الفيلم الفرنسي الايراني الياباني:”مثل شخص مغرم”(2012)
مهند النابلسي
عرضته “لجنة السينما بشومان”:
شخصيات يابانية بنكهة ايرانية!
استاذ جامعة عجوز ومتقد الذهن (قام بالدور باتقان تاداشي اوكونو)، يعشق عاهرة جميلة، ويقدم لها عشاء رومانسي على ضؤ الشموع بشقته الصغيرة الأنيقة بضواحي طوكيو، ولكنها تستعرض بسرعة كتبه وصوره العائلية ولوحة فنية فريدة، وفيما يحاول الاستاذ قدر الامكان تجاهل مكالمات العمل التي لا تتوقف… ثم تذهب للنوم في فراشه وكأنه متعودة على ذلك وبشكل حميمي، ولا يبدومهتما باقامة اية علاقة جسدية معها كما لا تبدو مهتمة بعرض العشاء والحديث والشرب مفضلة النوم، كذلك فهي لا تقدم على الدراسة استعدادا لامتحانها بعلم الاجتماع في اليوم التالي (قامت بالدور رين تاكاناشي) …يقوم الاستاذ الحنون بتوصيلها للجامعة بسيارته الحديثة، ثم ينتظرها دون استعجال، فيما نشاهد شابا عصبيا يتعرض لها بقسوة على المدرج، وفيما تذهب لتأدية الامتحان، يتحاور صديقها العصبي مع البرفسور (قام بالدور ريو كيس) ويشعل لفافة تبغ، حيث يبلغه العجوز مجازا بأنه جدها، فيطلب الشاب يدها منه، ويحاول الاستاذ تهدئة الامور بينهما وخاصة أن شخص ما قد اطلع الشاب على صورة قديمة مبتذلة لصديقته وقد تشاجرمعه لهذا السبب، ولكنها تنفي باصرار ومكابرة أن الصورة لها بالرغم من أنها اعترفت للبرفسور بأنها لها ببداية عملها الليلي…وعندما تدلف للسيارة يحتدم النقاش، ثم يشير الشاب لصوت غريب بالسيارة يستدعي الصيانة العاجلة، وبالفعل يذهب لورشته القريبة بالجوار لتصليح العطل، وهناك يتعرف شخص ما على الاستاذ، متذكرا أنه كان تلميذه منذ ثلاثين عاما، ثم ينغمس هذا الشخص بحوار مع صاحب الورشة…وتخشى الفتاة أن ينكشف امرهما وتعرف الحقيقة، فيجود الاستاذ بحكمة مفادها ان “لا ضرورة للقلق قبل الآوان، وسيحدث ما يجب ان يحدث”! يعود البرفسور لشقته ويتحاور مع جارة فضولية متلصصة، ثم يفاجىء بمكالمة عاجلة من الفتاة تطلب فيها النجدة، فيذهب عاجلا لأخذها، ونلاحظ أنها قد ضربت بقسوة على فمها وأن الدم ينزف من لثتها، يحاول الاستاذ معالجتها وتطهيرجرحها، ثم يلاحظ طرقا عنيفا على الباب من قبل الشاب ويتبعه صراخ الشاب وشتائم وتهديدات لهما واصرارعلى فتح باب الشقة، ويصر الاستاذ على عدم التجاوب خائفا ومرعوبا من المواجهة، ومن ثم نسمع صوت صدم لسيارته، وتنتهي القصة بقذفه لحجرتسبب بكسر زجاج النافذة وسقوط البرفسور أرضا، هكذا ينتهي الفيلم بغرابة وغموض! لا شك من براعة التقطيع والتصويرالسينمائي من خلال زجاج النوافذ والمرايا، ابتداء من المشاهد الاولى بالنادي الليلي عندما حاول “القواد” اقناعها بالذهاب لشقة البرفسور غصبا عنها، ثم الانتقال المعبر بالتاكسي عبر ضواحي طوكيو الجميلة، وسرد المكالمات التي وصلتها للموبايل، والتي تلقي الضؤ على حياتها وعلاقاتها مع جدتها المتشوقة لتناول الغذاء معها، والتي لاتعرف خفايا عملها المعيب بالدعارة الليلية الراقية “كفتاة اتصال” تسعى جاهدة لتمويل دراستها الجامعية المكلفة، كما نسمع مكالمة طويلة من صديقة فضولية…ونستغرب فيما بعد من الحوار المطول بين الفتاة وجارة البرفسور الفضولية (التي تعيش وحيدة مع شقيقها المعاق)، والتي أبدت لها اعجابها المزمن بالبرفسور واطلاعها على الكثير من اسرار حياته مع زوجته المتوفاة “الأجمل والأطول”، ويبدو أنها تسعى جاهدة للتحرش به بعد ترمله، ثم نستغرب من تصديق الجارة “لقصة الحفيدة المفبركة” مع ان المفروض منها أن تعرف الحقيقة!
