القص الغرائبي في أرض الحكايا – شاكر مجيد سيفو
من جماليات اشتغال القص وحضوره في ارض السرد وحقل الحكاية، تنوع أساليب الإبداع في الكتابة النصية، وحذاقة الشخصية الإبداعية، التي تشتغل في هذا المضمار على التخيل والحلم والاستذكار والتجربة وتراسل الأجناس الأدبية والفنية…. يحرص القاص أو السارد على التقاط البؤر الحكائية من المناطق المجهولة والخفية واللامرئية، بانفتاحه على الرؤى الغرائبية والسحرية والأسطورية وحتى مناطق الخرافة في أنساقها الحكائية العميقة، وتشتغل هنا وظيفة الإدراك الحسي والجمالي مقابل وظيفة التخيل -حسب أرسطو – في المزيد من النفاذ إلى الأعماق والثراء والإثراء للداخل النصي الذي تتحاور من منحنياته أقطاب عديدة من السلوك الشخصي للشخصيات والسلوك المرئي والبصري في محيط الذاكرة المكانية، هذه الأقطاب التي تتجاذب وتتنافر في حركاتها بفعل الرؤية والرؤيا الحلم هي التي تتمشهد وتتحول بقوة الخيال الشخصي إلى فعالية حواس تؤسس للمشهد الحكائي بنيته الضاجة بأفعال الحياة.
أسوق هذه المقدمة للدخول إلى عوالم حكايا – أرض الحكايا – كتاب القاصة د. سناء الشعلان، يتلمس القارئ الحافات الحادة للنص الحكائي ابتداءً من بنية العنونة الموسومة قصديا – أرض الحكايا – إلى منظوماتها القصصية للنصوص التي تنتقل من القوى الكامنة للنفس المثيرة بأحلامها ومقاصدها ورغباتها إلى مد جسورها الخفية مع العالم، وللذات الكاتبة التي تقدم نصها الحكائي في جمالية التراكم الفني والمعرفي للطبيعة البشرية لكل شخصية من شخوص الحكاية، تستهل القاصة سناء شعلان مجموعتها بالتصدير الموسوم – إهداء مسروق – تنبيء دلالة الإهداء عن اشتغال ذكي لذاكرة الحكي، فهي تصرح بالموشور الوقائعي” إلى سليل الأساطير والعمامات السوداء الذي سافر ولم يعد بعد أن كتب على عجل على بوابة صحرائها: ” كانت مدينة القحط طيلة سنوات ثلاث مدينة لا تطاق، كنت أتمنى الخلاص منها،….. الخ”. ترشح عن قيمة الإهداء محتوى الوثيقة بالإشارة إلى الفعل ” كتبَ” الذي تتماهى معه أفعال القص حكي بدلالة أن النص يبدأ من منطقة مُتأرَّخة في الوجود، حيث الأفعال تأخذ مسارها في حركتها مع الأشياء التي تتحرك في مستوى من تأويل الوجود أو لفهم الوجود حسب – هايدجر -. القاصة سناء شعلان تعمل على تدوين الواقعة خارج نمطية الحياة، فهي حريصة في تناولها لموضوعاتها وعوالم شخوصها، كما ترى من فهومات و آليات اشتغالاتها في كتابها التنظيري الجاد الموسوم: ” السرد الغرائبي والعجائبي” يلتفت القارئ هنا إلى سؤال الإبداع في تراسل الأجناس الأدبية والفنية، إلى سؤال”الفنية” الذي يُمهّد لذيوع الرمز والتشكيل بعيدا عن الأداء الخطابي، والجنوح إلى الإيماء والتلميح عوضا عن البوح والتصريح، هذا حسب تقديم الدكتور إبراهيم خليل الكاتب…. فالقاصة سناء شعلان تهتم اهتماما استثنائيا وجدليا وجماليا بالسرد الغرائبي في ” أرض الحكايا” لنقل النصوص من زاوية النظر الواحدة، إلى فضاءات مفتوحة غير مألوفة. أو ينفتح العمل القصصي أو النص الحكائي بالعودة إلى بنية العنونة، إلى منظومة دلالات وإشارات ورموز ودوال وإحالات تفتح لها نوافذ ضاجّة في السرد بالشكل الذي يقع على توصيفات التكوينية والبنيوية والتفكيكية. وترى القاصة في رصدها لشخصياتها وأفعالها إلى إقامة منظومة سردية تشتغل بقوة في منطقة الفانتازيا والخيال واستطيقيا الحلم: – إذ تستفيد من قراءاتها لنظريات النقد العربي والغربي معا. تلاحق القاصة سيرة شخوصها في انتقالاتهم من الذات إلى الوجود ومن العالم إلى الذات في سردها عبر شبكة دلالات ترشح عنها أنساق الدهشة والصدمة والخلق وايتداع الخوارق وكشوفات الحلم وسوريالية اللغة، إذ تُُحمِّل شخصيات حكاياتها علامات الشك والحيرة والغيرة والفزع ويعود هذا الاشتغال إلى قراءاتها الذكية لأرسطو و فورستر و تودوروف و باختين و رولان بارت و فتاح كيلطو وصلاح فضل وفاضل ثامر ومنى محمد محيلان و شعيب حليفي ويوسف الشاروني و طراد الكبيسي وغيرهم. تجتهد القاصة سناء شعلان في اشتغالاتها الذكية على اهتمامها الشديد بتفكيك الحادثة النصية إلى مقتربات تحتشد بالمواقف الحياتية في تأملها الشديد لحياة الشخوص، إذ تستجمع صورة الآخر في تدبّرها لما تجنح إليه وتعمل على ترسيخهِ” في تقنيات الحذف و الإضمار و الإستباق والإستشراق، حسب د. إبراهيم خليل”. يتضمن نصّ القاصة سناء شعلان – بنص اللذة – بالعودة إلى فهومات رولان بارت فالحادثة هي الشغف اللذيذ باللغة، هي الولع الكبير بفكرة عشق ولذة الأدب في هذا البذخ اللفظي في النص، إذ تبذل القاصة جهدها الكبير في حقّ الإشباع لغرائز الشخصيات، حتى الموت الذي يتحدث عنه فرويد: ” إذ لاشيء مجاني غير الموت” إذ تقع هذه الرؤى ضمن ” متخيلات اللغة” ونعني بذلك الكلمة التي هي الجوهر، والسحر لترسيخ المتخيّل النصّي في الحكاية و أروحتها الأسطورية.
