«العقلاء» والمجزرة في غزّة – منير شفيق
الثلاثاء 27 شباط 2024
لنصطلح على استخدام وصف العقلاء، للذين استعدّوا للتخلي عن ميثاقَي منظمة التحرير الفلسطينية (1964-1968)، والدخول في مسيرة التسوية والبحث عن السلام، أو عن حلّ واقعي للصراع الفلسطيني-الصهيوني، ولنقل ابتداءً من قرار «إعلان الاستقلال» وإعلان الدولة الوطنية الفلسطينية ضمن حدود الرابع من حزيران 1967 واستناداً إلى الاعتراف بقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن لعام 1967. بدأت العقلنة (انسياقاً مع وصف «العقلاء»)، منذ صدور القرار بتبنّي برنامج النقاط العشر، واعتبار م.ت.ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني (قمة الرباط 1974). وكان ذلك كما يقول المثل «أول الرقص حنجلة».دخلت عبارات «العقلاء»، و«العقلنة»، و«الواقعية»، و«الحلّ الممكن»، في الساحة الفلسطينية مع عام 1971، أي بعد «أيلول الأسود» في عام 1970، والخروج من الأردن في منتصف 1971. وكانت هذه العبارات خارج قاموس الحركة الوطنية الفلسطينية من عام 1949 إلى 1971/1972. وكان السبب وراء هذا التغيير (دخول هذه العبارات في القاموس الفلسطيني) يرجع إلى الخروج من الأردن، وبدء تطوّر العلاقات بالاتحاد السوفياتي، الذي اعتُبر من قِبَل كثيرين أنه القوّة العالمية الجبارة ضد المعسكر الإمبريالي الذي تمثّله أميركا. وقد اشتهر أن الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي ليونيد بريجنيف، قال للشهيد ياسر عرفات، في لقائه به بعد الخروج من الأردن: «لا تنسَ يا رفيق أن خروجكم من الأردن كان بقرار دولي» (نقلاً عن ياسر عرفات، والتأكيد على ذلك من قيادة «فتح»، ولا سيما عضو اللجنة المركزية الشهيد ماجد أبو شرار، في ما بعد).
فُسّرت جملة بريجنيف بأن الخروج من الأردن لم يكن قراراً أميركياً فحسب وإنما سوفياتياً أيضاً. الأمر الذي يوجب أن يترتب عليه التحالف مع الاتحاد السوفياتي من أجل إنقاذ الحركة الوطنية الفلسطينية من الاستضعاف الأميركي لها. ولكن المشكلة لم تكن في مبدأ التحالف، وإنما في شرطه السوفياتي، كان التخلي عن مبدأ تحرير كل فلسطين، وبقبول حلّ دولة في حدود 1967، واعتماد القرار 242. من هنا انتقل الموقف الخاص بقبول القرار 242، والتنازل عن تحرير كل فلسطين، من تهمة الخيانة والعمالة لأميركا، إلى اعتبار القبول بالشرط السوفياتي يدخل في العقلنة والواقعية وسياسة الممكن. فضلاً عمّا يمثّله التحالف مع الاتحاد السوفياتي من «ثورية وتقدّمية»، و«الخلاص» من التفكير العدمي (غير الواقعي وغير الممكن)؛ قصة الصراع بين من يتمسكون بمبادئ الميثاقين ومنطلقات فصائلهم من جهة، ومن انتقلوا إلى سقف القرار 242 (قرارات الجزائر والمجلس الوطني 1988)، أي إلى طريق التسوية، وحصر الهدف ببرنامج مرحلي (تحوّل إلى نهائي) مع اتفاق أوسلو (نهاية طريق العقلنة والعقلاء). وهنا حُسم الصراع داخل فتح، وفي م.ت.ف.
طبعاً كانت الثلاثون عاماً، ما بعد حسم الصراع في اتفاق أوسلو، صعوداً لتيار جديد مثّلته «حماس» و«الجهاد». وقد رفض اتفاقية أوسلو، وما حملته من تنازلات، بما فيها التخلي عن المقاومة المسلحة. وبهذا ساد الساحة هدف، مرة أخرى، تحرير كل فلسطين، واعتماد المقاومة المسلحة الاستراتيجية التي تحقق الهدف. وقد وصل هذا التيار إلى قمّته في عملية «طوفان الأقصى»، وما بعدها من حرب إبادة، ومقاومة للحرب البرّية. وتشكّل تضامن عالمي لم يسبق له مثيل، مع القضية الفلسطينية، إلى حدّ التوافق في بعض الحالات مع: «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر».
