الطفل الأسير شادي فراح.. لعنة العصر الرديء – نجوى ضاهر
“كيف سأعبر يومًا عما أشعر تجاهك يا أمي، وليس للقلب قلم يكتب عني ومن له قلب كحجم قلبك يا أمي”.. رسالة من صندوق بريد أصغر أسير في سجون الإحتلال الصهيوني شادي أنور فراح، إبن بلدة كفر عقب في شمال القدس المحتلة، أرسلها من زنزانته التي تضيق جدرانها الرطبة كل يوم على طفولته التي تحرق مراحلها الطبيعية منذ عام مدّد قبل أيام إلى عامين آخرين، بسبب صلف العدو الصهيوني وغياب العدالة وإنتهاك كل قوانين الحقوق الإنسانية من قبل الكيان العنصري الإستيطاني، وغياب الرادع الدولي المتواطئ مع سياسته بتجاهلها عمدًا. شادي فراح حالة موجعة من أصل 1384 حالة اعتقال لأطفال قُصّر إعتقلهم الإحتلال، تتراوح أعمارهم ما بين 11 الى 18 عامًا يمثلون 21 بالمئة من إجمالي الإعتقالات”.
في حديث من الجنوب اللبناني إلى القدس الصابرة الأبية وهي تحتفي اليوم بالعملية البطولية التي قام بها الشهيد فادي القمبر وكانت حصيلتها مقتل أربعة جنود وعشرات الجرحى، جاء صوت أم الأسير شادي “فريهان دراغمة” ليقول للعالم الحقيقة دون رتوش ومغالاة “إبني يقبع في السجن مع أشخاص محاكمين بسبب المخدرات والإغتصاب والقتل، يحتاج إلى الرعاية الأمومية بسبب معاناته من نقص المناعة”، متسائلة عن قدرة الزنازين القاسية بجلاديها، الصماء بأسوارها على توفير هذه الحماية.
وعلى الرغم أنّ شادي، كما قالت أمه تحوّل من طفل تشتري له التشيبس والحلوى إلى رجل قبل الأوان، إلا أنه ما زال طفلًا كما بقية أطفال العالم يبحث عن الأمان في حضن أمه، وهو القائل لها دومًا “نيمني بحضنك يما” خلال زيارتها الأسبوعية في خلوة يُصر عليها كي يخفي عواطفه كما يقول لها أمام رفاقه الأسرى، وحين تُمسِكُ بيد أخيه الصغير بعد إنتهاء الزيارة، يصرخ ببكاء مكتوم، “إخطفوني من هنا وخذوني معكم، ثم يضرب رأسه في الحائط مرات عديدة غاضبًا للأمنيات الصغيرة التي لا تتحقق. وتعود أم شادي معنا إلى طفولته التي بدأت بِتعسُر خروجه إلى هذا العالم بسبب إحتجاز الطبيب على أحد الحواجز الصهيونية، مما تسبب في تعرض شادي للإختناق، لكن الحياة كانت دومًا تريده، ربما ليعيش ويكون سجنه تعبيرًا صارخًا عن العالم الذي يسحق العدالة بحقارة كل يوم كما قال الشهيد غسان كنفاني يومًا.
تتابع أم شادي رواية الوجع الممتزجة حروفها بالدموع والصوت المخنوق في الحنجرة، مؤكدةً أن شادي المولود في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر لعام 2003 كان طفلًا كما كل الأطفال يحب الحياة والكلام ويشيع الضحك أينما يكون، ولا تتوقف أسئلته عن القائد صلاح الدين الأيوبي الذي حرّر بيت المقدس، خاصة أنه ينتمي إلى عائلة جذورها كردية (الفراح)، والتي أتت واستقرت في فلسطين منذ زمن طويل. وتضيف أم شادي “لا أبالغ حين أقول إنّ شادي تكلم في سن صغيرة، وكان يحب الدبكة الشعبية فإلتحق بفرقة سفراء فلسطين للفنون الشعبية في سن الثامنة، كما تعلم ركوب الخيل والسباحة، وكان متفوقًا في مادة الرياضيات ويحب اللغة العربية وإلقاء القصائد والخطابات الوطنية في الإذاعة المدرسية في المناسبات الوطنية”.
