العودة للمفاوضات لماذا؟- منير شفيق
كانت المفاوضات التي بذلها كل من أوباما -كيري ومحمود عباس- صائب عريقات قصارى جهودهم لإنجاحها قد وصلت إلى طريق مسدود. وذلك بالرغم مما قدّمه الطرف الفلسطيني من تنازلات كانت مقنعة جدا لكيري. ولكنها لم تكن كافية، كالعادة، للمفاوض الصهيوني – نتنياهو.
وهذ ما جعل أوباما وكيري يخرجان منها غاضبين على نتنياهو، إلى حد نفضا اليد من الاستمرار بها. وابتلعا جرعة فشل هدّت من عزيمتيهما، وأودت بهما إلى اليأس.
ولكن في الأسبوع الفائت تحرّك صائب عريقات إلى واشنطن، وهو يحمل معه مشروعا جديدا للعودة إلى المفاوضات بمبادرة من محمود عباس. وقد التقطت الإدارة الأميركية هذه السانحة الجديدة (تنازل جديد) من الطرف الفلسطيني للخروج من مأزق الطريق المسدود الذي انتهت إليه المفاوضات السابقة.
على أن المأزق الذي تريد أمريكا الخروج منه ليس طي صفحة المفاوضات فحسب، وإنما أيضاً، وهذا هو الأهم، الخروج من مأزق تفاقم الوضع في القدس وحول المسجد الأقصى، إلى جانب مضي حكومة نتنياهو بتصعيد الاستيطان في الضفة الغربية، والتصميم على فرض تقسيم الصلاة في المسجد الأقصى.
هذا المأزق القديم – الجديد راح يُنذر بردود فعل مقدسية توشك بالتحوّل إلى انتفاضة تفقد قوات الأمن الصهيونية القدرة على قمعها، الأمر الذي سيجّر معه بالضرورة اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية، ومن ثم انـهيار أجهزة الأمن الفلسطينية أمامها، وهي الأجهزة التي أرادها الاتفاق الأمني أن تكون متصهينة تقمع المقاومة، وتقف سداً منيعاً في وجه انتفاضة الشعب ضد الاحتلال، والاستيطان وتهويد القدس، والسيطرة على المسجد الأقصى، وتقسيم الصلاة فيه (كخطوة باتجاه بناء الهيكل المزعوم مكانه).
وقد أثبتت الوقائع أن محمود عباس الذي رهن استراتيجيته على المفاوضات، كما تعهد بقمع المقاومة المسلحة، والحيلولة دون اندلاع انتفاضة، يشعر الآن بأنه يتجه نحو مأزق خانق، وهو يرى انتفاضة القدس تتعاظم، وهو يعرف ما تفعله الأجهزة الأمنية لمنع تفجر انتفاضة في الضفة الغربية، هذا ناهيك عما تفعله يداه في استمرار الحصار غلى قطاع غزة، واستهداف أسلحة المقاومة وأنفاقها، بل وجودها من حيث أتى، ومن ثم ما يلمسه من تحفز للمقاومة في غزة للرد على الاقتراب من سلاحها، أو بسبب ما يتعرض له المسجد الأقصى، أو لنصرة انتفاضة المقدسيين الأبطال (القدس وما حولها مقدسيون بل كل فلسطيني مقدسي حين تتعرض القدس للمصادرة والتهويد أو حين يُهدَّد المسجد الأقصى بالتقسيم أو بالهدم).
من هنا ندرك لماذا تحرّك محمود عباس لإطلاق مبادرة جديدة للمفاوضات، ولماذا قوبلت المبادرة بالإيجابية من قِبَل إدارة أوباما؟ بل أُعلِن أن وزارة الخارجية الأميركية منكبة على صوْغ مبادرة إحياء للعملية السياسية.