لقد حوّلت قيادة الكيان الصهيوني، والقيادة الأميركية والأوروبية، كل ما سبق من حروب ومواجهات بعد النكبة عام 1949 إلى حرب وجود آني للكيان الصهيوني بعد «طوفان الأقصى»، كأنه يقيم دولته من جديد، بل إن نتنياهو اعتبر الحرب التي يشنها «حرب الاستقلال الثانية»، ويقصد بالثانية: الموازية لحرب 1948/1949. كان من الممكن لعملية «طوفان الأقصى» أن تأخذ، حتى على ضوء أهمية ما أنجزته واستثنائيتها، رداً أقل حدّة من الرد الجنوني المبالغ به حتى الحدود القصوى، وذلك من جانب قادة الكيان الصهيوني وأميركا والغرب. فإن ردّ فعلهم بشن حرب إبادة متواصلة، يوماً بعد يوم، وساعة بساعة، وعلى مدى اقترب من الأشهر الخمسة، ضد المدنيين والمعمار (مئة ألف شهيد وجريح ومفقود تحت البيوت التي هُدمت، وحوالى 80% من الدور والأحياء والمؤسسات والمستشفيات)، جاء يتّسم بالجنون وفقدان الصواب وروح الانتقام اللامحدود. إن هذا الرد الذي اتسّم بالإبادة البشرية، والتدمير شبه الشامل، وبالرغم من الفشل، والخسائر الفادحة للجيش الصهيوني في الحرب البرّية والمواجهات العسكرية، لا تفسير له من زاوية موازين القوى، ومدى الخطر الذي أحدثته عملية «طوفان الأقصى». لقد تصرّف قادة الكيان وأميركا والغرب، كأنّ هجوماً عسكرياً حاسماً، بمئات الألوف أو مليون من المقاتلين، راح يكتسح الكيان الصهيوني من النهر إلى البحر. وتصرفوا كأن الكيان الصهيوني فقد كل جيشه، بأسلحته الجوية والبرية والبحرية، ولم يعد له إمكان للبقاء، أو إعادة الدولة، إلا بإبادة غزة كاملة، ويليها الضفة الغربية، وتغيير خريطتهما الجغرافية والديموغرافية تغييراً أساسياً.
لا تفسير لهذا الجنون وفقدان الصواب من خلال موازين القوى، أو من خلال حجمه، وإنما من خلال أثر نفسي مليء بالغرور والتعالي. ولم يحتمل أن يتلقّى ضربة قاسية بحجم عملية «طوفان الأقصى» من الشعب الفلسطيني، أو في الحقيقة من بعضه، فجاء الرد بكل هذا الجنون وفقدان الصواب من الرجل الأبيض الغربي (اليهود الخزر لا علاقة لهم بالشرق -راجع عبد الوهاب المسيري) موجّهاً درساً ليس للفلسطينيين فحسب، وإنما أيضاً للعرب والمسلمين، وشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بمعنى: محظور عليكم أن تتجرأوا على شنّ عملية بحجم «طوفان الأقصى» ضد «الرجل الأبيض».
لكن متى كان الجنون وفقدان الصواب – عدا الفشل – وهما يواجهان موازين قوى عالمية وإقليمية وإسلامية، وعربية، وعالم ثالثية غير مؤاتية، مع ملايين من أصحاب الضمائر في الغرب، في حرب تتحداهم فيها قضية عادلة بقيادة مقاومة وشعب استثنائيين، كما في غزة.
