القصف الأميركي وإطالة أمد الحرب
د. عبد الستار قاسم
لم تكن أميركا مؤيدة للنظام السوري، وكانت تتمنى زواله، ولم تكن يوماً مؤيِّدة للتيّارات الإسلامية بكافة أشكالها، ودائماً تمنّت اختفاء التنظيمات الإسلامية. هي لا تريد بقاء نظام الرئيس بشَّار الأسد، ولا تريد أن ترى سوريا تحت حكم الإسلاميين. إذن ما هو الحل؟
لم يكن مُفاجِئاً قيام طائرات التحالف الأميركي بقصف مواقع الجيش السوري في دير الزور، ولم يكن تأسُّف أميركا مقبولاً لا من قِبَل الدول المعنية ولا من قِبَل الأفراد العاديين الذين لا يعرفون بالأمور العسكرية ذلك لأن الكذب واضح في الأسف الأميركي.
المنطقة التي تمّ فيها قصف الجيش السوري تخضع لرقابة مُكثَّفة من قبل منظومات الأقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع، وأخبارها تتواترُ على مختلف وسائل الإعلام، ولا مجال للخطأ في توجيه فوهات البنادق أو قنابل الطائرات.
والمُتتبِّع للسلوك الأميركي في سوريا منذ بداية الأحداث يجد أن أميركا لم تكن يوماً جادَّة في البحث عن حلٍ للأزمة السورية، أو دعم طرف من أطراف الصِراع بقوّة يتمكَّن بها حسم المعركة.
لم تكن أميركا مؤيِّدة للنظام السوري، وكانت تتمنَّى زواله، ولم تكن يوماً مؤيِّدة للتيّارات الإسلامية بكافة أشكالها، ودائماً تمنّت اختفاء التنظيمات الإسلامية. هي لا تريد بقاء نظام الرئيس بشَّار الأسد، ولا تريد أن ترى سوريا تحت حكم الإسلاميين. إذن ما هو الحل؟ من خبرتنا في السياسة الخارجية الأميركية هناك توجّه أميركي منذ زمن طويل للهيمنة على العالم، وتطوَّر هذا التوجّه إلى استراتيجية العولمة مع بداية التسعينات، أو التخريب إن لم تتمكّن من تحقيق أهدافها. على الدول، وفق التفكير الأميركي أن تخضع وتسير بالرَّكب، أو تتعرَّض للتخريب بواسطة الوسائل والأساليب الفعَّالة التي بحوزة أميركا. حتى قبل العولمة المعلنة، ألحقت أميركا خراباً كبيراً في دول عدَّة في أميركا اللاتينية منها كوبا وكولومبيا ونيكاراغوا وتشيلي، وهي تحاول الآن تخريب الإكوادور والبرازيل والأرجنتين.
وما أعنيه بالتخريب هنا هو العمل على تعطيل وإعطاب مؤسسات وشركات ومشاريع اقتصادية من أجل إعادة الدولة المستهدفَة سنوات إلى الوراء.
هكذا فعلت أميركا في فييتنام، وهذا ديدنها بالنسبة إلى كوريا الشمالية، وعملت على تخريب روسيا بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، وما زالت مُستمرّة في التخريب. وفي منطقتنا أشعلت حرباً بين العرب وإيران أتت على ثروات البلدان العربية وإيران، وذهب ضحيتها مئات الآلاف من العرب والإيرانيين. ثم عمدت إلى تدمير العراق وسوريا.
وفي كل الأحوال استنزفت أميركا ثروات الدول الخليجية التي تستجيب دائماً للسياسات الأميركية حِفاظاً على أنظمتها السياسية القَبَلية. أي أن أميركا قد حسمت موقفها منذ البدء تجاه سوريا وهو التدمير. التخريب هو أحد أعمدة السياسة الخارجية الأميركية، وتعمد دائماً إلى تنفيذه بأيدٍ محلية. وهدفها التخريبي يرمي إلى تحقيق أمرين وهما: 1- إعادة الدولة المستهدفَة سنوات إلى الخلف بحيث يستشري التخلّف والفقر والمرض فلا تقوى الدولة على قول لا، وإثارة الفِتن الداخلية وتأليب الشعوب ضدّ حكوماتها. فإذا استطاعت واشنطن التخريب على نطاق واسع بصورة غير مباشرة فإنها تراهن على انقلاب الشعب على حكومته بسبب سوء الأحوال المعيشية، فتنتشر الفوضى ويعمُّ الدمار.
طبعاً بيد أميركا أدوات أخرى قوية يمكن استخدامها للوصول إلى أهدافها، وهي دائماً تستعمل الأداة التي تراها مُناسبة لكل حال على حِدة. قالت أميركا إنها أقامت تحالفاً لملاحقة داعش في العراق، وتقريباً كنا نسمع كل يوم أخبار قصف التحالف لمواقع داعش، ليتبيّن في ما بعد أن داعش لم تكن تتقلّص وإنما كانت تتمدّد وتحصل على المزيد من الأموال والمعدّات والجنود.
