الشاعر سميح القاسم: ودعه شعبه كقائد
الشاعر سميح القاسم: ودعه شعبه كقائد
رشاد أبو شاور
هل يطمح الشاعر أن يكون زعيما مرموقا، تحتفي به الجماهير، وتحمله على الأكتاف، وتهتف بحياته؟!
ليس للشاعر بطانة تهتف بحياته، وترفع اليافطات التي تمجده..فالشاعر هو شعره، وبالشعر تتكوّن وتتبلور علاقته بالجماهير التي تتلقى هذا الشعر، فالشاعر مجده شعره…
في فلسطين، ومنذ العقد الثاني من القرن العشرين، برزت أسماء شعراء نبهوا إلى الخطر الصهيوني الداهم، وتحالفه مع الانتداب البريطاني الذي وضع أسس الكيان الصهيوني في فلسطين.
من هنا أخذ هؤلاء الشعراء دورا تفوّق على دور الزعماء السياسيين، بالكلمة الشاعرة الواعية، وبالمواقف، وبالاستعداد لدفع الثمن دون تردد.
شعراء فلسطين الكبار، مع بداية الصراع على أرض فلسطين عرفوا دورهم، ولذا تواجدوا في المقدمة، فألهموا الجماهير الفلسطينية، وتحولت قصائدهم إلى أناشيد تملأ النفوس بالحميّة، وتشجع، وتحّض ثوّار فلسطين، وتمجّد روح الفداء.
إبراهيم طوقان، عبد الكريم ألكرمي ( أبو سلمى)، عبد الرحيم محمود، مطلق عبد الخالق، حسن البحيري.. تميّزوا بمواهبهم الكبيرة، ووعيهم، وثقافتهم الوطنية القومية الإنسانية، وانخراطهم في معارك شعبهم، ولذا تميّز شعرهم لأنه يحمل هموم شعب، وينافح عن وطن، ويجسد بطولات وتضحيات، وينوب عن قوى سياسية كانت في بداياتها عاجزة عن إدراك أبعاد الصراع على أرض فلسطين، والمخاطر التي يخبئها الانتداب البريطاني، والتي حذّر منها شعراء فلسطين في تلك المرحلة الممتدة حتى النكبة عام 1948.
من ينسى ( موطني) لإبراهيم طوقان، النشيد الذي ينشده ملايين العرب حتى يومنا؟ ومن ينسى لعبد الرحيم محمود:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسر الصديق
وإمّا ممات يغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان
ورود المنايا ونيل المنى
ومن ينسى لأبي سلمى: أنشر على لهب القصيد
أولئك الكبار لم تغب أصواتهم، ومنهم من رحل مبكرا بالمرض والقهر( إبراهيم طوقان)، ومن رحل شهيدا في الميدان( عبد الرحيم محمود)، ومنهم من عاش منشدا لفلسطين، ولم ييأس رغم اللجوء والتشرد…
شعبنا الذي مُزّق في الداخل تحت الاحتلال، والذي أُغلق عليه سور عال ثقيل الوطأة كي لا يتنفس أكسجين العروبة، ويختنق في النسيان..صمد، وتكاثر، وتشبث بالأرض والهوية، ومن ظهراني بضعة ألوف ولد شعراء كبار تحدوا وقاوموا وعلت قصائدهم في سماء فلسطين، وعبرت إلينا بأجنحة من زيتون وبرتقال فلسطين.
نسيناهم، أو كدنا..بل وصل الأمر حد التشكيك بعروبتهم بتهمة البقاء في الوطن تحت الاحتلال..عجبا: كيف يتهم الصامدون لصمودهم!
لكن أصواتهم هلّت علينا، فبدأنا نستيقظ بلهفة ودهشة على حضورهم الحامل لبشارة حياة شعبنا رغم التمويت، والتغييب، والقهر، والقمع.
هم مع المقاومة والتحدي، وأصواتهم مختلفة..مواهبهم عالية، يضخون في شعرنا العربي روحا جديدة، هي روح المقاومة، والتحدي، والقيامة، والانخراط في التجربة، فهم لا يكتبون عن مجردات، ولا يهومون في الفراغ، ولا يتعالون على واقع شعبهم، ولا يديرون ظهورهم يأسا وقنوطا تحت هول القمع والترهيب الذي يمارسه الاحتلال الذي استفرد بهم.
بعد خمسين عاما من الشعر، والملاحقة، والزج في السجن، والمقاومة..رحل ( أبو وطن محمد) سميح القاسم الشاعر الكبير، الذي أبدع شعريا، وكتب الرواية، والمسرحية، وعمل في الصحافة، وخطب في الجماهير الفلسطينية في احتفالاتها، ومهرجاناتها، وتظاهراتها.
