القصيدة العتيقة – سعيد نفّاع
قصّة… من وحي أمسية!
كانت كلُّ جارحة في عاصم تتقاذفُها كلماتُ زملاءَ وأحباءَ تملأ جوّ القاعة العاجّة، وعيونٌ كثيرة تتناقل بين ملامحِه وبين ملامحِ الخطباء. لم يكن عقلُه يستوعب كلّ ما كان يقال، لأن عقلَه، هذا المكوّنَ الإنسانيّ الغريب الجامح، كان يذهبُ به بين الكلمات بعيدا ولا يلبث أن يعيدَه تصفيق حادّ قلّما كان يعي له رابطا. وكانت يدُه اليمنى لا تبارح الجانبَ الأيسر من صدره، تعلو وتهبط تشد وتُرخي وكأنها تريد أن تتأكد من وجود شيء ما تحتها يخاف عليه أن يهرب.
كان الوجومُ سيّدَ الموقف على ملامحِه، يظنُّه الرائي، غير مخطىء كليّا، تأثّراً بما يجري حوله، والحقيقةُ أن وراء الوجومِ كان ما هو أكبرُ كثيرا ممّا يجري، وما يجري جعل ذلك الوجومَ أعمقَ. كان وجومُه في ذلك الشيءِ الذي وُلد ذلك اليوم في قلبه وراح يكبر متسارعا، وكلّما كبر وضاقت عليه الحجراتُ كان يروح يدّق الجدرانَ بشراسة ودون رحمة، وإذ لم يُستجبِ الدقُّ كان يمتشق أظافرَه الحادّة لينشبَها في طيّات جدران القلب، ولا ينفكّ يفعل ذلك حتى يئنّ القلبُ داميا، فيعفو ذلك الشيءُ عن سجّانه راحة آنيّة استعدادا للجولة الآتية، وتوالت الجولات.
مع الأيام، وإن بقي الأُوارُ مستوطنا في القلب، إلا أن الهُدنَ بين معركة وأخرى كانت تطول والتهدئةَ تسود. هبّ الأوار مرّة واحدة عاليَ اللهب في تلك الزيارة المسائيّة الخاصّة لثلّة من طلّابه وقد غزا الشيب المفارق والرؤوس منهم، ألقت على قسمات وجهه وجوما ظلّ رفيقَه ثقيلَ خفيفَ الدّم في آن، اعمقَّ هذا المساء.
البداية كانت يوم كان عاصم عائدا من رحلة غياب عن دوامِه المدرسيِّ لا يعرف بأسبابها، غيرُه، إلا المديرُ والمُستدعي. كان ذلك غداةَ دعاه مديرُ المدرسة عصرَ اليوم الذي سبق، وقد كان التعبُ هدّه من يوم طويل ككلِّ أيامِه التي كان يعصر فيها كلَّ ما يستطيعُ إلى ذلك سبيلا، من قلبه قبل عقله، حتّى يحلو المذاقُ في حلق طلّابه الذي كان مليئا عادة بكلّ أسباب المرارة في تلك الأيام، فخرج من عنده تملأ المرارة قلبه وحلقه.
ما خطر على باله يوما أنّ كلمةً تُقال هنا وأخرى تُقال هناك، وما هي إلا توصيفُ حال ليس إلا، يُمكن لها أن تكون الحدَّ الفاصلَ بين يُسر لقمةِ عيش صغاره المتوفّر نوعا ما، في زمنٍ كان العسر رفيقَ اللُقم على قلتها، وبين البوح بما يختلج في قلبه وعينيّا أمام طلّابه. هذا الخاطرُ جاءه حين أخذه التفكير بعد تلك “الضيافة” إلى يومٍ سبق ذلك اليومَ بكثير، قال له فيه أبوه الكسيرُ الوجه حزينُه: “يا عاصم دفاترك هذه من لُقمة إخوتك فدير بالك عليها جايِهْ علينا أيام سودا”.
لم يعِر الأمرَ كثيرَ اهتمامٍ حينها، ولكنّ أياما جاءت، وإن كانت بوادرُ جمّةٌ تشير إلى قدومها، إلا أن البوادرَ كانت راحت تحت حوافر خيلِنا التي اهترأت من كثرة الاحتفار ولم تجدِ الطريقَ إلى مرابطها في لندن. لم تُربط خيلُنا لا في شارع “الداوننغ ستريت” ولا في ميدان “الترافيلغار” الذي شوّهت تسميتُه ما تبقى لنا من رائحة “الطرف الأغر أو طرف الغار” في الأندلس، هذا إن كانت خيولُنا أسرِجت أصلا وبما يليق.
