العراق: حول التسرب المدرسي: الأهمية والأسباب والحلول – د.عامر صالح
رسالة الى السيد وزير التربية في العراق حول التسرب المدرسي: الأهمية والأسباب والحلول
أعلنت وزارة التربية العراقية بتاريخ 2ـ8ـ2017 ان 20 % من الطلبة متسربين من المدارس. وقال وزير التربية محمد اقبال في بيان لمكتبه الاعلامي” إن ظاهرة التسرب، تتنافى مع قانون التعليم الالزامي لاسيّما أنه شكل نسبة 20% على وفق عينة الدراسة التي أجرتها وزارة التخطيط”. وبين ان “وزارة التربية تسعى الى إعادة التلاميذ المتسربين كافة، الى مقاعد الدراسة، فضلاً على أُولئك الذين اضطروا الى ترك التعليم بسبب العمليات العسكرية، التي شهدتها مناطقهم، مما استدعى الى استيعابهم ضمن مشروع حقك في التعليم، ومن خلال البرنامج الذي ترعاه الوزارة بهذا الصدد ” حسب البيان “. وهنا أقول ان هذه النسبة أقل بكثير مما هي في الواقع اذا اخذنا عموم محافظات العراق والمحافظات ذات الظروف الكارثية, ومضيفا الى تلك النسبة ممن لم يلتحقوا اصلا في التعليم, زائدا التسرب في مراحل التعليم الاخرى وليست فقط في المرحلة الابتدائية, علما ولأغراض المقارنة أن العراق في عام 1973 انخفضت فيه نسبة التسرب الى 5% يقابلها ارتفاع نسبة التسرب في عام 2004 الى 24% ” أي قبل عقد من دخول داعش والخراب “. وهنا أوجه رسالة الى السلطات التربوية لتبيان حجم الكارثة التربوية ومشيرا الى اسبابها وسبل العلاج !!!.
لعله من نافلة القول أن دول العالم تولي اهتماما ورعاية بالتعليم من منطلق أن التعليم هو أساس تقدم الأمم ومعيار تفوقها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وعن طريق التعليم يكتسب الفرد المعرفة وتقنية العصر والقيم والاتجاهات التي تحيط بشخصه من جميع الجوانب وتجعله قادرا على التكيف والتفاعل الايجابي مع البيئة والمجتمع.وأن اتساع القاعدة الشعبية لقطاع التربية والتعليم وتحوله إلى اكبر القطاعات الاجتماعية تجمعا للعنصر البشري دفع العديد من الحكومات المتقدمة والنامية إلى تبني استراتيجيات شاملة تزيل الطلاق التقليدي بين المدرسة والعمل والحياة وإحكام ربط هذا القطاع بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد عززت هذا التوجه الدراسات الكثيرة التي بينت أن التربية ليست ” خدمة استهلاكية ” تقدم للناس بل هي توظيف مثمر للموارد يؤتي ثماره مضاعفة ويؤدي,إن أحسن استخدامه,إلى عائدات اقتصادية تفوق العائدات الاقتصادية للمشروعات الصناعية والزراعية وسواها, وهي ذات اثر طويل الأمد.وقد أكدت دراسات دنيون الأمريكي وريداوي البريطاني وستروملين الروسي, أن الزيادة في الإنتاج لا تعود فقط لزيادة رأس المال واليد العاملة, بل يرجع إلى عوامل التقدم التقني وما وراءه من إعداد وتدريب وتعليم للموارد البشرية.
