الصدمة في كابول والفشل في واشنطن وردة الفعل من بغداد – د. عامر صالح
على حين غفلة استيقظ العالم رغم المقدمات الاولية لوقوع الحدث, على سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول واسقاط النظام فيها الذي تم تأسيسه من قبل امريكا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في العام 2001, وبعد عشرين عاما من محاولات اقصاء حركة طالبان واخيرا الحوار معها لأيجاد مخرج لحل سياسي بمساهمة جميع اطراف الصراع وبرعاية دولة قطر, ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي امريكا حيث زحفت الحركة على كل اجزاء البلاد وبسرعة مذهلة فاقت التصور الامريكي الذي ادعى ان الأمر يأخذ شهورا للسيطرة على العاصمة, وقد شعرت امريكا بخيبة الأمل من فشل وعودها في بناء الاستقرار والديمقراطية والتعددية واقصاء التطرف والارهاب في افغانستان, خلال عشرين عاما انفقت فيه المليارات من الدولارات في التأسيس لوضع جديد مختلف وكبديل لنظام طالبان المتشدد والذي كان مرتعا لبؤر الارهاب الدولي والتشدد وتصدير الفكر الظلامي, ولكن الحسابات الامريكية بعد عقدين من الزمن لم تثمر في بناء الدولة الافغانية ومؤسساتها كي تجعلها في حالة الدفاع الممكن والقوي ضد حركة طالبان بشكل خاص والتطرف بشكل عام, فأنهارات القوات الرسمية الافغانية بسرعة مذهلة مستسلمة لأرادة طالبان التي ستقرر شكل الحل القادم للمعضل الافغاني وطبيعة النظام البديل والذي على ما اعتقد لم يختلف عن نهج الامارة الاسلامية في زمنها قبل 2001, ونحن نعرف ان المنتصر في الصراع له استحقاقات بغض النظر عن مشروعيتها أم لا.
وقد وصل الفشل والخيبة والتقهقر الامريكي في افغانسان حد التنصل عن كل اهدافها السابقة في افغانسان وقد جرى ذلك بصلافة القوي المهزوم, حيث استخدم الرئيس الامريكي في خطابه آلية التبرير والاسقاط لتحميل الآخرين مسؤولية فشل امريكا وهزيمتها في افغانستان بزمن قياسي لا يمكن للعقل بالقبول به, وقد اكد بايدن في خطابه أن مهمة أمريكا في أفغانستان التي بدأت قبل عقدين من الزمان ” لم يكن من المفترض أن تكون بناء دولة أو خلق ديمقراطية مركزية… مصلحتنا الوطنية الحيوية الوحيدة في أفغانستان تبقى اليوم كما كانت دائمًا، منع هجوم إرهابي على وطننا”, واضاف ذهبنا إلى أفغانستان منذ ما يقرب من 20 عامًا بأهداف واضحة: الحصول على أولئك الذين هاجمونا في 11 سبتمبر 2001، والتأكد من أن القاعدة لا يمكنها استخدام أفغانستان كقاعدة لمهاجمتنا منها مرة أخرى. لقد فعلنا ذلك”, وكذلك العزف على مشاعر الأمريكين بأنه لا يريد بالمزيد من التضحية بأرواح الجنود ولا يرغب بتولي القادمون من الرؤساء الامريكين ملفات حروب لم تحسم, بالتأكيد انه خطاب المهزوم المثقل بمرارة الاندحار في افغانستان.
بعد عشرين عاما من الصراع مع قوى الارهاب الدولي تعود الادارة الامريكية لتسليم ملف الارهاب بيد قادته ومنتجيه وزعاماته, وقد يدفع العالم مجددا فاتورة ضخمة من خلال اعادة انتاج الارهاب بأشكال اشد شراسة عبر ايواء المنظمات الارهابية الدولية كالقاعدة وداعش وتوفير البيئة الآمنة لتلك التنظيمات الارهابية والتكفيرية لكي تنطلق من جديد وبأشكال اشد شراسة وتلون وخداع وأن التاريخ سيعيد نفسه بصور اشد قتامة وسوداوية, وبالتأكيد فأن الشعب الافغاني سيدفع ثمن فساد وجبن الحكومة الافغانية المهزومة والتي سلمت الامور بيد طالبان دون ان تطلق طلقة واحدة, حيث انها وخلال عشرين عاما لم تستطيع الوقوف بوجه حركة طالبان, فماذا كانت تفعل في عقدين من الزمن. المعطيات الميدانية تؤكد ان الحكومة الافغانية السابقة قبل سقوطها كانت غارقة في الفساد وان اجهزتها الامنية والدفاعية لا تمتلك مقومات الدفاع عن الشعب الافغاني وحمايته من ارهاب طالبان وفي ارساء الامن المجتمعي رغم مظاهر الانفتاح النسبي والبهجة العامة في الانفتاح على العالم الخارجي وبوادر التحسن في سياقات التعامل اليومي ومحاولات التأسيس لسلوك حضاري وخاصة في التعامل مع المرأة واستحقاقتها المشروعة في العيش الكريم والمساواة بعيدا عن التعسف والاذلال والقهر الذكوري المتلبس بلباس الدين في مجتمع متخلف ومثقل بالاضطهاد واللامساواة.
