الفسيسي – قصة صغيرة : رشاد أبوشاور
دخلنا تحت أشجار الكرم بحذر خشية أن يخرج لنا أولاد الخضر ويهجمون علينا بالحجارة. تنقلنا تحت الأشجار التي تتدلّى بين أغصانها فاكهة السفرجل الخضراء التي لم تنضج بعد.
أنا تحسست حبة وتخيلتها صفراء ناضجة سأعضها وأنتزع منها ما أسطيع قضمه، وأتلذذ بها رغم يباسها.
نهرني حسن، وهو أكبر واحد فينا نحن الخمسة الذين نلتقي غالبا معا، ونفتش تحت أغضان الأشجار، والدوالي الممددة على التراب، عن ثمار ناضجة نلتهمها ونسد بها جوعنا، ثم نلوذ هاربين إلى مخيم الدهيشة حيث نقيم مع أهلنا تحت خيامه الممتدة حتى الكوع الذي نرى فوقه بيوت بيت لحم البيضاء.
-إيّاك أن تقطفها فهي عجراء…
هو يتكلم بالنحوي لأنه في الصف الخامس، بينما أنا وأصحابي الصف الثالث.
-أنا أتحسسها…
وأضفت وأنا أتحسسها في راحتي:
-أحب لونها الأخضر!
فتحت راحتي..وحاولت ضم حبّة السفرجل، لكنها أكبر من راحتي .
سمعت صوتا نحيلاً لعصفور أحاول أن أراه بين الأغصان، ولكنه عندما أقترب يفّر دون أن أراه و..يتناهى صوته من واحدة من الأشجار التي تتشابك أغصانها، فأنحني وأمشي على رؤوس أصابعي حتى لا أصدر صوتا آملاً أن أراه.
وإذ أبلغ جهة الصوت، وأنا أرسل نظراتي بين الأوراق، فإنني اصمع صوتا رقيقا: فرررر…
أقف وأتنهد وأرهف سمعي علّي أحدد المكان الذي يختفي فيه العصفور بصوته النحيل الحاد: سسسيق..سس.سيق..إسسسس…
إنه يسخر مني، يضحك علي، يلعب بي..وأنا لا أريد سوى أن أراه.
ربما يكون خائفا، مع إنني لا أحمل نُقيفة لأنقفه بحصاة كما يفعل الأولاد.
ابتعدت عنهم قليلاًن وهم يواصلون اصطياد بعض العصافير بنقيفاتهم، وهم يشيرون لبعضهم واضعين أصابعهم على أفواههم محذرين من ارتفاع أصواتهم حتى لا تهج العصافير.
سمعت صوت سقوط حصاة قربي فالتفت فإذا بحسن يشير لي أن أرجع، وهو يشير باتجاه قرية الخضر. هززت رأسي وكأنني أطمئنه بأنني منتبه و..لن ابتعد عنهم، فارتفع صوت العصفور وكأنه يستدرجني لألحق به..ففعلت.
مضيت محني الجسد، وأحيانا كان رأسي يرتطم بحبات السفرجل، وبالأغصان المنخفضة فيرتفع صوت: فرررررر…
لم أدر كم مضى من الوقت، ولم أنتبه لاختفاء زملائي، وإذ استدرت وأرسلت نظري تحت الأشجار خلفي لم أر أحدا، ووجدتني قرب الصخور التي تحاذي بوابة الخضر!
ما هذا؟
رأيت الأولاد، وسمعت صيحة أرعبتني: امسكوه…
اندفعوا وأحاطوا بي، فثبت في مكاني.
-ها..جئت تسرق من كرومنا..أنت متعوّد على السرقة؟
سألت كبيرهم، وهو أطولهم، وأملاهم جسدا، ويبدو أنه قائدهم:
-أترى معي شيئا؟ (كنت قد أسقطت حبة السفرجل عندما شعرت بابتعادي عن أصحابي).
صفن، ثم نطق:
-لا، ولكن..ماذا كنت تفعل، وكيف وصلت إلى مدخل بلدتنا؟
فجأة انبثقت من رأسي حكاية:
-كنت أبحث عن أخي الصغير. هو يحب العصافير، ودائما يركض وراءها ليتفرّج عليها. هو لا يصطادها، ولا..يؤذيها، و..هو اختفى منذ الصباح. أهلي ذهبوا للبحث عنه جهة بيت لحم بين الصخور. وأنا..لحقت بالعصافير..وهناك عصفور صغير لم أره يصدر سقسقة نحيلة..ويفّر، ويختفي بين الأوراق…
قال الكبير:
-هذا ..الفسيسي..يعني الصغير، وهو تقريبا لا يُرى، وهو يضحك على من يحاول اصطياده..ثم هو لا يكفي للقمة واحدة..ولذا لا نصطاده.
-ولكن أخي الصغير لا يعرف شيئا فهو يحب العصافير..ويركض خلفها.إنه يلعب معها..ويفرح بها.
حتى أخفي خوفي:
-سأسميه الفسيسي عندما نجده…
سألني الكبير:
-كم عمره؟
-أربعة أعوام..بّس!
-فعلاً فسيسي…
تأملت بوابة الخضر، وسيدنا الخضر محفور على البوابة وهو على جواده يغرس رمحه في فم الوحش…
-هذي أول مرة تشوف سيدنا الخضر:
-لا..أحضرني أبي معه لزيارة صاحبه في الخضر، وفرّجني على البوابة …
لم أسرع وأنا أستدير وابتعد عنهم متجها إلى مخيم الدهيشة حتى لا يظهر علي الخوف.
سمعت صوتا عاليا من ورائي:
-يا ولد شو اسماااااك؟
– استدرت وأنا أمشي متهيئا للهرب بسرعة
– الفسيسي…
وطرت عن وجه الأرض…