على أن هذه الحرب، وبالرغم من أن نتيجتها ستكون انتصاراً للمقاومة والشعب وقيادتهما في غزة، بإذن الله، إلّا أنها حملت معها جراحاً عميقة تنزف مع دماء الشهداء من شيوخ ورجال ونساء وأطفال، من المدنيين الآمنين، بسبب حرب الإبادة التي لم يعهد الصراع الفلسطيني أو العربي، مثيلاً لها في فلسطين. وهنا سيخيب ظنّ عقلاء ما بعد «طوفان الأقصى» وتداعياته، إذا ما حاولوا تكرار تجربة عقلاء الماضي، ما قبل اتفاق أوسلو. فقد عاد عقلاء جدد يبحثون في مقترحات قديمة جديدة، أخذت تطرحها أميركا لإعداد البيت الفلسطيني، لمشروع تعايشي تسووي، مع مرتكبي جرائم الإبادة والحرب من قادة الكيان الصهيوني، وأميركا وأوروبا، تحت عنوان حلّ الدولتين أو غيره.
واجه عقلاء ما بعد 1988 الأمرّين وهم يحاولون إقناع أنفسهم، والفلسطينيين والشعوب العربية والإسلامية، بالقبول بالتخلي عن مبادئ ميثاقَي م.ت.ف 1964-1968 (وكل منطلقات الفصائل عندما تأسّست). وكان هذا يحتاج إلى شرب كأس المرارة، حتى يقبلوا بمبدأ التفاوض حول حلّ الدولتين، والتخلي عن المقاومة، وصولاً إلى اتفاق أوسلو. أمّا عقلاء مرحلة ما بعد عملية «طوفان الأقصى»، فسيواجهون أكثر من عذاب التخلي عن الثوابت والمبادئ، كما حدث مع العقلاء السابقين. لأنهم سيواجهون عذاباً أخلاقياً ونفسياً أشدّ وأمرّ. وهو كيف سيصافحون الأيدي الصهيونية، والأميركية والأوروبية، المسؤولة عن كل ما شاهدوه وعاشوه، في حرب الإبادة التي تعرّض لها شعبهم المدني في قطاع غزة طوال خمسة أشهر، فضلاً عن الاعتراف له بحق إقامة دولته على 80% من فلسطين، وتخطي نكبة 1948.
هنا ثمة بحر من دماء الشهداء والجرحى ودماء الأطفال أمامهم. وسيكون مطلوباً منهم نسيانها، ومصافحة مرتكبيها المجرمين، وهم من أولياء الدم. طبعاً هذا الذي يبدو صعباً جداً، بل يجب أن يكون أصعب من تجرّع السم، لكن سيجد من سيبرّر له عقله، إذا ما دخل في هذا المخاض، أن ينسى ويتجاهل. والدليل أن هنالك عقلاء منذ الآن، وقبل أن تضع الحرب أوزارها، أخذوا يتمايلون مع الأنغام الباهتة. ويقول المثل «أول الرقص حنجلة». يعني ستخوض العقلنة الجديدة تجربتها (بالعقلنة والواقعية والممكن)، ولكن مع عدو أسوأ كثيراً من عدو 1948، الذي لم يصل إلى ارتكاب جرائم إبادة علناً، وبهذا الحجم، وهذا الحقد، وهذا الجنون. ولكن الملايين باتوا بلا نوم، وهم يشهدون ذبح الأطفال، بأهون من ذبح الخراف. هذا فضلاً عما ينتظر أيّ تسوية من فشل كذلك.
بكلمة: إن مأساة العقلنة، أو «العقلاء»، ليست بالفشل فحسب، وإنما أيضاً بالتنازل عن ثوابت، والاعتراف الاضطراري، في هذا المسار، بدولة الكيان الصهيوني، وبـ«حقها» في مصادرة 80% من أرض فلسطين، وإنقاذها من الوجود بالقوّة، لكن بلا شرعية. وهي الشرعية التي لا تُعطاها من هيئة الأمم المتحدة، أو من أيّ دولة في العالم، لأن القانون الدولي يعتبر أن الحق الحصري في تقرير المصير لفلسطين هو للشعب الذي كان في فلسطين عام 1917. وهو عام الاحتلال الاستعماري البريطاني لفلسطين (القانون الدولي المتعلق بالاستعمار والمستعمرات). فلا شرعية إلّا من خلال الشعب الفلسطيني وحده. وما عداه فباطل في موضوع الشرعية. ولهذا، فإنها لَجريمة إذا أقدم عليها أي فرد أو منظمة أو مؤتمر ينتسب إلى فلسطين.
