العروبة … أو “البدون” ! – عبد اللطيف مهنا
قبل ما جرى في بروكسل وباريس وبعده، وما سبقه من مثله في غيرهما، علينا، ومع ادانته، قولها، وبالفم الملآن، لا، والف لا، لامن علاقة، ولا ثمة من وشيجة، لقيمنا ووجداننا، وانسانيتنا وطبائعا، ومواريثنا وتواريخنا، وأخيراً مصالحنا، بمثل طارىء هذا التوحُّش العبثي المريع والمريب. هذا الملصق بنا، والذي تصيبنا دواهيه، ويشوِّه طهر قضايانا العادلة، وعقابيله البادية الآن في حاضرنا ستظل على موعد مع مستقبلنا…وكله، قبل، وأكثر، وأفدح، مما اصاب أو سيصيب طائش رذاذه المدان غيرنا…
لا، وما دخلنا نحن، وهم اللذين عولموا القهر وعمموا الكراهية، وجرمَّوا مقاومة عدوانيتهم، ومنعوا تعريف الارهاب، فتعولم الغضب واستولدوا منه التوحُّش، فاكتووا مع المكتوين، ونحن قبل الجميع، بما صنعته ايديهم…حُجتنا، أنه، أولاً، وثانياً، وأخيراً، مامن مبرر له، ولا من حصاد، إلا اذانا، وما يوفُّره من ذخيرة لبيادر غيرنا، لهذا الكاره تاريخياً لنا، المتربص دهوراً بتوقنا، والحائل ما استطاع قروناً دون انعتاقنا…هو له اليوم درقة يخفي بها خبثاً، وذريعة يؤنسن بها فجوراً ويستر بها بغياً…وهل ماهو افضل مما استولدوه حداءً لراهن بيارق فزعتهم العالمية التي مكَّنتهم من سوق عالم بكامله يلهث من خلفهم…عالم مثقل باختلافاته ومختلف اجنداته وتناقضاتها، إلى حيث بلادنا المستباحة النازفة، وباسم ماذا؟ محاربة توحُشنا!!!
ما ذنبنا نحن، وهو بعض مزج من قهر تعتَّق بجهل بائس مقيم، اضاع البوصلة، فما كان من بعده إلا ما يراد له، وهو العماء، ومهاوي التطييف والتفتيت ورزايا الفتن…خليط زعاف اعتصرته من اوجاعنا المزمنة اصابع غريبة على معانينا وليست من ايدينا وإن شبَّه بها. اعتصرته اصابع لايضيرها أن تتسلى بدمنا، وأن تسقينا علقمية لحظتنا، وأن تكبِّدنا فداحة ما تتيحه عبثيتها المجنونة من فرص لكل الطامعين، وهم كثر، وكل الساعين، وهم بدأوا، لتمزيق عرانا واذلال اجنَّتنا وتدجين آجالنا، وكل بلايا راهن جلجلتنا التي نساق إلى دروب آلامها وشراك هاوياتها.
