الصيّاد والتنين .. حكاية زكريا الزبيدي – معين الطاهر
عنوان هذه المقالة مقتبسٌ من مسودة رسالة قدّمها زكريا الزبيدي إلى جامعة بيرزيت، ويشرف عليها عبد الرحيم الشيخ، لنيل درجة الماجستير في برنامج الدراسات العربية المعاصرة، بعنوان “الصيّاد والتنين: المطاردة في التجربة الوطنية الفلسطينية من 1905–2018”. وقد جاءت في 169 صفحة، تحمل شعار الجامعة التي يعتقل الاحتلال أكثر من ثمانين طالبا من أبنائها، تمهيدًا لمناقشتها التي لم تتم، نظرًا إلى ظروف زكريا الزبيدي المناضل المطارد، ومن ثم الأسير لدى العدو، من دون محاكمة، منذ عامين ونصف العام. وهي رسالةٌ كما قال بيان الجامعة “قدّمت في عام 2018، ولا تزال قيد التحضير، ولم يتم تحويلها بعد إلى لجنة النقاش، وذلك في انتظار ضبطها ومراجعتها مع كاتبها، عبر العائلة والمحامي، كما جرى العُرف الأكاديمي”. وليس من واجب هذه الأسطر منح تقييم أكاديمي، أو إبداء رأي بحثي في الرسالة ومضمونها وقيمتها العلمية، فهذه من مهمات لجنة الإشراف والمناقشة في جامعة بيرزيت، ولعل زكريا يضيف إليها فصلًا أخيرًا عن قصة الهروب من سجن جلبوع، يصف فيها لحظات الحرية التي عاشها وعشناها معه في الأيام الخمسة التي قضاها طليقًا مع رفاقه، قبل أن يعود، برغم القيد، حرًا إلى محبسه، فيما بقينا نحن أسرى واقع الاحتلال الجاثم على صدورنا.
تضم رسالة الزبيدي أربعة فصول، يوضح، في أولها، الإطار النظري الذي اعتمده للدراسة. ويعنون الثاني بـ “المطاردة وثقافة المواجهة”، مقدمًا فيه نماذج تاريخية عربية وعالمية. أما الثالث فيتحدث عن المطاردة في الثقافة الفلسطينية، بين الفكر والتجربة، مرورًا بالحقبة العثمانية والانتداب البريطاني وحتى الانتفاضة الأولى، وهي فصولٌ غلب عليها الطابع النظري والتاريخي. وأخيرًا الفصل الرابع، وهو موضوعنا، وعنوانه “تجربة الصيّاد والتنين في الساحة الفلسطينية بين المفهوم والواقع”، وهو في حقيقة الأمر سيرة ذاتية لزكريا الزبيدي نفسه في مواجهة الاحتلال الصهيوني، الذي يصفه بالصياد، فيما يطلق على نفسه اسم التنين.
*حين ظهرت معالم مرحلة سياسية جديدة، سُميت مرحلة “السلام”، سمّاها زكريا مرحلة “الاستسلام“*
ولد “ز. ز.”، كما يسميه في الحالة موضع الدراسة، عام 1976، من عائلة تنحدر من قرية وادي الحوارث قضاء حيفا. جُرح جدّه في معارك عام 1948، واعتُقل جدّه الآخر في سجن شطة، حيث شارك في الهروب الكبير من المعتقل. ولعل الإصرار على الهروب، والتطلّع إلى الحرية، أمرٌ لازم زكريا نقلًا عن أجداده، وتأثرًا بالتربية والبيئة التي تربّى عليها في مخيم جنين.
جرحه الأول كان في عام 1988، على أعتاب الانتفاضة الأولى، حين قرّر الاحتلال هدم منزله، فتظاهر الأهالي، وانتفض الأطفال، وبينهم زكريا، يرجمون الجنود بالحجارة، فأُصيب حينها برصاصةٍ في قدمه، وله من العمر 13 عامًا. أما والده فقد قرّر عدم المغادرة، فالمكان لا يمكن هدمه، والمنزل تسهُل إعادة بنائه. بعدها بعام، اعتُقل الزبيدي للمرة الأولى ستة شهور، وعند الإفراج عنه، كان قد حسم أمره بالانضمام إلى حركة فتح. ولم يلبث، في بداية عام 1990 أن اعتُقل ثانية، وحُكم عليه بالسجن أربعة أعوام ونصف العام، وكانت والدته تزوره هو وشقيقه الأكبر ووالده الذي أُفرج عنه لإصابته بورم في الدماغ، وسمع زكريا نبأ وفاته في أثناء اعتقاله في سجن جنين من مكبرات الصوت في المسجد القريب.
في السجن، بدأت تظهر معالم مرحلة سياسية جديدة، سُميت مرحلة “السلام”، وسمّاها زكريا مرحلة “الاستسلام”. كان ثمّة تناقض بين ما هو مكتوب في الكتب والكرّاسات التنظيمية التي بين أيدي الأسرى وما يتسرّب من أنباء عن اتفاق أوسلو، بين التمسّك بالمبادئ الثورية والشوق للحرية.
