الفقه الإسلامي ونصرة المستضعفين – منير شفيق
برزت في العصر الحديث مجموعة من القضايا واجهت الفقه الإسلامي في أثناء التطبيق العملي في السياسات، وفي إدارة الصراع، وفي اتخاذ المواقف المستندة إلى الإسلام كمرجعية منهجية وفكرية، منها نصرة الأقليات المسلمة في الدول الأخرى.
كان الفقه الإسلامي قد تأسس في معظمه في المراحل التي أصبحت فيها دول الإسلام في مواقع التفوّق في موازين القوى، إلى جانب ما تأسس في المرحلة الأولى السابقة لفتح مكة. ولكن الفقه الإسلامي المعاصر، ولا سيما في القرون الثلاثة الماضية؛ وقل أساساً منذ نهاية الحرب العالمية الأولى مع سقوط الدولة العثمانية، راح يواجه قضايا وتحديات في ظروف أصبحت فيها الدول الإسلامية مقسمة ويزيد عددها عن الخمسين، وأصبحت موازين القوى في غير مصلحة المسلمين، دولاً وجماعات وأفراداً. وقد مالت أحوالهم إلى الاستضعاف.
على أن الفقه المعاصر في منهجه ومنطلقاته وأحكامه ظل مشدوداً إلى الفقه الإسلامي في مرحلة صعوده الأولى، ومرحلة تمكينه وسيادته العالمية اللاحقة.
فالحصيلة الفقهية التي يتعلمها دارس الفقه آتية كلها من المراحل السابقة لمرحلة الشتات والاستضعاف اللذين أصابا العالم الإسلامي، أو قل لمرحلة موازين القوى الدولية والإقليمية غير المواتية. فإن كثيراً من الأحكام لا سيما في السياسة والقضايا الراهنة طبقت على الوضع الراهن لتنتهي بنتائج سلبية أو فشل أو كوارث.
إن واحدة من تلك القضايا كانت المتعلقة بنصرة من يطلبون النصرة من المستضعفين. مثلاً الأقليات الإسلامية أو بعض الشعوب الإسلامية في دول كبرى، إذ تثور ضد دولها وتطلب الانفصال والاستقلال. هنا ذهب الفقه المعاصر إلى الفتيا بناء على المرحلة الأولى من الفقه الإسلامي حيث تتوجب النصرة ومعاداة الدولة التي طُلبت النصرة ضدها. والأمثلة هنا كثيرة، تبدأ من كشمير والهند، لتمر بالشيشان وروسيا، والإيغور في الصين، لتصل إلى الفلبين وعدد من حالات صغيرة أخرى.
هنا توجب على الحركات الإسلامية أن تعلن مناصرتها لحركات الانفصال والدخول في صراع سياسي حاد مع كلٍ من الهند وروسيا والصين وعدد من الدول الأخرى الأقل “أهمية” من الناحية الاستراتيجية.
فقد عومل مبدأ النصرة هنا كما عامل الفقه موقف المعتصم عندما سمع صرخة وامعتصماه، أو كما كان يُتعامل معه في زمن الفتوحات الإسلامية.
ولكن إذا أُخِذ الوضع العالمي الراهن من حيث موازين قواه ودوله الكبرى، وأُخِذ وضع المسلمين والدول الإسلامية، واستراتيجية مواجهة التحديات والنهضة المطلوبة، فهل يمكن أن يكون من الصحيح تطبيق مبدأ النصرة وفقاً للفقه الذي تأسس في مراحل القوة والتمكين والوحدة؛ أي أثناء مراحل السيادة العالمية للمسلمين أو مشاركتهم فيها؟ أو ستؤدي سياسات النصرة إلى عزلة دولية خطيرة: كما في الهند وروسيا والصين، مثلاً، فضلاً عن دول عدة بما فيها تحرك أقليات إسلامية في دول كبرى أخرى.
ثم أفلم تدل تجربة كشمير، مثلاً، على كوارث حلت بمسلمي كشمير وبمسلمي الهند (ربما يصل عددهم إلى 300 مليون)، وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً. كما دلت التجربة على ما حدث للشيشان من كارثة، وعلى مسلمي الاتحاد الروسي عموماً. وهو ما يتعرض له الإيغور اليوم في الصين.
إن ظاهرة قيام الدول في كل العالم حملت معها ظاهرة استعداد الدولة -أية دولة كانت- لأن تخوض أشرس الحروب الأهلية منعاً لانفصال أي جزء من ترابها الوطني. وهذا ينطبق أيضاً على كل الدول الإسلامية بلا استثناء. الأمر الذي يعني أن الذهاب إلى الانفصال يعني الذهاب إلى الفشل والكارثة. والذهاب الإسلامي إلى نصرة الانفصال يعني الذهاب إلى الفشل والعزلة الدولية، وإلى خلل في استراتيجية النهوض الإسلامي للعالم الإسلامي المشكل من دول إسلامية مستقلة.