انعكاسات الحدث الافغاني له دلالته في الحياة السياسية العراقية بعد الاحتلال الامريكي في عام 2003 فالأحتلال هو نفسه في تداعياته الخطيرة في تفويت فرص بناء دولة المواطنة, حيث سعى الامريكان وفي الاستناد الى قوى الاسلام السياسي والاثني في بناء دولة هشة لا تقوى في الدفاع عن نفسها امام التحديات الكبيرة, كالارهاب وتجفيف منابعه واعادة بناء الأسس الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع العراقي على اسس من التطور التكنولوجي والتقني ومعايير الكفاءة, وقد استخدمت المحاصصة الطائفية البغيظة كنموذج لأدارة الحكم مما ادى الى اهدار الموارد المالية والبشرية وتمترس الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام حتى فقد العراق كل عوائده من النفط منذ 2003 الى اليوم ولم يشهد البلد اي بوادر نهضة مرتقبة.
نعم هناك دعوى تفائلية بأن العراق ليست افغانستان نسمعها يوميا وقد تكون من باب ” تفائلوا بالخير تجدوه ” ولكن لا تكتمل تلك الدعوة إلا بتوفر مقوماتها الاساسية ولكي لا نسمع غدا من الرئيس الامريكي بايدن او من يأتي بعده كما فعلها في افغانستان ” ان هدف الامريكان في العراق ليست بناء الديمقراطية بل القضاء على الارهاب ” ويترك العراق لقمة سائغة بيد التنظيمات الارهابية والمليشياوية وحملة السلاح المنفلت والجريمة المنظمة, وعندها سيفلت بايدن بجلده كمحتل وعليه استحقاقات كبيرة ويترك العراق لقوى اللادولة الظلامية, ولعل في ابرز الخطوات الاتية تشكل مقدمات لعراق آمن:
ـ نبذ نظام المحاصصة الطائفية والاثنية واعادة بناء العملية السياسية على أسس دولة المواطنة العابرة للأنتماءات الفرعية, فأن نظام المحاصصة هو من مخرجات الاحتلال الامريكي الذي ألتقت مصالحه مع كل المصالح الشاذة لقوى الاسلام السياسي والاثني التي تعادي الدولة.
ـ محاربة الفساد الذي طال امد عدم محاربته ونحن نعرف ان الارهاب والفساد كلاهما يغذي الآخر بمقومات بقائه وان الابقاء على ملفاته دون محاسبة هو نذير باعادة انتاج الارهاب والخراب المجتمعي.
ـ لقد تم القضاء على الارهاب الداعشي كقوة عسكرية ولكن لم تعالج اثاره وثقافته وبقيت عودته نتيجة منطقية لعدم معالجة اسبابه, من فقدان للحياة الحرة الكريمة وعودة النازحين بفعل الارهاب الى ديارهم وبشروط انسانية تليق بمواطنتهم.
ـ البدء فورا في السيطرة على السلاح المنفلت والمليشيات السائبة والخارجة عن القانون فأن وجودها يشكل ارضا خصبة لعودة داعش من خلال ضعف الامن المجتمعي وتدهوره والذي يشكل بيئة مواتية لعودة الارهاب.
ـ اذا كان للأنتخابات ان تكون حرة وديمقراطية فعلى الحكومة توفير مستلزمات نجاحها في السيطرة على السلاح المنفلت والمال السياسي والتزوير فلا ديمقراطية مع المليشيات وحملة السلاح وعدم المؤمنين بالتداول السلمي للسلطة ومنع الاحزاب ذات الاجنحة المسلحة من المشاركة في الانتخابات.
نحن نعرف ان ظروف الاحتلال وتداعياته حاضرة بكل مساوئها بدء من التأسيس للعملية السياسية او من القبول في الاحتلال برسم ملامح مستقبل العراق, كما نعرف ان اي نظام سياسي يقام خارج اطار تفاعل العوامل الموضوعية والذاتية لنشأته سيكون ناقصا ومهددا لمستقبل البلاد وخاصة عندما يستند الى قوى غوغاء غير مؤمنة بالديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة, ولكن لا نستطيع العودة الى نقطة الصفر فالامر مرهون بمعالجة آثار الاحتلال السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
هل يمكن للنموذج الافغاني بتداعياته الخطيرة ان يستنسخ على الارض العراقية, الجواب نعم حيث الظروف التي يمر بها العراق ليست سهلة وان صراع قوى اللادولة يشتد للاطاحة بالعملية الديمقراطية وعلى الاقل في اسسها العامة الى جانب عوامل الفقر والفساد وانعدام الخدمات في الصحة والتعليم والكهرباء والامن المجتمعي, وبالتالي فالمسؤولية لردع الارهاب ومنعه هو في اصلاح الحياة العامة لتجفيف منابعه.
اما عدا ذلك فأن لحظات الانهيار الكبرى لا نستطيع التنبؤ بها في ظل فوضى السلاح وتعدد اقطاب امتلاكه الى جانب الارهاب الرسمي المتمثلة بداعش واخواتها, يقابلها حديث عن ضعف الاجهزة الامنية ومهنيتها وتغول قوى الاحزاب والمليشيات فيها وجميعها عوامل لا تضمن صمام الامن والسلام في لحظات الانفجار المفاجئ, يكفي هنا ان نشير الى مقتل اكثر من 700 شهيد في مظاهرات سلمية مطالبة بحقوقها الاساسية دون العثور على القاتل المجرم الى جانب 30 الف جريح ومختلف الاعاقات. ما نستطيع فقط التأكد منه في لحظة السقوط ان بايدن سيعيد خطاب افغانستان بأنه لم يكن هدفه بناء الدولة العراقية والنظام الديمقراطي فيها وان هدفه الحفاظ على ارواح الجنود الامريكين وطز بالعراق وشعبه وعفى الله عما سلف. اذا كانت هناك قوى سياسية مخلصة ومحبة للعراق عليها التنازل عن مصلحتها وامتيازاتها للحفاظ على الوطن من الكارثة المحدقة.