الشاعر أحمد دحبور التقيت به مرة واحدة في وارسو – نضال حمد
لقاء وحيد ويتيم جمعني به برفقة القائد الراحل طلعت يعقوب في وارسو سنة 1984
الشاعر أحمد دحبور – نضال حمد
في نيسان ابريل 1946 في حيفا، سُلَم الكرمل ودالية فلسطين ولد الشاعر أحمد خضر دحبور، ثم بعد أقل من سنتين على ولادته اضطرت عائلته للفرار من مذابح ومجازر ومحارق العصابات الصهيونية اليهودية، التي استهدفت المدينة وسكانها الفلسطينيين. فغادر مع عائلته إلى لبنان سنة النكبة 1948. لم يطل بهم المقام في لبنان طويلاً، فقد تابعت العائلة طريقها إلى سوريا. واستقرت في حمص ثم في مخيم العائدين بحمص حيث نشأ ودرس وكبر وصار شاعرا ومناضلا ومراسلاً حربياً فدائياً.
منذ بداياته ونشأته وهو في سن السادسة عشرة نشر بواكير قصائده، نشرها في مجلة الآداب اللبنانية العريقة للراحل الكبير سهيل ادريس. بالمناسبة مجلة الآداب هي المدرسة أو الكلية التي اكتشفت في ستينيات وسبعينيات القرن الفائت، جيل كبير من الشعراء والأدباء والكتاب الفلسطينيين والعرب ومنهم الشاعر أحمد دحبور.
أصدر الشاعر الراحل أحمد دحبور العديد من الدواوين والأعمال الشعرية، منها: “الضواري وعيون الأطفال” عام 1964م، “حكاية الولد الفلسطيني” عام 1971م، “طائر الوحدات” عام 1973م، “بغير هذا جئتُ” عام 1977 “اختلاط الليل والنهار” مطلع عام 1979م، “واحد وعشرون بحراً” عام 1981م، “شهادة بالأصابع الخمس” عام 1983م، “هكذا” عام 1990م، “كسور عشرية” عام 1992م، “هنا.. هناك” عام 1997م، “جبل الذبيحة” عام 1999؛ بالإضافة إلى عدد من الأعمال النثرية.
في الثامن من نيسان ٢٠١٧ فارق أحمد دحبور الحياة في فلسطين المحتلة. بموته فقدت فلسطين شاعر العاشقين ومخيمات اللاجئين وقواعد الفدائيين. شاعر الأناشيد الثورية والفدائية الملهمة. حيث لا تزال الكثير من الأغنيات التي كتب كلماتها تتردد في المناسبات الوطنية، وحيث يوجد فلسطينيون وفلسطينيات في هذا الكون. من تلك الأغاني الخالدة: “إشهد يا عالم علينا وعلى بيروت” و”عوفر والمسكوبية” و”يا شعبي يا عود الند” و”والله لأزرعك بالدار” و”يا بنت قولي لأمك” و”غزة والضفة” و”صبرا وشاتيلا”، وغيرها من أناشيد الثورة والفداء..
حاز دحبور على جائزة توفيق زياد في الشعر العام 1998، وكتب العديد من أشعار فرقة الأغاني الشعبية الفلسطينية (العاشقين). التحق دحبور بالثورة مبكرًا في الأغوار، وعمل صحفيًا (مراسلًا عسكريًا) في الثورة الفلسطينية، وحضر معركة الكرامة؛ وعمل محررًا سياسيًا في “وكالة وفا”/ فرع سورية؛ وعمل مديرا لتحرير مجلة “لوتس” حتى عام 1988، ومديرا عامًا لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان عضواً اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين..
عاد الى فلسطين المحتلة مع الذين عادوا عقب توقيع اتفاقية اوسلو الكارثية في ١٣-٩-١٩٩٣. كم كنت أتمنى أن لا يعود أحمد دحبور وغيره من الشعراء والأدباء والكتاب الفلسطينيين مثل تلك العودة. لكنهم عادوا… في الوقت نفسه ماعاد اللاجئين ولا أهل المخيمات ولاعادت الثورة. فشارات النصر كانت زائفة وبلا نكهة وبلا طعم أو نصر وكانت خادعة.
لا أعرف هل تدارك شاعرنا الكبير والمجدد قبل وفاته أنه أخطأ حين عاد مثل تلك العودة؟ وهل أدرك أنه أخطأ يوم اعتقد أن سلام الشجعان وشجعانه من الفلسطينيين سوف يحققون ما عجزوا عنه بالبنادق، باتفاقيات السلام؟. فالذين جلبوا ويلات اوسلو وكوارثه على شعبنا وقضيتنا لم يفكروا في يوم من الأيام أن يعتذروا عما فعلوا…. بالرغم من أنه لدي اعتقاد بأنهم لم يقرئوا ديوان الشاعر الراحل محمود درويش ” لا تعتذر عما فعلت”..
لا أعرف هل باح أحمد دحبور في آخر أيام حياته لأحد عن تلك الدولة المسخ وعن تلك السلطة الأكذوبة أم أنه كان مؤمناً بها؟ لا أدري فأنا لا أعرف أحمد دحبور جيداً ولا عن قرب. كنت التقيت به مرة واحدة في حياتي في وارسو عاصمة بولندا. يومها كنت منزعجاً من موقفه الذي ساهم في تكريس انشقاق الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، الانقسام الذي قاده الشاعر الراحل محمود درويش بدعم مفتوح من قيادة المنظمة وحركة فتح. حسب ما أذكر أن الأمانة العامة للاتحاد العام ومن مقرها في الشام أوفدت الشاعر أحمد دحبور وشخص آخر لم أعد أذكر من هو للتفاوض مع درويش وجماعته. لكن أحمد دحبور لم يعد من المهمة وحسم موقفه وبقي مع المنشقين عن الاتحاد. ربما كان ذلك سنة 1984.
