الصفصاف الفلسطينية رمز المقاومة والوحدة – نقولا طعمة
في ذكرى مجزرتها: الصفصاف الفلسطينية رمز المقاومة والوحدة
ابن بلدة “الصفصاف” في قضاء صفد في الجليل الأعلى بفلسطين؛ حسن حمد، يروي لنا، قبل رحيله، حكاية بلدته.
آب/أغسطس 2021، رحل حسن حمد في مخيم البداوي شمالي لبنان، وهو ابن بلدة “الصفصاف” في قضاء صفد في الجليل الأعلى بفلسطين؛ ولد فيها 1930، ورحل، والغصة في قلبه، لأنه لم يستطع العودة حيث تمنى الرحيل.
قالها والدموع تتغرغر في عينيه يوم التقيناه في منزله في مخيم البداوي شمالي لبنان في 11 تشرين الأول/أوكتوبر 2016: “صار عمري 76 سنة.. حلو أنو الانسان يموت في بلده”؛ قالها وتوقف منهياً حديثه حيث لم يعد يُطِق المزيد.
بدأت الذكريات تكرّ من مخيلته. تحدث طويلاً عن “الصفصاف”، وتفاصيلها الدقيقة، حاراتها، وساحتها، والمدرسة، والحقول، والعمل، ثم التهجير، وما رافقه من مجابهات مع المحتلين أرضه، والمجزرة التي وقعت فيها، وذهب ضحيتها ما يزيد عن 80 شاباً ورجلاً، عدا حرق البيوت، وتدميرها، والاعتداءات اللاأخلاقية التي مورست بحق أبنائها في ليلة واحدة.
كان حمد في الـ18 من عمره ليلة وقوع المجزرة، وتهجيرها، ونقل في هجرته ذكرياته، الحلو منها، والمرير، وهي كانت ما زالت حية فيه، يعيش تفاصيلها لحظة بلحظة، يعيش بها ومعها، منتظرا العودة إليها، ومتصارعا مع نفسه في خوفه من ألا يتحقق حلمه.
يصف بلدته الوادعة تتوسطها ساحة فسيحة، وحولها حارتان شرقية وغربية، وفي الساحة كان ملتقى الأهالي يوميا، وفي المناسبات الاجتماعية، خصوصا الأعراس، حيث كانت تقام الدبكة، وتنشد الأغاني التراثية.
غالبية بيوت البلدة من طبقة واحدة كما يتذكر، ومن حجارة وطين، لكن مع تقدم الزمن، بدأت تبنى فيها طبقة ثانية من حجارة أكثر حداثة. عدد سكانها ألف نسمة، يقول حمد، وتشرد من تبقى منهم ليلة التهجير، في عملية احتلالها من قبل “الإسرائيليين”.
وصف حمد سكان بلدته بالفقراء والبسطاء الذين كانوا يعملون بزراعة الحبوب من قمح وشعير وحمص وفول وما شابه، وبعض الفاكهة كالعنب والتين والزيتون، إضافة للتبغ، وكانت مدينة صفد، مركز القضاء، وجهة الأهالي لبيع منتوجاتهم.
يقول حمد: “كانت حياتنا هانئة، وجميلة على بساطتها، وكنا سعداء في حياتنا، ويعيش فيها المسلم والمسيحي على حد سواء، ولم نسمع مرة أن أحداً اختلف مع أحد على مفارقة الانتماء”.
تلقى حمد دراسته الأولى في مدرسة البلدة الواقعة ناحيتها الغربية، والتدريس فيها اقتصر على الصف الرابع الابتدائي، والمقتدر ينتقل إلى صفد لمتابعة الصفوف الأعلى، وغير المقتدر، يتوقف عن الدراسة.
يتذكر حمد أن والده استأجر له غرفة عند سيدة في صفد، كانت تهتم به، وبحاجاته من مأكل ومشرب وتنظيف. ويوم توجه للتسجيل في مدرستها، طُلِبَ منه إعادة الصف الرابع “لأنني لم أتعلم الانكليزية”، بينما كانت صفد مدينة وفيها مركز المندوب السامي البريطاني.
بعض التلامذة تلقوا علومهم في صفد حتى الصف السادس، وكانوا ينتقلون إليها سيراً على الأقدام لمسافة تناهز مسير ساعة ونصف، ويفيد أن عائلة حمد في الصفصاف كانت العائلة الوحيدة التي أرسلت بنيها للتعلم في صفد لأنها كانت مقتدرة أكثر من سواها.
تذكر حمد عندما ذهب إلى صفد: “درسنا اللغة العربية، والحساب، والتاريخ، والجغرافيا، وأنهيت المرحلة الابتدائية حتى الصف السادس، وسكنت عند عائلة لديها 12 ولد، منهم ولد من القنيطرة من بيت شناعة، ومن ميرون من بيت كعوش، ومن السموعي من بيت الأشقر، والمدرسة اسمها مدرسة الزاوية، مديرها محمود عابد، الذي كان ملما بتاريخ العرب”.
إلى الغرب من البلدة كانت البيادر، التي تجمع الناس فيها متعاونين على دراسة الحبوب. وكان فيها نبع ماء قوي يساعدنا على إنتاج جيد، وله سلم من 20 درجة نزولا، والنساء ينزلن إليه لتعبئة الجرار، وقبل خروجنا بأقل من سنة ونصف، قامت سلطات الانتداب البريطاني بسحب المياه إلى القسم الجنوبي، حيث بنت خزانا من الاسمنت المسلح، ركبت عليه عشرة حنفيات، وصار الناس يتزودون المياه منها، ولم يكن هذا العمل لخدمة البلدة، إنما لصالح “إسرائيل”، والمندوب السامي البريطاني الذي كان مركزه في صفد.