وعلى أساس هذه النظرة المتقدمة للتربية يجري رصد المزيد من الأموال لهذا القطاع في دول العالم المتمدن لأغراض تطويره والنهوض به لتحقيق اكبر قدر ممكن من الكفاءة الداخلية والخارجية له. وبالضد من ذلك فأن الإهدار التعليمي في هذا القطاع المتمثل في ابرز مشكلاته كالتسرب والرسوب,يعتبر من المشكلات المعرقلة لكفاءة النظام التربوي وتبديدا للجهود المبذولة لتطويره التي تعوق تحقيق أهدافه وتسبب في ضياع الجهد والوقت والمال, وينعكس أثره السلبي على الفرد والمجتمع وعلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
مفهوم التسرب ودلالته:
تتعدى الآثار الكارثية للتسرب والرسوب إلى جميع نواحي المجتمع فهي تزيد معدلات الأمية والجهل والبطالة وتضعف البنية الاقتصادية للمجتمع والفرد وتزيد الأتكالية وطول أمد الإعالة الأسرية والاعتماد على الغير, كما تفرز في المجتمع ظواهر خطيرة كعمالة الأطفال واستغلالهم وظاهرة الزواج المبكر, كما يؤدي إلى زيادة حجم المشكلات الاجتماعية كانحراف الإحداث وانتشار السرقات والاعتداء على ممتلكات الآخرين مما يؤدي إلى ضعف المجتمع وانتشار الفساد فيه إلى جانب فساد الكبار, وما تسببه أيضا هذه المشكلة من أثار سلبية في نفسية التلميذ وتعطل مشاركته الفعالة والمنتجة في المجتمع.
أن التركيز على التسرب في التعليم الابتدائي لا يعني بكل الأحوال إهمال ما يتم تسربه في مراحل التعليم الأخرى( متوسط, ثانوي وجامعة ) بل هي أكثر بكثير سواء من حيث الإعداد المطلقة الخاصة بالتسرب أو من حيث نسب الاستيعاب التي تقابل الفئة العمرية في هذه المراحل( وخاصة في ظروف العراق الخاصة جدا), إلا أن هناك ما يبرر التركيز على التسرب في التعليم الابتدائي لاعتبارات نفسية وتربوية وإنسانية.فالطفولة الأولى تؤسس لشخصية الإنسان وتبقى حاضرة بقوة في مراحل تطورها لاحقا مهما اختلفت وتنوعت المتغيرات التي تحيط بها والظروف التي تمر بها,وهي مرآة الفرد في الصحة والمرض. وأن مطلب ” الطفولة السعيدة ” بالإضافة إلى كونه مطلبا لذاته,إلا انه يسهم في تشكيل مراهقة مقبولة, ويساعد في اختيار نمط دراسي أو عمل يعكس فعلا إمكانيات الفرد الذاتية, بل ويسهم في إرساء ملامح شيخوخة تتمتع بقدر من الهدوء المطلوب والموازنة مع ما تبقى من ديناميات وقدرات وقابليات. والأهم من ذلك تربويا فأن تأمين التعليم الأساسي لهذه المرحلة العمرية المهمة يعتبر جهد الحد الأدنى من ” الأمن التربوي ” لتزويد الطفل بالمهارات الأساسية اللازمة في القراءة والكتابة والعادات الأساسية اللازمة لتكيفه ضمن هذه المرحلة من التعليم ومنع تسربه وردته وانضمامه إلى جيش الأميين ,وبالتالي يشكل تعميم التعليم وألزاميته والقضاء على التسرب احد العوامل الأساسية لتجفيف منابع الأمية.
ومشكلة التسرب في العراق إلى جانب مشكلات أخرى في قطاع التربية والتعليم, منها ما يتعلق في مشكلات المناهج والإدارة التربوية وطرق التدريس وإعداد الكادر التدريسي ومشكلات التخطيط التربوي لهذا القطاع ومستويات استجابته لحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومشكلات توزيع الخدمات التربوية جغرافيا وعلى ضوء الحاجة الماسة لمختلف مناطق وأقاليم البلاد,وجميع هذه المشكلات ذات طبيعة متشابهة في البلاد العربية يطلق عليها اصطلاحا ” أزمة التربية العربية “, إلا إن العراق في العقود الأخيرة وبسبب تعرضه لعوامل الحروب والحصار والانهيار الاقتصادي والاحتلال وتدمير مؤسسات الدولة وبنيتها التحتية والسياسات الطائفية,انفرد بأزمة خانقة وحادة تنفرد بخصوصية عالية عن نظيرتها في الدول العربية ونستطيع أن نطلق عليها ” أزمة التربية العراقية “,سواء من حيث خصوصية الأسباب أو الإبعاد المدمرة لها.