ودفاترُ عاصم التي كانت مقتطعةً من لُقمِ العائلة، جعلت منه معلّما راح سنين طويلة يفتّش عن كلمات كثيرة على صفحاتها شوهتها بقعُ زيت كثيرةٌ والتَهم اهتراءُ الورق كثيرا من أحرفها، ليطعمَها لطلّابه المتكوّرين على طاولات مهترىءٌ جلّها، جوعى بعد أن ظلّت لقمُهم تحت ركام بيوت كثيرة امّحت مع امِّحاء قراهم، وكان على عاصم أن يمحوها من ذاكرتهم أو على الأقل ألا يطرحَ ما يكدّر صفوَ الامّحاء، ووعد.
هذا هو الموضوعُ الذي عبقت به تلك الغرفةُ الصغيرةُ شبه المظلمة، كاشحةُ ألوان الجدران وقد فعلت فيها رطوبةٌ بحريّة مالحة فعلَها، متطاولةٌ شبابيكُها المشبّكة الضيّقة، والقابعةُ في آخر الرّدهة السفليّة من مركز الشرطة المورَّثِ بصكّ دوليّ ممهور بدم وبارود.
وهذا ما كان وراء ذلك الشيءِ الذي كان يكبر في القلب، والحافلةُ تئن طاويةً الطريقَ التي لم تكن بعدُ جراحُه قد اندملت، والذي كانت ما زالت أكوامٌ كبيرة من الحجارة قريبةً وبعيدة على جنباته، تشرئبّ من بين ركامها أشجارٌ يتدلّى بعضُ فروعِها المتكسرّةِ ليس بفعل الطبيعة، وإنّما بفعل قذائفَ كانت انهمرت حولها لم تقو على فصلها عن أمهاتها وإن أثخنتها جراحا، فظلّت متعلّقة بآخرِ رمق لاقحةً الأفنانَ الغضّة الذابلة منها على أكتاف الركام.
أشدّ ما جثم على صدر عاصم وهو يغادر، أشلاءُ رجولة تخلّى عنها أو تخلّت عنه وبقيت على بلاط تلك الغرفة شبهِ المظلمة، وإذ لم يكن من الذين تستطيع وجوهُهم إخفاءَ مكامنِ قلوبِهم، “زادت الطين بلّة” الجلسةُ المتوقّعة في البيت، ليس لوجهِ شبه بين الجلستين، فشتّان، وإنما وإن لم يكذبْ في تلك الغرفة الكاشحة الألوان سيضطر أن يكذب على زوجته المحبّة ربّما خوفا على رجولته التي ضاع جزءٌ منها صباحَ ذاك اليوم، ولا يريد لما تبقّى منها أن يضيع أمام عيون زوجته المحبّة، وهذا ما كان، وعزاؤه كان أنه لا يريد أن يزيدَها حملا على حمل، رغم أن هذا العزاءَ لم يُسْليه لا حينها ولا بعدها.
لم ينم عاصم تلك الليلة قبل أن يفرّغ ذلك الشيءَ المُنشبَ أظافرَه في حجرات قلبه، قصيدةً خبّأها عميقا في أدراجه خوفا عليها أن يصلَها يوما ظلامُ تلك الغرفة الكاشحة الألوان في ساعة سهوة، أزاحت كلماتُها عنه بعضَ ذلك الهمِّ الذي حمله من تلك الغرفة، وحتّى يومَ صار وعدُه يتيما بحكم التقادم وتغيّرِ الأحوالِ وصار بإمكانه أن يبوح، ظلّت قصيدتُه حبيسة الأدراج، فهي صادقةٌ ولكن في صدقها ضعفَه وانهزامَه وبعضَ رجولة ضاعت وربّما أكثرَ من ذلك. أويُفشي الضعيف المنهزم ضعفه وانهزامه؟!
