العراق ما قبل عام 2020 وملامح ما بعده – د.عامر صالح
من مؤشرات التخلف ان العديد من حكومات البلدان لا تحترم الزمن واستحقاقاته في عمليات التغير الايجابية الى الامام وما تفرضه من ضرورة التخطيط للحاضر ورسم ملامح المستقبل, مما تقع تلك المجتمعات أسيرة لاستحضار الماضي, او مايسمى نفسيا بالنكوص الى مرحلة تاريخية سابقة, حتى بات لديها استحضار الماضي سلوك يومي بسبب من قتامة الحاضر وغياب المستقبل, فلا استغرب مثلا ان ترد على صفحات التواصل الاجتماعي يوميا وبشكل مكثف صور واحاديث وتصريحات عن بلدان عربية وقادة قدامى من العشرينات او الخمسينات والستينيات من القرن الماضي وحتى قبل ألف عام, حيث ثقافة الأغراق” في نقل عن فلان أبن فلان ” ليتم مقارنتها بكوارث الحاضر وأهواله, ومن حق من لايرى حاضرا ومستقبلا آمنا أن يكون ماضويا بأمتياز.
نستطيع القول هنا ان حقبة ما بعد سقوط الدكتاتورية في عام 2003 والى ما قبل نهاية عام 2019 هي حقبة ذات مواصفات سيكوسياسية راكدة من حيث مظهرها العام ولكنها ذات تفاعلات داخلية كامنة تجسد في ابعادها حراك شعبي متواصل اختلفت حدته ومظاهر التعبير عنه استنادا الى قواه المحركة والأجندة التي تكمن ورائه, وبالتالي والى ما قبل الأول من اكتوبر لم يكتسب الحراك الأجتماعي شعبيته الواسعة كما هو الحال ما بعد الاول من اكتوبر بسبب من تأثره ببعض الأجندة الحزبية الضيقة والتي يعكسها الصراع على الحصول على مكاسب سلطوية ضيقة ومصلحية, وبالتالي كان الحراك ما قبل الاول من اكتوبر متأثرا بأجندة الصراع السياسي داخل قبة البرلمان العراقي, ولكن بالتأكيد ان حراك اليوم استمد جذور نهضته واستمراريته من التفاعلات السابقة لمجمل الحراك الاجتماعي الذي وقع قبل هذا التاريخ, ولا يمكن لنا ان نرى حراك اليوم مقطوع الصلة بما سبقه, فذلك مجافي لسنة الصراع وتراكمه الكمي على طريق أغنائه نوعيا بعوامل البقاء والديمومة لتحقيق المطالب المشروعة لشعبنا.
أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات خلال ستة عشر عاما وما رافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام” الديمقراطي” إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه,باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن,وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها,متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية,ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى ” بالفجوات النفسية المدمرة “,حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن,وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط ,وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية,وعلى عدم استقراره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.
أن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى به طوال الستة عشر عاما المنصرمة,وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي ,إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي ,أي إعادة إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية ,وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت,وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية,بل لعلها أهم منجزات الحداثة,وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي,ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات ,وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية,وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.
وكانت احتجاجات الاول من اكتوبر 2019 والتي لا تزال مستمرة الى يومنا هذا هي بمثابة ردة الفعل الطبيعية لتراكم الاوضاع السيئة التي يعيشها المواطن العراقي خلال اكثر من عقد ونصف من الزمن والتي جسدها نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لم تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل أسست إلى ” إفساد للتنمية “, وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع. أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.
أن منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان تعرض جزء من مأساة الشعب العراقي خلال عقد ونصف من الزمن, والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية, وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم” تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام “. مليونا أرملة” اعمارهن ما بين 15 و25 عاما”. ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة” تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار “.بلغت نسبة البطالة 31%” الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى”. 35% من العراقيين تحت خط الفقر” اقل من خمسة دولارات”. 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة” بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط”. 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء, أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية. تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة, و800 طينية, والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2014 بلغت ألف مليار دولار, لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية, بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام.
وقد جسدت احتجاجات اكتوبر العراقية عمق أزمة النظام السياسي الذي لا يقوى على الخروج من مستنقعه الطائفي والاثني المقيت, بل انه يقاوم الأحتجاجات عبر آلية القمع المتخلف والهستيري في الأبادة الجسدية للمحتجين, والتي تجسدت في قتل اكثر من 500 شهيدا واكثر من 20 ألف جريح, من بينهم 700 حالة أعاقة تامة, الى جانب الأغتيالات الفردية في القنص والكواتم والتغييب والاختطافات للعشرات من الناشطين المدنيين.
سيطل العام 2020 وفي رحمه انتفاضة اكتوبر للعام الماضي, وسيحمل العام الجديد المزيد من القوى الشعبية التي ترفد الانتفاضة بشباب أكثر عزما وأصرارا لأنتزاع حقوقهم من السلطة الأثنوطائفية, في قانون انتخاب عادل وقانون احزاب واضح ومفوضية انتخابات نزيهة, وسلطة انتقالية تمهد لأنتخابات مبكرة يحسم فيها الشعب خياره صوب بدائل الديمقراطية الحق, بعيدا عن التزوير وحرق صناديق الانتخابات. بالتأكيد لن يكون ذلك سهلا إلا عبر تنظيم صفوف الانتفاضة وأعلان قيادتها كي يطمئن شعبنا عليها وعلى التعامل معها بأعتبارها البديل الميداني المرتقب, وان الجماهير المحتجة في ساحات النضال وفي ساحة التحرير اولا معنية بتشخيص حلفائها الثابتين, من قوى اليسار والتيار المدني عموما, والأشارة الى اعدائها بوضوح من القوى الأقليمية والرجعيات العربية, فأن صمام الأمان في السير قدما نحو تحقيق الأهداف هو في القدرة الميدانية على تأمين الحلفاء الأستراتيجين وأبعاد الأعداء من راكبي موجة الأحتجاجات. كل عام والعراق بأفضل من سابقه والى المزيد من تحقيق مصالح شعبنا في الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.