ففي الوقت الذي حقق فيه العراق تقدما ملموسا في عقد السبعينيات على مستوى استيعاب الأطفال, فحسب تقرير اليونسكو أمتلك العراق قبل حرب الخليج الأولى نظام تعليمي من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة قدرت نسبة المسجلين فيه بالتعليم الابتدائي ما يقارب 100% مقارنة بأعداد الأطفال في سن التعليم الابتدائي,وحسب تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1973 فأن معدل التسرب في التعليم الابتدائي قد هبط في العراق إلى ما يقارب 5% بين الصف الأول والخامس الابتدائي, وكان هذا أوطأ معدلات تسرب في الدول النامية.ثم نال العراق في نهاية السبعينيات جائزة اليونسكو على حملة محو الأمية.وقد ساهمت في ذلك الطفرة المالية المتحققة من العوائد النفطية والتي وسعت من حجم الإنفاق على التعليم,وكذلك الدور الكبير والمتميز الذي لعبته الحركة الوطنية وفي مقدمتها قوى اليسار في التعبئة لنشر التعليم والثقافة في صفوف أبناء المجتمع وتعزيز الدور التعبوي عبر نشاطها وصحافتها العلنية, وخاصة في ميدان محو الأمية,ونقل تجارب الشعوب العالمية عبر صحافتها اليومية وخلق المزاج العام المواتي لتنفيذ ذلك. إلا إن الحروب الكارثية التي أقدم عليها النظام العراقي آنذاك وما سببته من استنزاف للموارد المالية والبشرية قد الحق أفدح الإضرار بقطاع التربية والتعليم,ويكفي إن نشير هنا إلى إن نسبة القادرين على القراءة والكتابة في البلاد عام 2003: الذكور 55%, الإناث 23%. وبلغت خسائر هذا القطاع أكثر من أربع مليارات دولار شملت كل عناصر وأبعاد العملية التربوية ومستلزماتها ومؤسساتها ومراحلها المختلفة.
أن التسرب يمثل مظهرا من مظاهر الهدر التعليمي أو الفاقد في التعليم, إلى جانب مشكلة الرسوب المتكرر,ويعتبر نتيجة لضعف نتاج العملية التربوية وينشأ عن مشكلات تربوية واجتماعية تؤدي إلى عجز النظام التعليمي في الاحتفاظ بالملتحقين به كافة لإتمام دراستهم في مرحلة دراسية ما ( وخاصة في التعليم الابتدائي ).وان التسرب باعتباره انقطاع التلميذ عن المدرسة انقطاعا نهائيا قبل أن يتم المرحلة الإلزامية,فأن سقف التعليم الإلزامي يختلف من دولة إلى أخرى,فمنها من يدين بالإلزام لمدة 9 سنوات دراسية,وبعض أخر يكتفي بإلزامية تعليم أمدها 6 سنوات ( مدرسة ابتدائية ) كما هو الحال في العراق وفقا لقانون التعليم الإلزامي رقم 118 لسنة 1976,والذي يشمل الفئة العمرية من( 6ـ11) سنة,والذي لا يزال ساري المفعول إلى اليوم,علما أن إمكانيات العراق المادية والمالية تكفي لمد سقف الإلزام حتى إلى مرحلة التعليم الثانوي كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة والمتمكنة.مع العلم أن الدستور الحالي جاء ليكرس ما ورد في القانون المذكور أعلاه,حيث ينص على أن :” التعليم عامل أساسي لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة, وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية,وتكفل الدولة مكافحة الأمية.والتعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله”.
