الشاعر أيمن أبوالشعر في قصصه القصيرة – رشاد أبوشاور
القصّة القصيرة فن صعب، لأنها أمام تحد: أن تقول الكثير في مساحة صغيرة على الورق. والقصة القصيرة جدا أكثر صعوبة، لأن كاتبها يطمح أن يركّز فيها بلاغة حكاية شفيفة تكاد لا تبين، والتي بدونها قد تتحوّل إلى( طرفة)، أو فذلكة لغوية، أو (نهفة)، أو ادعاءً فلسفيا لا يلفت الانتباه، بل لعله يثير السخرية، واللامبالاة، وللأسف فقد تفشّت هذه الكتابة الركيكة المُدعية، والتي لا يبقى منها شيء في الذاكرة، بل تتلاشى مع انتهاء قراءتها.
أيمن أبو الشعر شاعر لمع في سماء دمشق مطلع السبعينات، واجتذب جمهورا واسعا تدفّق لحضور أمسياته، وأذكر إحدى هذه الأمسيات على مدرّج جامعة دمشق، حيث ضاقت القاعة الفسيحة بجمهور احتشد لسماع شعر أيمن، حتى اضطر كثيرون للجلوس على درجات المدرّج حتى البوابة الخارجيّة.
ودمشق مدينة الياسمين عريقة الحب للشعر، والتي تميّز الشاعر من الدعّي، احتضنت ابنها أيمن، وبعثت بحفاوتها به برسالة: ولد عندنا شاعر جديد، يحمل لكم ياسمين الشام، وهكذا انتشر حضور أيمن عربيا، وبات اسما يشار إليه، وتُنتظر قصائده.
وها هو أيمن الشاعر الكبير يعود إلى الشام، التي ما فارقت قلبه، والتي رفع بياض ياسمينها عاليا، وهو هناك في موسكو، عاصمة البلاد الصديقة، مُبشرا بأن ياسمين الشام سيهزم الأشرار الذين توافدوا للذبح ونشر الخراب، من كل حدب وصوب، موجهين من قوى الشر، وأموال أثرياء الصدفة في بلاد النفط والغاز، وهم شّر ما نبت على صحارى العرب التي كانت يوما نبع إيمان وفروسية وشعر ونخوة.
ماذا يحمل أيمن للشام، قل: لسورية الحبيبة؟
هو محب الحكايات، ومدمن قراءة الروايات، العائش في بلاد عمالقة الرواية والقصة القصيرة، في الروسيا التي قدمت للبشرية الكبار: دوستويفسكي، تولستوي،غوغول،تورجنيف، جوركي، و..سيّد القصّىة القصيرة تشيخوف.
إنه يحمل قصصا،وقصصا قصيرة جدا، وومضيات.
وهو كتب المائة نّص، في مجموعته، بروح الشاعر العاشق لوطنه: سورية. ومن يحب وطنه، وإنسان وطنه، يحب البشرية جمعاء، وهو بالتأكيد يحب وطنه العربي الكبير، وقلبه فلسطين التي لها في وجدان وعقل كل سوري مكان ومكانة، وبالتأكيد، في قلب أيمن الوفي لعروبتها وحريّتها.
ولأن المكتوب يقرأ من عنوانه، والكتاب يُعرّف نفسه بمقدمته، التي قد نقبلها ونرحب بها، أو نقلب الصفحات من أولها، ونقول: مع السلامة، لدينا وقت ثمين لا نضيعه بقراءة غّث الكلام…
ولأن الخيال يحضر دائما في الشعر والنثر، ولأن المعنى تضمره القصّة، أو القصيصة، أو الومضية، فلا بد من حكاية ولو شفيفة تكاد لا تبين، لتعطي للنص معنى ومبنى، فقد قدّم الشاعر أيمن أبوالشعر لمجموعته( اعترافات عاشق: أو العذاب الشهي) بقصة تبدو خيالية، ولكنها شديدة الواقعية، فهي تنبض بحبه لوطنه، وإيمانه بدوره كشاعر، وكمواطن عربي سوري، وكإنسان.
سأشير للقصّة القصيرة جدا، وإن كانت لا تلخص، وكل تلخيص للقصة القصيرة يفقدها شيئا منها، فما بالك بقصيصة مكتوبة بحيث نتلقاها دفعة واحدة؟
القصيصة عنوانها( الكتابة بالضماد)، وهي أشبه ببيان من أيمن يحدد به دور المثقف السوري في هذه الحقبة التي أراد الأشرار بحربهم عليها تدميرها، والبراعة تمنحنا متعة التخيّل، وتمنحنا في خاتمتها جمال وعمق المعنى وحكمته وبلاغته..ورسالته. عندما يشرع الكاتب بكتابة قصيصته ( الحرب على سورية)، يبدأ نزف الدم، فيضمد يده ..ويكتب!