* كاتب وسياسي فلسطيني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين الإنسان والوحوش البشرية- منير شفيق
مجزرة رهيبة طويلة الأمد ارتكبها، ويرتكبها، الكيان الصهيوني ضد المدنيين العزّل من سلاح يواجه الطائرات في قطاع غزة. وحدث ذلك، ويحدث، على مشهد من العالم كله، لا سيما على مرأى من قادة الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية، ومن بينهم من شارك وأيّد، ولم يزل. هنا ما كان للمرء، قبلها، أن يتصوّر، أن ثمة وحوشًا بشرية يمكن أن تصل إلى التأييد لها، أو السكوت عنها إلى هذا الحد، فيما بمقدورها أن توقفه في أولى خطواته.
طبعًا يعرف كل من قرأ في السياسة، أو في التاريخ الحديث، بأن قادة الغرب والرأسماليين العالميين الغربيين، في كل عهودهم، منذ بدايات القرن السادس عشر، مارسوا النهب والقتل واستعباد الأفارقة، واستعمار الشعوب، واستغلال العمّال، وأدخلوا العالم في حربين عالميتين، أزهقتا أرواح عشرات الملايين من البشر. على أن ثمة خصوصية لمشهد مجزرة المدنيين، طويلة الأمد، وإلى ما بعد 130 يومًا، وعلى مدار الساعة، وقادة العالم الغربي يشهدون بأم العين، ويرون القتل بدم بارد، لأكثر من مئة ألف من الشهداء والجرحى، وأغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وقد تناثرت الجثث والأشلاء في الشوارع، وتعالت صرخات الأطفال ألمًا من الجراح النازفة، وهم في أيدي آبائهم أو أمهاتهم. وهنا لم يعد بمقدور المرء إلّا أن يعجب من وجود هذا القدر من الوحوش البشرية، تشترك مع ما يجري، ولا توقف الحرب.
لو عدنا إلى تشكّل الجماعات الإنسانية منذ مطلع التاريخ الحضاري الإنساني، لوجدنا البشر انقسموا إلى خيرين وبسطاء ومستضعفين، وإلى أقوياء أشرار (بالمعنى العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي). وتنوعت طبقات وفئات الخيرين، ودعاة العدل، ومقاومي الشر. وتنوعت طبقات وفئات الأشرار على مختلف المستويات والدرجات. فالبشر لا يكونون واحدًا إلّا في لحظة الولادة، من حيث وجود القوى الكامنة في الإنسان، والتي يمكن أن تنقسم إلى غرائز هي منبع أو سند كل سلبية أو شر، وإلى فطرة مقابلة يكمن فيها الميل للتعاون والإخاء والوحدة والخير والإيمان، والضمائر الحيّة. هذا وكل من الغرائز، وكل فطرة، معرّض للكبت أو للاعتدال أو للأقصى. وينمو الطفل الاجتماعي متدرجًا، من صغير يحبو إلى مراهق، ثم إلى شاب أو شابة، أو إلى رجل أو إمرأة. ففي هذه المسيرة يتشكّل التنوّع الفردي، وكل وعائلته ومجتمعه، إلى ما لا يحدّ أو يحصى من تعدّد قوميات وعقائد ومجتمعات ومناخات وقارات وظروف. ومن ثم لا يعود الناس واحدًا، فتتعدّد أشكال الشر وأشكال الخير من أدنى إلى أعلى، وصولًا إلى ما وصلته الحروب العالمية الأولى والثانية في المنتصف الأول من القرن العشرين. ثم كانت المجزرة الرهيبة المتواصلة على مدار الساعة، وطويلة الأمد، في قطاع غزة.
هنا، في الحرب على غزة، شهد العالم وعرف وحوشًا بشرية، لا مثيل لها في القتل الجماعي، والعقوبات الجماعية، قصفًا بالطائرات والذخائر الأمريكية. بل هنا عرف العالم، وشهد نمطًا، من الوحوش البشرية، وهم يرتكبون تلك المجزرة، وآخرين يغضون النظر عن ارتكابها، كأن ما تراه العين، وتسمعه الأذن، مجرد أضغاث أحلام. راح العالم كله يشهد ضحايا من أناس عاديين: بيوتًا مدمّرة فوق رؤوسهم، وأشلاء متناثرة يمنع قصف الطائرات من دفنها. ورأى مساجد وكنائس ومدارس تسوّى مع الأرض، ومستشفيات تقتحم ليقتل جرحاها وينكل بطواقمها الطبية، وتُفرغ من أدوات الجراحة أو العمليات، أو بقايا دواء. إنه نمط من الضحايا البسطاء الطيبين الخيرين في هذا العالم.