أسباب التسرب:
أن العوامل التي تؤدي إلى التسرب من التعليم الابتدائي في العراق هي ذات خصوصية عالية ارتباطا بظروف العراق الشاذة والاستثنائية, وهنا يمكن فرزها بمنظومة الأسباب الآتية :
1 ـ الأسباب الاجتماعية والثقافية, وتشمل :
ـ تصدع وانهيار التركيبة الاجتماعية والقيمية وتعرض الأسر العراقية إلى انهيارات كبرى تجسدت في : ازدياد نسب الأطفال اليتامى وفقدان الرعاية الأبوية,انتشار ظاهرة التسول والتشرد في الشوارع والطرقات,ازدياد نسب الأطفال الذين يتعاطون المخدرات والمسكرات,محنة الأطفال غير الشرعيين أو مجهولين النسب ,الأطفال المهجرين قسرا من ديارهم ومناطق طفولتهم إلى مناطق أخرى داخل العراق وإشكالية التكيف للبيئة الجديدة, تعرض الأطفال إلى عمليات الخطف والابتزاز واستخدامهم كرهائن مقابل مبالغ مالية أو صفقات أخرى لتصفية حسابات شخصية وسياسية, عمليات التحرش الجنسي والاغتصاب والمتاجرة بالأطفال, الأطفال مرتكبي الجنح والجرائم المختلفة, ازدياد نسب الأطفال ذوي الإعاقات المختلفة العقلية والجسمية وانعدام الرعاية التربوية الخاصة بهم, وجميع هذه الظواهر هي من الإشكاليات المستفحلة وتشكل عوامل طرد وليست جذب للمدرسة وما يترتب على ذلك من انقطاع وعدم مواظبة أو تسرب نهائي من المدرسة.
ـ تدهور المكانة الاجتماعية للتعليم لدى الأسر أو الوالدين بشكل خاص, واعتباره ليست بتلك الدرجة من الأهمية, وهذا أيضا ناتج من ضغوطات الواقع,وإعادة ترتيب سلم الأوليات,كأن يعتبر الحفاظ على الأرواح أو الشرف أهم بكثير من التعليم ,وبالتالي احد عوامل الانقطاع عنه وعدم الاستمرار فيه والتسرب منه, إلى جانب طبعا عدم توفر الوعي الثقافي اللازم لدى الكثير من الأسر بعدم إدراكهم لمدى الضرر لاحقا من جراء انقطاع أطفالهم عن المدرسة.
ـ تدهور الأوضاع الصحية وانتشار الأمراض المختلفة كأمراض الجهاز التنفسي وأمراض الكلى المزمنة والكبد والسرطان والايدز وحالات ضعف السمع والبصر والتشوهات الخلقية, وجميعها عوامل تدفع نحو الانقطاع المدرسي كخطوة نحو التسرب منه نهائيا.
2 ـ الأسباب الاقتصادية:
وتتلخص أبرز ملامح تأثيرات الوضع الاقتصادي في ظاهرة التسرب فيما يأتي:
ـ انشغال الأسرة بتغطية متطلبات الحياة الاقتصادية والمعيشية الأساسية, يدفع الكثير منها إلى الاستعانة بأطفالها وزجها في سوق العمالة واستخدامها كدخل إضافي,ونحن نعرف جيدا ضيق فسحة العيش في العراق,حيث تشير الإحصائيات إلى أن 40% من الشعب العراقي يعيش تحت مستوى الفقر( حسب إحصائية وزارة حقوق الإنسان العراقية ), وأكثر من مليون أسرة تعيش على معونات شبكة الحماية الاجتماعية. وهذا بدوره يشكل عوامل ضغط على الأطفال لترك الدراسة.
ــ ضعف الغطاء الاقتصادي المتمثل بالمدعومات المالية المناسبة والتسهيلات كأجور نقل أو تقديم وجبات طعام أساسية للطلبة الفقراء أو تقديم القرطاسية المدرسية مجانا أو ملابس وتجهيزات مختلفة, مما يسبب إثقال كاهل اسر التلاميذ وخاصة الفقيرة, مما يضطرها إلى سحب أولادها من المدارس.