وكذلك الأمر في سوريا. قوات داعش تُحاصر مطار دير الزور منذ فترة طويلة، ويخوض الجيش السوري معها معارك حامية، لكن طائرات التحالف الأميركي لم تقم بقصف مواقع داعش. ولم تقم أيضاً بغارات فعّالة على مواقع داعش في الشمال السوري، وتركت تركيا تُقدِّم مختلف أنواع الدعم لتنظيم الدولة. وبدل أن يضغف داعش ازداد قوة وقدرة على مواجهة الجيش السوري. يتطلّب تدمير سوريا ضخّ الأموال والأسلحة والمُقاتلين للأطراف المُتصارعة حتى لا يترنّح أحد في الطريق ويخرج من ميدان القتال.
جنّدت أميركا دول الخليج للإنفاق على الحرب. وأدخلت تركيا في الميدان لتكون الدولة الجار التي يسهُل عليها تأجيج الصِراع عبر الحدود، والنظام السوري لم يكن أصلاً من دون بكايات إذ أن إيران وروسيا وحزب الله لا يمكن أن تسمح بانهياره بسبب أهميته الاستراتيجية لها.
كاد النظام السوري أن ينهار في بواكير اندلاع الصراع، لكن حلفاءه وقفوا سدّاً منيعاً يدافعون عنه، وكادت المُعارضة أن تنهار في المُتأخّر من أيام الصِراع، لكن الدول المُتربّصة أغرقتها بالمُساعدات التي تُمكّنها من الوقوف على أقدامها.
ومن أجل إضاعة الوقت مع الروس وكسبه في عمليات التخريب ابتدعت أميركا الفكرة السخيفة القائلة بالتفريق بين الإرهابيين والمُعارضة المُعتَدلَة في سوريا، وفرضت فكرتها على الحوارات مع الروس من دون أن تظهر نتائج واضحة بخصوص تعريف المُعارضة المُعتَدلَة، أو الإرهاب المُعتَدل. دول الخليج لا تدافع عن الديمقراطية ولا عن الإنسان العربي سواء كان في العراق أو بلاد الشام، إنما هي لها ثأر مع النظام السوري وتريد أن تتخلّص منه، وأميركا كما الكيان الصهيوني يعملان على إركاع كل العرب وعلى رأسهم سوريا من أجل إحكام الطوق على رقبة الفلسطينيين وتمكين الكيان الصهيوني. النظام السوري يتحالف مع إيران العدوّ المزعوم للعرب، ومع حزب الله أيضاً والمُصنّف إرهابياً من قِبَل بعض دول الخليج. وبما أن دول الخليج تضع إيران وحزب الله على رأس قائمة الأعداء فإن النظام السوري لا ينحدر كثيراً عن رأس السُلَّم.
إنه النظام العربي المطلوب رأسه حتى لا يبقى لحزب الله سبيل نحو التسلّح والحصول على أموال، ولا يبقى لإيران أصدقاء يوفِّرون لها بعض حرية الحركة في المنطقة وضدّ الكيان الصهيوني. ولم تكن دول الخليج سعيدة بخطاب بشَّار الأسد بعد الحرب على لبنان عام 2006 والذي أشاد فيه بالمقاومة واستهزأ بمواقف دول عربية مُتخاذِلَة.
ومواقف سوريا لا تنسجم تماماً مع مواقف دول عربية في الجامعة العربية وفي القمم العربية بخاصة في ما يتعلّق بقضية فلسطين. فمثلاً، خرَّب بشَّار الأسد الموقف العربي الخياني والمُتخاذِل في مبادرة بيروت العربية لعام 2002 عندما أصرَّ على إدراج حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم في المُبادرة. دول عربية عديدة تريد أن تتخلّص من القضية الفلسطينية، وسوريا تقف عادة حجر عَثرة. أميركا ليست مُنزعِجة من مواقف بعض دول الخليج، بل على العكس هي تُحرِّض وتُشجِّع وتضغط من أجل تمويل الحروب. لقد أفلَست هذه الدول مالياً إبَّان الحرب العراقية الإيرانية، وإبَّان الحرب على العراق من أجل الكويت، والآن تُفلِس بسبب حربها على العراق وسوريا. وغالباً تعود المصروفات الخليجية على الحروب إلى الولايات المتحدة لأنها المورِّد الأول للأسلحة في العالم. أي أن المصلحة الأميركية تتحقّق من خلال شريانين وهما شريان التخريب وشريان إعادة أموال النفط إلى الدول الغربية. في الآونة الأخيرة، كانت يد الجيش السوري هي اليد العليا، وأخذت المُعارضة بكافة أشكالها تتراجع في الغالب أمام ضربات الجيش.
استراتيجية الأميركيين تقول إنه يجب دعم الطرف الذي يضعف من أجل استمرار الحرب واستمرار القتل والدمار. القتل يعني مزيداً من التفسّخ الاجتماعي والمُخاصمات الداخلية السورية، والدمار يعني المزيد من الضعف للشعب وللنظام فلا تكون هناك قوة تدعم أعداء الصهاينة.
أتى القصف الأميركي لمواقع الجيش السوري ليُعطي داعش قوةً وزخماً قتالياً جديداً، ويبدو أن الأميركيين قد أبلغوا داعش بالاستعداد وما أن قصف الأميركيون الجيش في دير الزور حتى زحفت قوات داعش على مواقع الجيش.
واضح أن علاقة أميركا مع داعش ليست علاقة غضّ الطّرف أو اللّطف في الدغدغة وإنما علاقة تعاون وتنسيق مسبق. ولهذا من المفروض أن تبقى روسيا وكذلك النظام السوري على حذر، وآخر ما يجب أن يتبنّوه هو الثقة بأميركا.