وبهذا تكون الأحداث تسير في فلسطين ضمن خطين متعاكسين: الأول يتجه في قطاع غزة إلى إحكام الحصار، والتحكم بكل قبضة إسمنت تصله، من حيث التأكد من عدم وصول جزء منها إلى أيدي بناة الأنفاق التي أسهمت في صنع الانتصار العسكري الذي حققته المقاومة والصمود الشعبي، وفي إنزال الهزيمة بعدوان الواحد والخمسين يوماً، صائفة عام 2014، وذلك فضلاً عن ضرب عزلة خانقة على القطاع من خلال خطة المنطقة العازلة التي ستسّوي رفح المصرية مع الأرض.
هذا الخط الأول يتجلى أيضاً، وقبل ذلك، بإحكام السيطرة الصهيونية على المسجد الأقصى، والتمهيد لاقتسام الصلاة فيه بين اليهود والمسلمين، كما سبق وحدث في المسجد الإبراهيمي في الخليل، وذلك إلى جانب التوسّع في الاستيطان، ومصادرة البيوت في القدس وضواحيها، وفي تهجير المقدسيين منها، وكذلك الحال بالنسبة إلى التوسّع الاستيطاني في الضفة الغربية.
أما الخط الثاني المعاكس فيتجلى في تمسّك المقاومة بسلاحها، وبالاتفاق الأولي الذي أوقف إطلاق النار على أساس تحقيق الأهداف التي حدّدتها المقاومة، وتبناها الوفد المشترك بالكامل، وقد أخذ الراعي المصري يماطل في تنفيذه، ويتوسّع في المنطقة العازلة بين قطاع غزة والوجود السكني المصري.
على أن البعد الآخر في هذا الخط والمتعلق بالقدس والمسجد الأقصى قد اتجه إلى مواجهات يومية بين المقدسيين وقوات الاحتلال الصهيوني، وصلت إلى اندلاع انتفاضة حقيقية، سواء في باحات المسجد الأقصى وحوله، أم في الأحياء والقرى المحيطة بالقدس، كحي الثوري وسلوان وأبوديس والعيزارية والطور وشعفاط. فالقدس أصبحت كرة نار في مواجهة خطر التهويد واقتسام الصلاة في المسجد الأقصى، الأمر الذي راح بدوره يحرّك الشارع في الضفة الغربية عبر حراكات أخذت الأجهزة الأمنية تتصدّى لها تصدياً يشكّل فضيحة لسلطة رام الله ما بعدها من فضيحة، فقوات سعد حداد في جنوبي لبنان لم تصل إلى هذا المستوى في حماية قوات الاحتلال، وفي التصدي لمقاومة الشعب لها، ولكن هذا مهَّدد بالانهيار أمام تطورات الأحداث في القدس وأمام ردود فعل جماهير الفلسطينيين ضدّه في الضفة مسنوداً بحراكات شعبية في مناطق الـ 48.
من هنا تجددت المساعي الأمريكية – الفلسطينية لإنقاذ الوضع من توسّع انتفاضة القدس وانتقالها إلى الضفة، ولئلا يفيض الكيل مع المقاومة في قطاع غزة.
فالمفاوضات، كعادتها دائماً، هي التي تستطيع أن تشكل غطاء للاستيطان ومصادرة البيوت والتوسّع في تهويد القدس والاعتداء على المسجد الأقصى. فالتاريخ الواقعي شاهدٌ على ذلك.
والمفاوضات هي التي تربط فتح وبعض الفصائل بها، وتساعد على قمع كل مقاومة أو حراك تحت حجة انتظار نتائجها.
الأمر الذي يوجب أن تواجَه مساعي تجديد المفاوضات أو التسوية بالشجب والاستنكار، وبما يشبه الإجماع الفلسطيني، لا سيما من جانب الفصائل التي سبق وسكتت عنها حتى بالرغم من عدم قناعتها بها.
والأمر الذي يوجب إبقاء التصعيد على طريق الانتفاضة في القدس ودعمها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفلسطين الـ 48 وفي كل مناطق اللجوء.
بل إن الخطر على سلاح المقاومة في قطاع غزة، وعلى المسجد الأقصى، والقدس، والخطر من تجدّد المساعي نحو التسوية يفرضان تحركات سياسية وإعلامية وشعبية واسعة عربياً وإسلامياً ورأياً عاماً عالمياً.