لا أعرف لماذا “سفه” المخرج بطلته البائسة التي تدرس “علم الاجتماع” وجعلها تعجز عن الاجابة الصحيحة عن سؤال بديهي مثل من هو مؤسس علم التطور؟! فيما مجد الكاتب الياباني “هاروكي موراكامي” العاهرة الجامعية الجامحة (التي تدرس الفلسفة) بروايته “كافكا على الشاطىء”، وجعلها قادرة على تلخيص وتبسيط “فلسفة الوعي” لدى هيجل!
يستعرض المخرج الايراني اللامع (كياروستامي) هنا اصول البروتكول الياباني اللطيف والعريق، ويخوض معنا تجربة يومية مرهفة بطوكيو ابتداء من النادي الليلي وحتى شقة الاستاذ بالضواحي، ومن ثم مرورا بكراج الشاب وانتهاء بشقة البرفسور في اليوم التالي، مستعرضا نماذج بشرية محددة، تتمتع بالذكاء الرصين والعنف والمصلحة والفضول …وتبدو روايته كالاحجية وكتمرين بصري بالأمكنة، فالكثير يحدث داخل سيارة، كما يظهر تقلب المزاج والضعف البشري والغموض، لكن هذه السياحة الداخلية لطوكيو تبدو غامضة وسحرية باستخدام كاميرا انيقة ورشيقة ومع وجود معالم واضحة لذكاء سردي لكنه “تائه وغير عميق”!…تتغير طبيعة الأحداث منذ البداية وتفشل خطتها لزيارة جدتها، عندما يصر”القواد”على أن تقضي الليلة مع استاذ الاجتماع المتقاعد “تاكاشي”، ولا نفهم حقا سبب عملها كعاهرة من الطرازالرفيع، اذا كان خطيبها(نورياكي) يحرص عليها ويحبها بشغف كبير وربما مستعد لتمويل دراستها لأنه ينعم بعمل جيد كصاحب مرآب لصيانة السيارات…لا نعرف لأين يريد المخرج بنا أن نذهب مع انتهاء لقاء الشخصيتين بالشقة في البداية؟ وربما توقف عند هذا اللقاء الرومانسي “الغريب” الذي توجته الاغنية الجميلة “مثل شخص مغرم” بصوت المغنية الأمريكية الراحلة “ايلا فيتزجيرالد”…استغرب انبهار بعض النقاد الكبير بالفيلم لدرجة أن بعضهم “بالغ” وشبه دخولها لشقة البرفسوربالبداية وكأنه يتماثل مع لقطة “هجوم الهليوكبتر” الشهيرة بتحفة “القيامة الآن” لكوبولا، بل أني أتجرأ على القول بأن هذه المشاهد تحديدا كانت ضعيفة ومربكة من حيث تجنب المواجهة وتبادل النظرات وتكوين الانطباع الأول، لأن الاستاذ علم من السائق مسبقا بحضورها وشاهدها وهي تغادر التاكسي وهيأ الجو وفتح لها باب الشقة، وبذلك انهى دون أن يقصد “حالة الترقب والتشويق”…
يقال أن المخرج عباس كياروستامي قد استمد فكرة الفيلم من رؤيته “لعروس يابانية” جميلة بآواخر التسعينات أثناء زيارته لطوكيو، ويبدو أنه انبهر حقا بجمالها لحد أنه فكر بتخليد مرآها بهذا الفيلم “السطحي” الذي يفتقد للعمق والتشويق والمغزى (للدرجة الكافية)، وربما أسقط المخرج شخصيته على دور الاستاذ الجامعي “الياباني” المسن فتسرع (وقد كتب السيناريو) بفبركة قصة “غير مقنعة” وخلط في اعتقادي عناصر “ايرانية وربما فرنسية” وأدخلها قسرا للشخصيات اليابانية مثل الريبة والتوجس والتلصلص والانبهار بالجمال (وقد أكون مخطئا)!
مهند النابلسي