رفض سميح القاسم التجنيد في جيش الاحتلال، وصرخ في وجه المحتلين: نحن عرب فلسطينيون، ولسنا طوائف..وأسهم برفضه التجنيد في فضح مخطط تمزيق الفلسطينيين طوائف وأديانا، هو العربي الفلسطيني الموحّد ( الدرزي)، وأورث موقفه الصلب العروبي لأبنائه، وما كان صدفة أن يُسمّي ابنه البكر اسما مركبا ( وطن محمد)، وفي هذا تحد للاحتلال و( قوانينه) العنصرية.
في جنازته تدفقت جماهير الفلسطينيين من كل فلسطين، وودعته كقائد وزعيم.
أعد قبره في سفح جبل (حيدر)..قريبا من القمة، ليطل على بيوت الجليل، ويبقى في فضاء قريته( الرامة)، وتلتقي روحه بقمة جبل الكرمل، وببحر حيفا…
أنا لا أخافك يا موت
لكنني لا أحبك
هذا ما خاطب سميح القاسم به الموت القريب منه في خاتمة رحلته مع المرض، هو الذي أنشد من عمق روح شعبه:
يا عدو الشمس لكن لن أساوم
وإلى آخر عرق من عروقي سأقوم
في مقدمته لأعمال سميح القاسم الشعرية، الصادرة عن دار العودة كتب المفكر الكبير مطاع صفدي: لم يعش الشعر مهرجانا شعبيا، ويكسر طوق العزلة عن بضع مئات من النسخ، تباع لحفنة مثقفين، ويتحرر من العوز والتجريد، ويكسر استعباد الألفاظ،، ليختلط بتراب الحياة وعرق كادحي الثورات الجديدة، ويمتزج بأهازيج الناس في حلبات اليأس والندب، وترجيح لهاث الحزن القديم على إيقاع الحقد الجديد..كما يفعل الشعر المقاوم بنا، وبثقافتنا اليوم.
سميح القاسم، محمود درويش، توفيق زياد..وقبلهم رائد القصيدة الحديثة في فلسطين المعلّم راشد حسين، والمخضرم حنا أبوحنا، وشاعر الغضب أحمد حسين.. كل هؤلاء، وغيرهم..ينتمون لشعب وقضية وتجربة متشابهة، ولكنهم، مع ذلك، يتميزون واحدهم عن الآخر.
كل هؤلاء، وقبلهم آباؤهم، وأخوتهم في المنافي..شعراء فلسطينيون، ولكن صفتهم الوطنية ونسبتهم إلى فلسطين لا تعني أبدا أنهم شعراء الموضوع الواحد، فلكل تجربته وخصوصيته وموهبته، ومن هنا غنى ما أضافه شعراء فلسطين لحركة الشعر العربي المعاصرة.
شعراء فلسطين انخرطوا في حركة شعبهم المقاومة، دون تنظير، بتلقائية، فكانوا روّادا لانتماء المثقف قبل أن يسمعوا بتنظير( غرامشي) وتبشيره بدور المثقف العضوي، والذي دعا إليه بعد سنوات من تألق شعراء فلسطين الروّاد.
المقاومة ليست مجرد مفردة ترد في شعر شعرائنا، ولكنها خيار واع، وبهذا الخيار عاشوا، سواء تحت الاحتلال، أو في المنافي.
ليس صدفة أن يتزامن حضور شعراء كبار في زمن واحد، فهذا حدث في الداخل، وفي قطاع غزة، وفي المنافي.
عرفته منذ العام 1983 في لقاء جمعنا في لندن.. متواضعا، قريبا من القلب، أليفا، لا يضرب بوزات كبعض المشهورين، وعرفت عنه أنه هكذا يعيش مع أهله في قريته، وفي الصحيفة، ويقدم الدعم والمساندة لكل ناشئ في الحركة الأدبية الفلسطينية، وهو يشعر كل من يعرفه بالمودة وكأنه يعرفه منذ زمن، وهو إلى ذلك يتمتع بكبرياء الفارس وأصالته، ونبله..وهذا ما نلمسه في شعره.
لا تنسوا أنه شاعر يعتز بعروبته رغم مصائبها وحالها الذي لا يسّر!.
رحل سميح القاسم، وبقي شعره الذي رفعه إلى مرتبة الكبار، وأسكنه في قلوب ملايين الفلسطينيين والعرب…
لروحه السلام.. هناك في أرض فلسطين، وروحه المحلقة في سمائها.
* رحل الشاعر الكبير سميح القاسم مساء يوم الثلاثاء 19 آب..وشيّع إلى قبره الذي أعده بنفسه في سفح الجبل المطل على الجليل..يوم الخميس 21 آب، في جنازة شعبية حاشدة تليق بمن أعطى عمره شعرا ونثرا ومواقف مقاومة لوطنه فلسطين.