روى حمد أن العلاقات مع اليهود الوطنيين كانت طبيعية، غير أن “الهجرة الاستيطانية بدأت قبلا وبدأت تظهر بوضوح ابتداء من 1914، بدعم بريطاني، وبانحياز ضد العرب، لذلك كانت حساسية الموقف من البريطانيين أساسا، بينما كان العرب يهزأون من اليهود، ويسمونهم أولاد “الميتة” نظرا لضعفهم”.
نقل حمد عن اهله أنه في العام 1936، بدأت تتشكل مجموعات مقاومة سموها عصابات، لم تكن تملك أي سلاح، وكان هدفها إعاقة حركة الانتداب البريطاني، وجرت صدامات ومناوشات معهم، بصورة متقطعة، وكان الشباب العرب المندفعون يحفرون الطرق ليلا لمنع مرور الآليات البريطانية حيث لمسنا الانحياز الكبير منهم ضدنا. وحتى 1947، كانت المشاكل قليلة مع اليهود، لكنها عندما كانت تقع، كانوا يهددوننا بعبارة: “بيجيكم يوم”.
صدام وتهجير
يروي حمد ما يتذكره عن الصدامات التي وقعت مع البريطانيين، فاليهود، ثم تهجير بلدته، فقبل حلول 15 أيار 1948، موعد الانسحاب البريطاني من فلسطين، بدأ الانتداب البريطاني بتسليم معداته لليهود تنفيذا لما خطط له وفق وعد بلفور، ثم أخلى البريطاني معسكراته بالتدريج، ومن الدلائل على نواياه هو سقوط حيفا، أكبر المدن الفلسطينية بيد اليهود بعد انسحابه منها في شباط ، شهورا قبل موعد الانسحاب، ومع حلول موعد انسحابه، كانت معظم المدن الرئيسية قد أصبحت بيد اليهود التي سلمها الانتداب لهم.
ويذكر حمد أنه “في آذار (مارس) 1948، بدأ جيش الانقاذ العربي يأتي من سوريا بقيادة فوزي القاوقجي، وباتت المنطقة تحت سلطته، وكانت تتوارد أنباء عن سقوط المدن الكبرى، كحيفا ويافا وعكا، فبدأ مع الأهالي ببناء المتاريس، وحفر الخنادق، وبناء الأبراج استعدادا للمقاومة”.
وفي 10\5\1948، قبل انتهاء الانتداب بخمسة أيام، سقطت صفد، مركز القضاء الذي كانت تتبع له 73 بلدة، ووقعت معركة حولها.
أخلت النساء والأطفال والعجزة البلدة نحو الشمال، تحسباً لهجوم، ولما لم ينفذ “الإسرائيليون” هجومهم، عادوا، وجاء الصيف، فـ”حصدنا القمح، وقطفنا الزيتون، والتبغ وظننا أنهم لن يأتوا”، بحسب حمد.
بلوغا لليلة 28\10\1948، جاءت طائرات وقصفت، ويقول حمد: “أول مرة نرى فيها قصف الطيران، فدب الخوف، وبدأت الاستعدادات للمعركة، فأخرجت النساء والأطفال إلى منطقة الوعر قرب البلدة، وبقي قسم كبير من الرجال، وعند التاسعة ليلا بدأ القصف المدفعي على القرى الثلاثة، ميرون جنوبا، والصفصاف في الوسط، والجش شمالا”.
وعند عصر ذلك اليوم، يروي حمد أن “ظابطاً من جيش الانقاذ، وهو علوي اسمه محمد اسماعيل، شهد حركة مريبة عند أطراف البلدة بواسطة ناضور، وفي تلك اللحظة كان الشيخ علي يؤذن على شجرة، فتهيأ جيش الانقاذ مع رجال البلدة، وبعد العشاء، بدأت المعركة، فتقدم مشاة الجيش “الاسرائيلي” إلى ميرون، ودخلوها، وتابعوا نحو الصفصاف” حيث دارت معركة حامية.
وتابع: “بدأ دخول الصفصاف بعد أن تمكنت آليات “الإسرائيليين” الثقيلة من شق الطريق، وإزالة الألغام التي زرعها رجالنا. ومع تقدمهم، خرج الأهالي ممسكين بأيدي بعضهم البعض، حيث كان قد تجمع ما يناهز المائة شخص في منزلنا، وخرجنا إلى منطقة ثانية، ولم يتعرض الجيش “الإسرائيلي” لنا لأنه كان يريدنا أن نغادر منازلنا”.
وبختام الرواية المأسوية، يفيد حمد: “خرجنا إلى الغرب من الصفصاف، وانتشرنا بين الأشجار، واتجه كثيرون نحو جنوب لبنان، ومع شروق الشمس، أي صبيحة 29\10\1948، شاهد “الإسرائيليون” قتلاهم، فجن جنونهم، وسدوا المنافذ، ودخلوا البيوت، وجمعوا من بقي، وقتلوا 80 شاباً”.
انتهت الصفصاف، وبقي المحتل مقيماً في مدرستها، مع بيتين صغيرين، أما بقية البيوت فسويت أرضاً تكريساً لنهج وحشي لم يتوقف حتى اليوم.
الميادين نت
28-10-2021