وبالمناسبة إن انفصال بنغلادش عن باكستان زاد بلاء الشتات الإسلامي ولم يجلب لنا دولة “ناجحة” لها مقوّمات الدولة بل هي دولة ذاهبة إلى التبعية وزيادة الشتات والضعف الإسلامي.
رها الأساس كان سياسة بريطانية التي تمثلت بانفصال باكستان عن الهند، وزرع بذور قضية كشمير وجامو. فكيف لو بقي مسلمو الهند قبل عام 1945ضمن الهند والشعب الهندي أو الشعوب الهندية، أما كان المسلمون اليوم نصف الهند وكانت الهند “نصف مسلمة” بالمعنى المجازي أو العملي؟.
فلا طالبو النصرة ينبغي لهم أن يُحرجوا الأمة بدعم مطالب فاشلة وكارثية عليهم وعلى غيرهم، ولا الاستجابة لنصرتهم تحمل مصلحة في معاداة الكثير من دول العالم ومنها دول كبرى، ومن ثم إضعاف النهوض الإسلامي العام بدلاً من تركيزه على قضاياه الأساسية، ورسمه لاستراتيجية صحيحة مناسبة للوضع العالمي الراهن، ومسهلة لنهضته وخروجه مما حلّ به من ضعف وتدهور خلال القرون الثلاثة الماضية.
إن التخلي عن سياسة الانفصال والاستقلال وبناء دول أو دويلات هي السياسة الصحيحة للشعوب الإسلامية المشارِكة لشعوب أخرى في أوطانها، كما يجب تعزيزها بالوصول إلى عقود وتفاهمات، مع الشعوب الأخرى دون سقوف الانفصال والعداوات الداخلية، التي سيكونون هم والإسلام من خلفهم أول من يخسر فيها وفي معاركها التي تخاض من أجلها.
وفي هذا الصدد الأخير فإن جبهة تحرير مورو أحسنت بوقفها العمل المسلح، وفي التراجع عن سياسة الانفصال والدخول في مصالحة على أساس إعطاء المسلمين حكماً ذاتياً في الفلبين (بانجسامورو)، بما قد يتيح للمسلمين أن يلعبوا دوراً هاماً في إنهاض الفلبين.
وبعد، فإن أهم ما يمكن الاعتبار به من قواعد الفقه في مرحلتيه الأولى والثانية، المشار إليهما، يتمثل في جعل النتائج معياراً في الحكم على صحة السياسات كما في إدارة الصراعات ومواجهة التحديات. وذلك حين يطبق ما حدث من إجماع أو شبه إجماع من قِبل الفقهاء في تطبيق الأمر الإلهي حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذلك من خلال الامتناع عن ممارسة الأمر بالمعروف إن كان سينجم عنه منكر أكبر، والامتناع عن النهي عن منكر إن نشأ عنه منكرٌ أشد منه.
فها هنا ربط تنفيذ الأمر الإلهي في “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” على ضوء النتائج المترتبة عنه، فكيف لا يطبق المبدأ نفسه، في السياسة وإدارة الصراعات، ومواجهة التحديات والقضايا المختلفة. وذلك بالاحتكام إلى النتائج المترتبة على كل سياسة أو إدارة للصراع، أو مواجهة التحديات والقضايا.
وبهذا يمتنع تغطية الأخطاء والخطايا الفردية إلى كوارث من خلال الاختباء وراء الحق والعدالة. فإنك لا تنصر الحق والعدالة إذا ذهبت بهما إلى الفشل والكوارث أو الخسائر البشرية والمادية الفادحة، أو المؤدية إلى نهاية مأساوية وعبثية.
فعلى سبيل المثال إذا كانت قضية كشمير تحمل قدراً كبيراً من الحق والعدالة، وقد عزز حق تقرير المصير قرارٌ أممي من هيئة الأمم المتحدة، فإنك لم تنصر ذلك الحق وتلك العدالة إذا لم تراعِ ما مرّ ذكره من تحذير من الانفصال ومن خوض حرب أهلية فاشلة. ومن ثم نتائج سلبية على شعب كشمير وعلى مسلمي الهند وعلى من ناصروك.
خلاصة، إن اتخاذ النتائج معياراً للسياسات وإدارة الصراعات تمثل نهجاً فقهياً صحيحاً كما هو الحال مع اعتماد النتائج معياراً في إنفاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.