أما عن يوم الإعتقال، فتحدثنا أم شادي أنه كان يومًا باردًا جدًا في أواخر شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الفائت، حيث أنهى إختبار الشهرين وعاد إلى البيت ثم جاء رفيقه أحمد رائد الزعتري وخرجا ليلعبا معًا ووصلا إلى باب العامود في القدس. وعندما أنفقا ما بحوزتهما من أموال قليلة، طلب شادي من رفيقه أحمد العودة إلى المنزل حتى لا تغضب والدته، وتوقفا أمام محطة الباص فسمع لغتهم العربية أحد المستوطنين الصهاينة، فقام بإعتقالهما بتهمة كاذبة هي “محاولة الطعن وحيازة سكين”، وتم إيداعهما في مؤسسة إصلاحية في مدينة طمرة شمال فلسطين والتي تتبع لسلطات الإحتلال، وتضم القاصرين من أصحاب الجنح المدنية والأخلاقية ليعيش معهما شادي وأحمد الزعتري وأحمد مناصرة وأدهم علقم ومعاوية علقم وغيرهم كثيرون.
وقبل ذلك وأثناء التحقيق، تقول فريهان دراغمة (أم شادي) إنّ نجلها تعرّض لأبشع صنوف التعذيب بالكهرباء، كما تم نزع ملابسه رغم البرد ووضعوه في غرفة تحت التكييف وحلقوا له شعره وبللوا ملابسه بالكامل ورموه عاريًا قربها في الزنزانة، كما تعرّض للضرب والشتم لساعات طويلة وهو في سن الحادية عشرة. وبعد مرور أربعة ايام من التحقيق، تمّ عرضه على المحكمة وقرّر القضاة تأجيلها دون أي وجه حق شرعي وقانوني، كما تواطأ الصليب الأحمر الذي رفع مسؤوليته عن قضيته بعد مضي أربعة أيام على التحقيق. تضيف أم شادي: “ورغم مناشدتنا بفصله عن المجرمين والمحاكمين مدنيًا على جرائم جنائية لا أمنيًا كما هو حال إبني وغيره من الأطفال، إلّا أنه لم يستجب لندائنا أحد، وأصرت “إسرائيل” الدولة المزعومة الداعية كذبًا حرصها على مواثيق حقوق الإنسان التي وقعتها صوريًا على محاكمة طفل بكل وحشية كيانها القائم على الظلم”.
تذهب أم شادي أسبوعيًا لزيارة إبنها على نفقتها الخاصة، وتحاول دائمًا أن تحمل معها كل ما يحب، وهي الأم التي صورتها وسائل الإعلام بعد محاكمة إبنها لعامين قادمين دون إستثناء العام الذي قضاه في الإصلاحية منذ أيام وهي تحمل كيس الشيبس وتصرخ متسائلة بعد صدور القرار المجحف “أين محاكم العدو الصهيوني التي تضرب كل يوم بعرض الحائط كل القوانين، أين دور هيئة شؤون الأسرى التي يمكن أن تقدم لنا بالضغط المستمر لو القليل”.
وكانت أم شادي تتمنى أن تسأل القاضي “ما هو شعورك لو حوكم إبنك بدون تهمة حتى”، مؤكدةً أنّ قرار إعتقال إبنها قرار مخطط له، ضمن سياسة سلطات الإحتلال بإعتقال الطفولة وإتخاذ قرار الكنيست بتخفيض الحد الأدنى لإعتقال الأطفال من 14 إلى 12 عامًا، بحجة القضاء على الإرهاب.
وتصمت أم شادي في ختام الحديث طاويةً حزنها الدفين وجرحها المكلوم رهين إنتظار جديد لعامين، سيكونان دهرين بالنسبة لطفل أصر رغم كل شيء، على إكمال الصف السابع في السجن بدرجة التفوق دون أن تغيب دهشة عينيه عن سؤال “ما الذي يحدث؟”، في رسالة شكلها كسفينة وكتب فيها كلمات لا تمحى لأمه، “أحبك أمي، يا يما بدي إياكي مثل شجرة النخيل، ما تهزها الريح ولا العواصف”.. بينما ستبقى أم شادي على ميعاد دائم مع ترتيب حاجيات إبنها للدراسة وزيارة مقعده الفارغ وفي مقلتيها ألف سؤال ودمعة.
– بيروت برس –