هذا المشهد، أيضًا، يؤكد كم في هذا العالم من تعدّد واختلاف حتى الانقسام إلى أعداد متعددة من بشر، بعيدًا عما يقال أن الناس واحد، ولا فرق بين واحد وآخر. هذه المساواة قد تجدها لدى فيلسوف هندي حالم، مثلًا، لا يرى إلّا ما يرى في داخله، ولا علاقة له بالظالمين والمظلومين على حد سواء. وبكلمة، رؤية فلسفية لا علاقة لها بالسنن والعالم الخارجي.
البشر متعدّد حتى أنك لا تجد بصمة إبهام مثل أخرى، منذ تاريخ الخلق إلى اليوم. وفي العلم الحديث لا تجد بصمة عين، أو بصمة صوت مثل أخرى، في الحالتين.
أمّا في العمل الإنساني، أو الممارسة الفردية، فلا يمكن أن يوجد بينها تساوٍ، فالفارق فالق وحارق. فالخير خير والشر شر، وإذا تداخلا في واحد من البشر، فلا بدّ من رؤية الازدواجية. ولا بدّ من التفريق بينهما، وفرزهما عند التعامل السليم. ومن ثم إعطاء كل جانب حجمه من “خير” ومن “شر”، قد يوجدا في إنسان واحد.
إن الخير والشر هنا لا يقتصران على التعريف الأخلاقي، أو الديني، أو ما اتفق عليه العرف العام، وإنما يمتدان إلى عالم الممارسة العسكرية والسياسية والمالية والاجتماعية والاقتصادية. ولعل عالمنا المعاصر أشدّ حاجة إلى عدم المساواة بين الأعمال، أو اعتبارها مثل بعضها بعضًا. فاختلاف الأعمال تُقرأ بوجود حقيقة موضوعية، مستقلة عن كل شخص، وكيف يراها ويؤولها، أمّا إذا رآها كما هي، فيلتقي الذاتي والموضوعي.
حقاً إن التفريق بين خير وشر، أو التمييز في داخل ما هو خير، وما هو شر، ليس مقتصرًا على البُعد الأخلاقي فحسب، وإنما هو حاجة أشدّ من الناحية السياسية والاجتماعية والممارسة الإنسانية بعامّة.
هذا التفريق، في بعده السياسي والاجتماعي والفلسفي، ليس إقحامًا لبُعد هو من اختصاص عالم الأخلاق والدين، أو تطفلًا عليهما، أو اعتداءً على الأهمية الأخلاقية من حيث أتى أصلًا. على أن أهميته في الأبعاد السياسية والاجتماعية والفلسفية، وحتى العسكرية، لها تأثير، ينبع من أثره السلبي والإيجابي في الشأن العام. وذلك أكان على مستوى الحياة المعيشة، أم على مستوى الخير العام والرفاه العام، أو الخراب العام، كما على مستوى حياة البشر وتدميرها.
إن الذين يساوون بين الأعمال، لا يعود يهمهم، إن اعوَجّ المرء، أو استقام. إن خدم الطغاة أو ظلم. لكن بني البشر يحتاجون لأن يفرقوا بين القاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، أو بين عدالة حروب التحرّر الوطني، ولا عدالة حروب الغزو والاستعمار. فشتان بين الحرب العادلة، والحرب غير العادلة. وشتان بين أن تكون مع فلسطين، أو تكون مع الكيان الصهيوني. وشتان بين أن تكون مع غزة ومقاومتها وشعبها، أو تكون مع مرتكبي جريمة إبادة المدنيين، وتدمير العمران. فلا تكون ممن يغطون فعلهم هذا، بأي سبب من الأسباب خارجة عن طبيعة الفعل نفسه.