انما نحن ازاء وبال غشى تليد تسامحنا الذي لطالما فاخرنا به الأمم، ودنَّس نقي انسنتنا ونصوع توجهاتها، ومهَّد الدروب لمزوري التواريخ للعبث برسالية تواريخنا، وموالاة السطو المتذرِّع بغموض هذا التوحُّش على جغرافيتنا…حربهم على هويتنا، ووجداننا، وحقيقتنا، وحقائقنا، والخيِّر الثر من مواريثنا، والعريق من تليد حضارتنا، وكله، باسم الحرب على الارهاب…باسمه جاءوا ليحتفلوا بمرور قرن على مكيدة سايكس بيكو. جاءوا وبمجيئهم في بلادنا الآن تدور رحى حرب كونية ثالثة بامتياز، لانسمع إلا قرع طبولها، ولا نرى سوى اشباح الراقصين على مزاميرها…لم تعد الأقوام تتناهش اطراف جسد أمتنا فحسب، بل باتت تعبث بأحشائها، وتستبيح اكبادها وتزري باقداسها…جسدها المثخن الذي تتكسر فيه النصال على النصال ومعها نصالنا، ويريدونه اليوم سايكوسبيكوات كثيرة تتجزأ وتتناسل وتتكاثر…وكله لمصلحة اسرائيلهم، لتكبيرها، وتثبيتها، ومركزتها بين حطاماتنا…
وإذ هذا هو الحال، ففي بلادنا اليوم يصدق المثل الشعبي “غاب القط العب يافار”. غيَّبوا ركائز نهوض الأمة وعمائد الذود التاريخية الثلاث عن حياضها. مصر اسيرة كامبديفيدها، والعراق النازف المُدمَّر، وسورية الذبيحة، وسحبوا فلسطين، القضية المركزية، الجامعة المانعة، والبوصلة الهادية الفاصلة بين الصديق والعدو، فاصبح الاستقواء بأعداء الأمة حصافة، والتقاطع، إن لم يك التحالف، معهم بعد نظر، والتخلي عن السيادات استقراراً…وبلا هاته الثلاث اللائي قد غيِّبن، مع السليبة التي قد نحيت جانباً، تطرح علينا موضوعية واقعنا تساؤلها، ومن هم العرب؟! من ذا الذي سيواجه عدواً، أو يحول دون اندلاع فتنة، أو يدرأ طارىء توحُّش، أو يفرِّق بين الارهاب والمقاومة؟!
…بلاهن، ثلاثتهن، مصر، والعراق، وسورية، ورابعتهن فلسطين، العروبة تغدو تهمةً، والمقاومة ارهاباً، والمبادىء هرطقةً، والتضحيات عبثاً، والأحلام مروقاً، وثوابت الأمة ومسلَّماتها لغةً خشبيةً…تغدو الفتن والتطييف والفرقة واختلاق الهويات البائدة بديلاً ومساراً ومآلاً…وما يختلقوهن سيبتن هن الأصليات، أما نحن فاغراب وافدون، أو غازون مستوطنون، أو من “البدون”!
لكنما، ونحن لا نبرىء نفسنا من مسؤولية ما نحن فيه، هناك ما لا بد لنا من قوله، وهو، لا، ليس كل شيىء في راهن هذه الأمة العريقة البادىء تاريخها مع بدايات التاريخ هو مسوَّد مدلهم. لسنا هنوداً حمراً، إنما هى مخاضات قيامتنا المؤلمة والعسيرة، مخاضاتنا التي لابد وأن يتبدى قبيل انبلاج وعود ما بعدها ويسبقه كل متعتق عورات زمننا الرديء. زمننا الذي من جحوره يخرجون علينا في راهننا ما اختبأ في عتمتها من فتن، وفي عتمته الغاشية يستخرجون لنا من كهوف التاريخ موميات الهويات الآفلة لتجوس على راحتها في مرحلة وبيل فتن…فتن زوابعها هى الأنسب لبعث رميم ما يستخرجونه في راهن مقيت هو الأبعد عنا وعن معاني الحياة.
…كما ولا، ليس كل شيء في راهن مثل هذه الأمة منحدر بائس ومعتم مدلهم…فهى أمة إذ القيامات من ديدنها، فعروبتها عماد قامتها وفيها وحدها خلاصها وقيامتها، والعروبة هنا ليست يوما وماكانت ولن تكون ايدولوجيا، ولا هى بدعوة تبشيرية تستحضر فتعمم أو تترك فتنبذ، وانما هى جيواستراتيجيا…حقيقتنا التي لاتطفئها افواه الفتن العابرة ولوثات التوحُّش المدان، بل هى متعدد حقائق تاريخ ومواريثه، ومن لزوميات جغرافيا وقدرها. هوية، وعصرنة، وعروة وثقى، وضرورة مصير، وواجب وجود. بلاها لايعني سوى اندثار أمة بكاملها، بمختلف تلاوينها وغني متعددها، أو كل ماعنته معانيها الثقافية والحضارية…بلا العروبة لامن بديل سوى التشرذم والتفتت والتمزُّق والتشتت والتوحُّش والتبعية والتسوُّل وحتى الانقراض…هى ملجئنا الأوحد ونحن لسنا بدونها إلا “البدون”!