منذ سنوات سيناريوهات متعدّدة في وجه عون وحزب الله معاً، لتحويل لبنان إلى دولة فاشلة، عبر الحصار والضغط الاقتصادي والتهديدات بالقوة، تارةً عن طريق العدو نفسه، وتارةً أخرى عن طريق أدواته المحلية، مثل القوات اللبنانية وعشرات الفضائيات والمواقع الإلكترونية الممولة خليجياً وأميركياً.
ومن ذلك أيضاً تفجير مرفأ بيروت، ومحاولة تفجير مصفاة الزهراني، وكذلك اللعب بالأوضاع المالية والنقدية، وإخفاء البضائع، وتأزيم الأوضاع الاقتصادية ودفعها إلى الانهيار، وهي تجربة شهدتها كلّ البلدان المناهضة للسياسات الأميركية، سواء في المنطقة أو في أميركا اللاتينية، مثل فنزويلا وكوبا.
إلى جانب حزب الله، لا يزال التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون الهدف الآخر على جدول أعمال التحالف المذكور. ومن الواضح أنَّ محاولات هذا التحالف وأدواته عزل الجنرال والتيار عن حزب الله في قضية التحقيق الخاصَّة بمرفأ بيروت وتعميق لعبة الشد المذهبي قبل الانتخابات، تبقى محدودة بالنظر إلى البعد العابر لهذه القضية قياساً بالدور الكبير الذي أدّاه التيار والجنرال في نقل قسم كبير من المارونية السياسية من التواطؤ مع الحركة الصهيونية إلى الموقع الوطني، ما اقتضى من تحالف الموساد – النفط وواشنطن إدراجه في “لائحة العقوبات” الاستراتيجية، إذا صح التعبير.
أما اختيار حزب القوات اللبنانية وزعيمه جعجع كأداة للتحالف المذكور، فهو نابع من كونه الأكثر استعداداً وخبرةً وجهوزيةً لاستعادة تقاليد وثقافة القتل والفتن المذهبية، والأكثر عداء للثقافة الوطنية، وهو ما يقتضي في المقابل أن يستكمل حزب الله استراتيجية الردع مع العدو الصهيوني باستراتيجيّة ردع مع فاشيي الداخل، أمثال جعجع، من دون أن يسمح له ولأمثاله بجر لبنان إلى حرب داخلية.
“الميادين”