ـ ضعف مخصصات قطاع التربية والتعليم من الميزانية العامة,مما يؤدي بدوره إلى ضعف الإنفاق على التعليم الابتدائي لتوفير مستلزماته من كوادر تعليمية وأبنية صالحة وكتب منهجية وقرطاسيه ولوازم مدرسية ولتغطية مختلف نشاطات هذا القطاع, إلى جانب ضياع وإهدار وسرقة أموال هذا القطاع, والتي لا تخضع للتدقيق والمراقبة الكافية,أسوة بغيره من قطاعات الدولة.
3ـ الأسباب التربوية:
ويمكن بلورة أبرز الاتجاهات التربوية التي تدفع باتجاه تسرب التلاميذ وتركهم المدرسة على النحو التالي:
ـ عدم ارتباط المناهج بحاجات المجتمع وعدم تلبيته لميول الأطفال وهواياتهم وكذلك ضعف كفاءة المعلم من حيث الإعداد والتدريب وضعف كفاءة الإدارة التعليمية, وقصور الإشراف والتوجيه, والاعتماد على أساليب التقويم القائمة على الامتحانات التقليدية وقصور الإمكانات التربوية من مبان وتجهيزات وفرص النشاط المختلفة.
ـ عدم احترام شخصية التلميذ وميوله واهتماماته المختلفة وضعف التوجه لدراسة الفروق الفردية بين التلاميذ وتكييف المنهج وطرق التدريس لها, وعدم استغلال أوجه النشاط المدرسي الصفي واللاصفي في جذب التلاميذ إلى المدرسة.
ـ الرسوب المتكرر وعدم متابعته من قبل إدارة المدرسة أو ذوي التلاميذ مما يضعف ثقة التلميذ ويفقده المتعة من وجوده في المدرسة ويثبط حافزه على متابعة الدراسة.
ـ انعدام أو ضعف العمل المشترك بين المدرسة وأهل التلميذ مما يضيع الفرصة للوقوف على المشكلات التي يعاني منها التلاميذ يوميا, وبالتالي لا يترك مجالا لحلها في الوقت المناسب,وأن تراكمها لاحقا يشكل حجر عثرة أمام استمرار التلميذ في المدرسة.
ـ عدم اعتماد الخرائط التربوية في توزيع الخدمات التعليمية جغرافيا ونشر المدارس الابتدائية على مقربة من السكن الأصلي,الأمر الذي يعتبر من المعوقات الأساسية في سهولة انتقال التلاميذ من والى المدرسة, مما يزيد من أعباء الطالب النفسية وتشديد مخاوفه من الإرهاب وإعمال القتل والاختطاف,ويشكل عبئا أخر يزيد من هموم وتفكير الأسرة وقلقهم على سلامة أطفالهم,مما يسهم في إحجام الولدين عن إرسال أولادهم إلى المدرسة.
ـ قصر اليوم المدرسي واعتماد الدوام الثنائي المزدوج أو الثلاثي مما يضعف الارتباط بين الطالب والمدرسة ويقلل من فرص ممارسة التلميذ للأنشطة الصفية والللاصفية لتلبية رغباته واحتياجاته للنمو المتعدد الجوانب, و بالتالي تصبح المدرسة مكانا للإقامة الجبرية أو ثكنة عسكرية يشعر فيها الطفل فيها بالجزع أكثر من الانشراح والموائمة, ويتحين الفرص للهروب منها.
ـ وهناك من الأسباب التربوية ذات الصلة بالنواحي الوجدانية بالتكيف النفسي للتلميذ, كما تتصل باتجاهاته وسلوكياته, وهناك عوامل تتعلق بجوانب شخصية التلميذ,واستعداداته ومهاراته, وقدراته النفسية والعقلية , وقد أثبتت الكثير من الدراسات وجود ارتباط واضح بين بعض السمات الشخصية للتلميذ وتسربه من التعليم.