هذه المجموعة الغنية بما تحمله للقارئ، تنتقل بالقارئ بين القصّة القصيرة التشيخوفية كما في قصة ( الكلب الذي بات يعض البحر)، والتي يلفت أيمن انتباهنا أنه استقاها من أستاذته في الأدب في جامعة يالطة أثناء مهرجان عالمي تكريمي لرائد القصة القصيرة تشيخوف، وهي قصة عميقة الإنسانية. ثمّ نقرأ قصة ( حلم) الموجعة للروح، والتي تقدّم حلم إنسان عربي سوري، وشوقه أن يرى العدل والمساواة، وعيش الإنسان العامل الكادح بكرامة، ولأن فلسطين لا تغيب عن فكر أيمن فإنها تحضر في هذه القصة، فالمواطن البسيط الطيّب الأصيل يحلم بأنه مسافر بالقطار إلى حيفا..ولكنه في الواقع يعمل في مصنع لا يكافئه سوى بالقليل، وهو يعيش حياة الكادحين المحرومين، مع زوجته، في بيت بالأجرة، وهو عاجز عن تسديد أجرته لمالكه الذي يلح عليه بدفعها.
قرأت قصة ( هذا بالذات هو ابنك..من صُلبك) ، وهي قصة ذكّرتني بما تتركه قصص الكاتب الأمريكي أو هنري من دهشة، وبراعة في خاتمتها، وتيقنت من سعة اطلاع أيمن على فن القصة القصيرة، ومن ولعه بقراءة ما تختزنه نفوس أبطال قصصه من مشاعر غيرة، وحب، ونفور، وغرابة، ووفاء…
في قصصه القصيرة جدا يكتب أيمن عن التضحيات، والاستشهاد، والبطولة، والحزن، في زمن الحرب المجنونة على سورية، والتي ما زالت تحرق حقول قمح سورية، وقلوب السوريين والسوريات، الذين، رغم المعاناة، وبتحمل هذه المعاناة، ينتصرون على الإرهاب المُصدّر لسورية.
ثمّة قصص قصيرة جدا بليغة، عن تضحيات السوريين الذين فقدوا أحبتهم، أو تفرّقوا عنهم، استوقفتني، مثل: جفّت البحيرتان يا سمير، الطير الغريب، تصلح لزراعة الورود،وسادة الحلم..وغيرها.
في قصة ( العذاب الشهي) يعيدنا أيمن إلى جمالية النضال والحب، وتلازمهما معا..لتعطيا التضحية قيمة إنسانية عالية.
وللسخرية الاجتماعية حضور، فلا يغيب عن بال أيمن ما يقع على المرأة من ظلم، وهو يعالج موضوعه بسخرية، فنضحك..ونصاب بالوجوم ونحن نتساءل: إلى متى يستمر اعتبار المرأة وسيلة متعة، فالثري البطر يرد على عامل الفندق: هي زوجتي الثالثة المشاغبة من كسرت المزهرية؟!
ولأنه شاعر، فلا يمكن له أن يصغي لمن يتعامل مع الجمال كما لو أنه شيء مجسّد مادي ملموس يمكن وصفه بعبارات يُنمّقها( المترجم)، الذي يتم اسكاته عندما تصل المجموعة إلى مشهد، أي وصف سيسئ إليه، ويشوهه، ويقلل من روعته..لأن الجمال لا يُترجم، فالجمال يُعاش ويستمتع به بدون كلام، مهما كان أنيقا فإنه يقلل من جماله.
وأسمح لنفسي بالوقوف أمام قصة بعنوان ( لأنه ينظر من السماء) المكتوبة برشاقة، وبعمق إنساني، وبطبيعة الحال: لن أُلخصها، ولكنني أنصح بقراءتها، وتأملها، مع غيرها من القصص القصيرة، والقصص القصيرة جدا، والومضية.
فرّق ايمن بين القصّة القصيرة فنيّا، وبين القصّة القصيرة جدا، والومضية التي تشبه أن تكون طرفة، أو تنشأ من المفارقة، أو اللعب بالكلمات ك( مشاغبة بريئة مع الكلمات)، وهو لأنه يحترم عقل القارئ لم يعمد إلى تمرير ( الومضيات) وكأنها قصص، فهو يحترم فن القصّة القصيرة، ويبذل جهدا جادا في كتابة قصصه القصيرة جدا، أمّا الومضيات فلا يجعلها تدّعي أكثر مما هي، وهو يجعل من المفارقة متعة (عقلية)، ربما تدعو للتأمّل.
يعود الشاعر الكبير أيمن أبو الشعر إلى حضن أمه دمشق حاملا انحيازه وحبّه لوطنه سورية، معلنا بيان قلبه وروحه، داعيا للكتابة بالدم فداء لعيون سورية، تماما كما فعل، ويفعل، جنود وضباط الجيش العربي السوري على امتداد أعوام المواجهة، فحققوا الانتصارات، وما زالوا يواصلون، مع القوى الرديفة والصديقة، وباحتضان الأوفياء من بنات وأبناء سورية، وكل الشرفاء على امتداد الوطن العربي الكبير، والعالم…
*هذه القراءة مشاركة في أمسية الشاعر الكبير أيمن أبوالشعر، التي أقيمت في المركز الثقافي العربي بدمشق مساء 29آب، العائد إلى دمشق بعد غياب لسنوات في موسكو، وقد قرأها بالنيابة الصديق الروائي والقاص الدكتور حسن حميد بالنيابة، لتعذر وصولي إلى دمشق بسبب إغلاق الحدود آنذاك.