سنة 1984 التقيت بالشاعر الكبير أحمد دحبور في شهر أيار بالعاصمة البولندية وارسو، في أحد فنادقها حيث كان أبو يسار في مهمة ثقافية وبنفس الوقت كان هناك وفد من جبهة التحرير الفلسطينية برئاسة الرفيق الراحل الأمين العام طلعت يعقوب موجوداً في بولندا. أما أنا فكنت هناك مع الوفد، حيث كنت أخضع للعلاج في المستشفى من تداعيات اصابتي في مجزرة صبرا وشاتيلا سنة 1982. كنت أقيم مع الرفيق أبو يعقوب في نفس المكان. جاء الشاعر أحمد دحبور للسلام على الرفيق طلعت والاطمئنان عليه، وبعد حديث قصير قام الرفيق طلعت بتقديمي للشاعر أبو يسار، وكنت يومها مبتدئاً في الكتابة، حين قال أبو يعقوب لأبي يسار اقرأ ما كتبه الرفيق نضال وأعطينا رأيك به. فعلاً ناولته ورقة كنت كتبت عليها انطباعاتي من لقاء أمي التي جاءت لزيارتي في بيروت المحاصرة سنة 1982. قرأ ما كتبته وأثنى على بعض العبارات والجمل وأضاف ” عبارة جميلة”. كان يقصد كلمات ذكرتها في قصيدتي النثرية. مختصر الكلام أنه شجعني على المتابعة وشد على يدي. اثناء اللقاء تركت الرفيق أبو يعقوب والشاعر أبو يسار لبعض الوقت ثم عدت للانضمام اليهما. لاحظت عندما هم الشاعر أحمد دحبور بالمغادرة أن الرفيق طلعت ناوله ظرف بريدي مغلق. كنت أعلم أن الرفيق طلعت يعقوب من أيام كنا في لبنان وبيروت كان يساعد المثقفين والشعراء والأدباء والكتاب الفلسطينيين والعرب. لذا اعتقدت جازماً أنها مساعدة مالية قدمها الرفيق أبو يعقوب من الجبهة للشاعر الكبير أبو يسار. تفاجأت قليلاً لأنه في ذلك الوقت كانت الجبهة تعاني من أزمات اقتصادية خانقة ومن عدم توفر سيولة مالية ومن حصار مالي نفذته القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية. كما كانت الجبهة تعيش في مرحلة صعبة جداً وصلت حد الجوع فعلاً. كانت مئات عائلات المناضلين والشهداء والجرحى والأسرى والفدائيين الجبهويين بدون مرتباتها. فميزانية جبهة التحرير الفلسطينية من الصندوق القومي كانت تعطى لمجموعة انشقت عن الجبهة والتحقت بالقيادة المتنفذة في المنظمة. في ذلك الوقت حتى الرفيق طلعت يعقوب نفسه هو وعائلته ومرافقوه كانوا أحيانا لا يجدون ثمن الطعام والشراب والسجائر وبنزين السيارة ولا إيجار بيوتهم. عندما سألت الرفيق أبو يعقوب لماذا يفعل ذلك وهو غير مضطر كما أن الشاعر أبو يسار ربما ليس بحاجة للمال. أجابني بكل تواضع وصدق أننا يجب أن ندعم ونساعد مثقفي شعبنا. كنت أعلم في ذلك الوقت أن الرفيق طلعت تقاسم مع أبي يسار كل ما كان بحوزته من المال وهو مبلغ متواضع.
أحمد دحبور شاعر حيفا والمخيمات وكل فلسطين نال منه الفشل الكلوي ومن ثم الموت وقبل ذلك كان الموت قد نال من زوجته أم يسار، حيث دفنا في رام الله وليس في حيفا، التي تنتظر عودتهما يوم التحرير.
أيها الولد الفلسطيني
آن لمحبوبتك حيفا أن تصعد سلم الكرمل
لتلتقط صورة سلفي مع أحمد دحبور،
وآن للفتى الحيفاوي أن يصعد الى الكرمل
ليلقي التحية على بحر حيفا
على حاراتها وبياراتها وبيوت لاجئيها
آن للعاشق الذي لازالت تنشد أغانيه فرقة العاشقين
وكل حناجر الفلسطينيين، في كل مكان بدنيا العالمين..
آن له أن يقبل وجه حيفا
أن يراقصها وتضمه الى رملها
وأن يضمها الى صدره
وأن تضمه إلى صدرها.
يا أحمد الحيفاوي، العربي الفلسطيني
شهد العالم علينا وعلى بيروت
ولم يشهد عليك وعلى حيفا
فالسارق، اللص، القاتل، الذي وأدها حية
ودفنها مع أنها حية ولا تموت..
من قال أن حيفا تموت
أو يمكن وضعها في تابوت
حيفا شقيقة بيروت
لا تموت
ولن يتأكد موت أحمد دحبور
إلا حين ندفنه في حيفا…
نيسان – ابريل 2021