ظلّ الوعدُ رفيقَ عاصم سنين طويلة، وليس لأن “وعدَ الحرّ دينٌ عليه” فأصلا ما كان قطعه حرّا وإنما عبدا، وظلّ لا يعرف إن كان ذلك عبوديّة طوعيّة للقمةٍ في زمنٍ عزّت فيه اللقمُ، أم خوفا من ذلك الذي كان يجلس خلف الطاولة العتيقة في الغرفة الكاشحة الألوان.
بعد طول عمر وحين بلغ منه الضّمور مبلغا وحين صار طلابُه الذين أراد له صاحبُ الغرفة كاشحة الألوان، أن يمحو من ذاكرتهم لقمَهم التي ظلّت تحت الرّكام أو على الأقل ألا يذكّرَهم فيها، حينها قرّر طلابُه أن يكرّموه إذ كان، من ناحيته على الأقل، عوّضهم الكثيرَ من اللقم التي أشبعت بعضَ خواءٍ في بطونهم، فقدّروه وأحبّوه.
كانت القاعة تعجّ، أُتخمت كلاما لكنها خلّت مطرحا لكلام تنتظره، وحين وقف عاصم على المنصّة ضامرَ الجسد حانيَ الظهر تجلّل عينيه نظّارةٌ سميكة لم تستطعْ أن تخفيَ الاغروراقَ في عينيه، طال وقوفُه قبل أن تخرج الحروفُ من بين شفتيه تنازعها بحّةٌ وارتجاجٌ فضحا أسبابَ تأخرِه عن النطق، لكن الأحرفَ المترجرجةَ خرجت أليمة مؤلمة وجاء أولُها:
“ربّما أطيلُ عليكم فتحمّلوني لأنها ربّما تكون المرّةُ الأخيرة التي ألتقيكم فيها!”، حكّت هذه الافتتاحيةُ شغافَ القلوب فهجعت، والحكايةُ أعلاه هي التي حكاها بصوت كسير وكأنه يعترف بجريرة ارتكبها إذ أبقى الحكايةَ والقصيدةَ حبيستين بين اللُقمِ التي ظلّت بين الرّكام وتلك التي ضَمِنها سهلةً بوعدٍ قطعه ضعيفا مهزوما في تلك الغرفةِ كاشحةِ الألوان. وثاقب البصر والبصيرة هو الوحيد الذي استطاع هنا أن يفهم سرّ ذاك الوجوم الذي لم يبارح محيّاه هذا المساء، وإن كانت ترافقه هنا وهناك بين الكلمات بسمةُ عرفان وشكر، ويبارحه حين يقف معانقا الخطباء الكثر، والذي لا يلبث أن يعود حاطّا ثقيلا على وجهه.
كان وقد قارب حسبَ السياق أن ينهيَ الكلام، يمدّ يدَه إلى جيب معطفه الداخليّة الحاضنِ “قنبازه” العربيّ رافعا بيده الأخرى طرفَ “حطّته” الوطنيّة المتدليّة تحت “عقاله” الأسود، القنباز والحطّة والعقال التي ظلّت رفيقته ربّما قولا في وجه قول، أو ردّا في وجه غزوٍ من بنطال وكرفات وبرنيطة، يمدّها مخرجا ورقةً عتيقة فتحها بتأنٍ خوفا عليها، وراح يقرأ بصوت كسير قصيدةً فيها ذاك الدّمُ الذي لم يتخثّرْ منذ أن أنشبت أظافرَها في ثنايا قلبه في طريق العودة من تلك الغرفة الكاشحة، ولم يتخثّرْ حين صار حبرا مسكوبا على ورقة ظلّت حبيسةَ الأدراج، وها هو يسيل على المسامع بعد طول زمن، وقد تعتّق كلّ هذه السنينَ بين طيّاتِ لقمٍ مرّة.
هل كان يقرأ لائحةَ اتهامٍ، وإدانةً لنفسه؟! أم كان يقرأ صكَّ غفران؟! أم كان يوصلُ شيئا آخرَ لأناس يعرفون ما يعرف ويحرِفون؟!
هو الوحيد العارف، وربّما بعضُ وجوه بين الحضور جلّلها السّهَمُ والأحرفُ تتهادى، ومع هذا وحين أنهى، كان التصفيقُ هادرا في القاعة، ربّما إجلالا لصّدقِ أمام الناس لم يمنعه يوما عن نفسه، وتعبيرا عن أشياء أخرى!
سعيد نفّاع
أواخر كانون أول 2017