4 ـ الأسباب السياسية:
ـ أن مصير العملية التربوية كم هو معروف يرتبط وثيقا بالاستقرار السياسي الذي يبعث الأمل في مؤسسات الدولة وقيامها بأنشطتها على أسس موضوعية وحيادية, ومنها قطاع التربية والتعليم,فالنظام السياسي يلعب دورا مهما في إعادة توليد القيم الأخلاقية والاتجاهات الاجتماعية العامة, والنظام التربوي هو احد أدواته لتكريس هذه القيم ونشرها على نطاق واسع عبر الممارسات اليومية, من خلال المناهج والأنشطة المدرسية, وتشكل في هذا السياق ظاهرة التعصب الديني والطائفي والقومي احد القيم الأخلاقية والتربوية الضاغطة على وحدة نظام التعليم ونسيجه الاجتماعي, ويشكل هنا التسرب من التعليم والابتعاد عنه احد وسائل احتماء الأقليات في حالات الاحتقان الشديد وسببا في انقطاع الكثير من أبناء الأقليات والطوائف عن التعليم والعزوف عنه.
ـ تعرض النظام التربوي جراء سياسات النظام السابق الهوجاء وما تلتها من سياسات عشوائية على أيدي الاحتلال وما تبعتها من تكريس للمحاصصة الطائفية, إلى انهيارات كبرى في مراحله المختلفة,فقد تم تدمير اغلب المؤسسات التربوية من أبنية ومستلزمات وأجهزة, وقد تحول الكثير من المدارس إلى مجرد أربعة جدران وأماكن شكلية لإقامة التلاميذ,لا تشد الطالب إلى المجيء والمواظبة,بل إلى طرده من المدرسة, ناهيك عن اقتسام المدارس إلى مناطق نفوذ طائفي أو حزبي,فهي تعتبر في أذهان الكثير أماكن غير آمنه.
ـ أن تشديد قبضة الإرهاب والعمليات الانتحارية أطالت ألاف من الأطفال, وكانت أوقات الدوام الرسمي” بدايته ونهايته” فرصا مواتية لإيقاع الأذى وزرع الخوف لدى الأطفال وأسرهم,مما أدى إلى عزوف التلاميذ عن الدوام وعدم انتظامهم ثم تسربهم.
علاج التسرب:
أن الحد من التسرب والاقتراب من نهايته يستند إلى منظومة متكاملة من الإجراءات,وتشكل النوايا الحسنة والقناعة بالنظام الديمقراطي و قيمه الإنسانية مدخلا لازما لذلك ومظلة تحمي آلية التنفيذ, ولعل ابرز العلاجات الناجحة هي ما يأتي:
ـ الاهتمام بالمرافق والخدمات التعليمية مما يجعلها جذابة وشيقة ومرتبطة بواقع التلاميذ,وتحسين المعاملات والممارسات المتبعة في الاتصال التعليمي وبنائها على مبادئ التربية الحديثة القائمة على أساس أن التلميذ مركز اهتمام العملية التربوية, واستغلال خاصية يتمتع بها الأطفال عامة وهي الفضول والذهن المتفتح لاكتساب ومعرفة كل شيء.
ـ منع تشغيل الأطفال منعا باتا وعبر إجراءات صارمة لعل أبرزها تفعيل العمل بقانون التعليم الإلزامي وتطبيق العقوبات الواردة فيه على أولياء الأمور,ويجب أن يقترن هذا الإجراء بدعم اقتصادي للأسر المعوزة وتحمل المدرسة الإنفاق التربوي على التلاميذ من مستلزمات وملابس وتغذية.