*حين اشتعلت الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، تغيّر كل شيء؛ عاد زكريا إلى مخيم جنين، وأصبح قائدًا في كتائب شهداء الأقصى*
بعد الخروج من المعتقل، استوعبت أجهزة السلطة أغلب الأسرى المحرّرين، لكن حين اشتعلت الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، تغيّر كل شيء؛ عاد زكريا إلى مخيم جنين، وأصبح قائدًا في كتائب شهداء الأقصى. وفي بداية مارس/ آذار 2002، بدأت معركة مخيم جنين الأولى، استشهدت والدته برصاصة قنّاص. وفي معركة مخيم جنين الثانية في إبريل/ نيسان من العام نفسه، استشهد شقيقه طه، وفي اليوم الأخير من المعركة كانت الذخيرة قد نفدت من المقاتلين، ولم يتبقَ من حيّزٍ لحركتهم غير مئات الأمتار. اقترح بعضهم التسليم، أما زكريا فاختبأ بين الركام، وبقي تحت الأنقاض مع عدد من رفاقه 18 يومًا، بعد أن نفدت ذخيرته، وأجاب أحدهم حين قال “انتهت اللعبة”، بأنها لم تنتهِ، “ونحن من سيكتب نهايتها”.
يروي الزبيدي في رسالته أخبارًا عن عدة محاولات نُفذت لاغتياله، خرج من بعضها برصاصات أو حروق، ونجا بأعجوبةٍ من أخرى، وعاش مطاردًا ضمن حاضنته الشعبية، واستمرّت لعبة الصياد والتنين، كما يسميها، حتى عام 2007، حين عقدت الأجهزة الأمنية الفلسطينية اتفاقًا مع العدو الصهيوني يقضي بإصدار عفو عام عن المطاردين والناشطين في انتفاضة الأقصى، شريطة تسليم سلاحهم للسلطة الفلسطينية. وشمل هذا الاتفاق زكريا الزبيدي الذي اتجه للعمل الثقافي، وعُيّن مديرًا لمسرح الحرية في مخيم جنين، حيث يتعلّم الأطفال الفنون المسرحية والموسيقى. لم تُدم هذه الفترة طويلًا، إذ سرعان ما نكث العدو بوعده. وفي نهاية عام 2011، أُلغي العفو، ونصحته السلطة الفلسطينية بأن يسلم نفسه إليها حتى لا يعتقله العدو، ويا لها من حمايةٍ تُمنح للمناضلين بأن يُعتقلوا من دون محاكمة في سجون الأجهزة الأمنية الفلسطينية لقضاء خمسة أشهر فيها!
*لم تنته رسالة زكريا الزبيدي بعد، فما زال أمام زكريا ورفاقه فصول عديدة لكتابتها، يسطّرونها بدمائهم*
اعتقل العدو الصهيوني، قبل عامين ونصف العام، الزبيدي في وسط رام الله، وأودعه السجن من دون محاكمة، قبل أن يقرّر هو ورفاقه الخمسة الخروج في إجازة يتجوّلون فيها في مرج ابن عامر، ويتنسمون هواءه، رغم أنف السجّان، وليعيدوا كتابة فصل جديد في ملحمة أسرى الحرية.
لعل زكريا، عندما يُكمل كتابة رسالته، يضيف إليها فصولًا جديدة تتعلق بنفق الحرية الذي شكّل علامة بارزة في نضال الفلسطينيين. ولعله يتذكّر أن يروي للأجيال القادمة كيف أهمل اتفاق أوسلو الأسرى، وكيف تدافع السلطة عن أسراها خلال أكثر من ربع قرن على الاتفاق، حتى أصبحت السجون الإسرائيلية اليوم تضم في زنازينها 4850 أسيرًا؛ منهم 540 أسيرًا إداريًا، و225 طفلًا وقاصرًا، و40 أسيرة، و11 نائبًا منتخبًا في المجلس التشريعي، و25 أسيرًا مما قبل اتفاق أوسلو، و544 أسيرًا محكومًا بالسجن مدى الحياة، و499 محكومًا بأكثر من 20 عامًا. ولعله يضيف فصلًا أخر عن نهاية انتفاضة الأقصى، وما هي المساومات التي تمّت على أعناق قادتها، وكيف لسلطةٍ وطنيةٍ أن تكون وكيلا عن العدو، وتساوم على سحب أسلحتهم التي عجز العدو عن نزعها، مقابل وعودٍ زائفةٍ انتهت بأن ضمّت السجون أغلب النشطاء ممن نجوا من الاغتيالات المدبرة، ولعل ذلك شكّل صدمةً جديدة لزكريا الزبيدي، فاقت صدمته حين كان في السجن ينتظر أخبار اتفاق أوسلو، ففي المرة الأولى كان ثمّة أمل بالخروج من المعتقل، وداعبت بعضهم أحلام بناء دولة. أما في المرة الثانية فقد أضحت الانتفاضة في نظر قادة السلطة كارثة، والتنسيق الأمني مقدّسًا، والمناضل إرهابيًا.
لم تنته رسالة زكريا الزبيدي بعد، فما زال أمام زكريا ورفاقه فصول عديدة لكتابتها، يسطّرونها بدمائهم، ويدقّون بها جدران الزنزانة، ويتردّد صداها في كل فلسطين، ويردّد صوتها أحرار العالم، فهم وحدهم من سوف يكتب نهاية فصولها.