ـ توفير خدمات التوجيه والإرشاد النفسي والتربوي والاجتماعي للتلاميذ وأسرهم والتأكيد من قبل إدارات المدارس على ضرورة وجود المرشد الاجتماعي في المدارس لما يقدمه من مساعدة للإدارة التعليمية وللأهل في المشكلات المختلفة ومنها التسرب,وأن تكون هناك حصص أسبوعية أو شهرية من قبل هذا المرشد للأهل وللتلميذ لمناقشة عوامل التسرب وإمكانية الحد منها, والتأسيس الجيد لمجالس أولياء الأمور في المدارس.
ـ التأهيل المستمر للكادر التربوي وإعادة تأهيله على ضوء ما يستجد من معطيات في العلوم التربوية والنفسية, والتخلص من العناصر ألمزوره, أو التي لا تحمل مؤهلا تربويا وذات أداء ضعيف, والتي تكون معظم الأحيان سببا في التسرب لا في منعه.
ـ العمل على وضع خطط ملموسة لنشر شبكات رياض الأطفال في أرجاء العراق وخاصة في القرى والأرياف, والتي لا تزال ضعيفة جدا,حيث لا تستوعب في أحسن الأحوال 7% من مجموع الأطفال في عمر 4 إلى 5 سنوات في عموم العراق,لما لها من أهمية استثنائية في خلق الاستعداد الايجابي للأطفال اتجاه المدرسة الابتدائية لاحقا والإقبال عليها والاستمرار فيها.
ـ وضع الخطط والمناهج التي تعتمد على المواهب والطموحات والقابليات لدى الأطفال والابتعاد عن مناهج الحشو والمليئة بالمعلومات ذات الطابع الكمي والتي تكره في نفس الطالب المدرسة والمادة الدراسية, ومحاولة ربط المنهج بالبيئة المحيطة عبر تطبيقات للمنهج في مختلف مجالات المجتمع المحلي.
ـ منح فرص إضافية للمتسربين سواء عبر مدارس مسائية أو نهارية أو مدارس متنقلة وخاصة في المناطق النائية والقرى والأرياف, أو مناطق التهجير والإقامة الجديدة للأطفال, وهي وسائل تعين الأطفال على عدم العودة إلى الأمية كاملة.
ـ استخدام الإعلام والصحافة اليومية الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الاجتماعية المختلفة للتثقيف والتوعية بدور التعليم وخاصة الموجه منها إلى ذوي الأطفال والتركيز على ضرورة عودة أطفالهم إلى مقاعد الدراسة.
ـ الاستقرار السياسي والأمني وهو المطلب رقم واحد لاستقرار العملية التربوية وما يؤدي إليه من انخفاض نسبة العنف وتعزيز ثقة الأسر والأطفال بالنظام السياسي والتربوي, ويضمن يوم مدرسي هادئ خالي من القتل والاختطاف والارتهان.
ـ إنشاء دور لليتامى لإيوائهم وتأمين حياة آمنه لهم يتمتعون فيها بقدر من الرعاية الاجتماعية والاقتصادية وإنشاء مدارس خاصة لهم لتسهيل اندماجهم لاحقا في المدارس المنتشرة على مقربة من إقامتهم,كي يتسنى لهم التحصيل الدراسي في المرحلة الابتدائية على الأقل وحمايتهم من التسرب.
ـ إنشاء مدارس لمختلف المعوقين وتصنيفهم وفقا لدرجة وطبيعة إعاقتهم,كما هو معمول فيه دول العالم المتحضر,وإتاحة الفرصة لهم للحصول على قدر من التعليم والتربية والتي تنسجم مع قدراتهم العقلية والجسدية,ومنع تحولهم إلى أميين بالمطلق.
ومن هنا نرى ان المعالجات الشاملة لمشكلة التسرب بكل ابعادها وفي اطار اصلاح النظام السياسي هو الكفيل بايجاد الحلول الواقعية والمدروسة والبعيدة عن الارتجال وفي ضوء فلسفة تربوية واضحة تستمد اسسها من مختلف المعارف والعلوم للنهوض بقطاع التربية والتعليم. وان علاج مشكلة التسرب هو جزء من البحث عن حلول لأزمة التربية والتعليم في العراق !!!.