تتسم حكايات – أرض الحكايا – بالغرائبية في أعلى توصيفاتها النظرية الرؤيوية والجمالية، والغرائبية التي نتحدث عنها هنا هي: الغرائبية هي اسلوب متخيل يعمد فيه المؤلف إلى معاينة الواقع بعين مغايرة ترى ما لا نرى لتشكّل صياغات نصية لوقائع مختلفة سِمتُها التغاير المبني على مفارق العقل والواقع والدخول في فضاءات تتعارض ومعيارية التقنين الحياتي، الغرائبية وبحسب ” باشلار” تعيد إلى الإنسان حس الدهشة، فالغرائبية التي تشتغل عليها حكايا سناء شعلان تبدأ من العنونات: ” سداسية الحرمان ـ أكاذيب البحر – الباب المفتوح – ملك القلوب – الطيران على ارتفاع 1000 دقة قلب – دقلة النور – أرض الحكايا – الذي سقط من السماء – مدينة الاحلام – البلورة ــ الشيطان يبكي…. ” في حكايتها الأولى تتصل بشخصية ” المتوحش” تستغرق وتغرق القاصة في وصفه بحالات تراكمية عديدة ((فهو يعيش متأبداً متوحشاً على هذه الجزيرة الجرداء القاحلة لتصل به: “من قال انه يفكر اصلاً في من يكون؟ والى أيِّ الأزمان والعصور ينتمي، ولا يشعر بملل، لا يعرف النفور من التكرار لقد ألف كل الروائح وكل الأصوات، غدا صديق حيوان من حيوانات الجزيرة” هذا مجتزأ من حكايتها – سداسية الحرمان – إذ تكشف عن قدرتها الفائقة في اصطياد اللحظة الحرجة وتنصيصها على جسد الحكاية واجتراح طراز من “القص حكي” لتحرير الأوهام الكبيرة التي رافقت الشخصية المحورية إلى أن أشبعتها أحاسيس فنتازية قد لا ترافق الإنسان في صحوهِ، لذا نقرأ ما بين السطور غرائبية الشخصية في مجمل أفعالها الغرائبية والسحرية في حكايتها الثانية – الخصيّ – يفعني الاستهلال إلى مرجعية حكائية تبدأ بالأخبار عن مشهدية المكان إذ يدفعني هذا الوصف إلى ولع القاصة بأحوال الوصف الأدبي العالي الذي يشتغل على لغة القص الحداثي بسلطة الذات المبدعة الساردة وملاحقة توصيفات المكان وعلاقة الشخصيات به وفيما بينهم، شخصية – الحضيّ – تعيد القارئ إلى فوران الذاكرة الجمعية بالانشغال بمحمولات الجسد الذكوري ورهابه ((كثيرا ما سمع خصيان القصر يتنذرون بوصف نساء جميلاتٍ ويتبارون في لحق التمنيات الجميلة عن جدران مخيلاتهم، يتخيلون أنفسهم بأعضاء كبيرة نشطة، تستبيح كل جميلات القصر، ثم ينخرطون بمزاج يشككون فيه في تصنيفهم الجنسي، ليروا أنفسهم في النهاية مسخا حزيناً لرجل وامرأة. ص21)) تنهض المفارقة الأسلوبية في رصف منظومة التضادات في منطوق الحكاية، فمن جهة ترى الذات الساردة احتفائية الشخصية في تندّرها على النساء الجميلات وتشفيها لهنّ، ترى الشخصية المحورية سعادتها في هذا التلاصف السردي الحكائي في طبقته العليا الظاهرة، فيما ترى القاصة الجانب الثاني في الطبقة الطافية من الحكاية، وهي انكسار وانسحاق واحباط الشخصية – الخصي – وامثالهِ في شكوكهم في تصنيفهم الجنسي وعطل اعضائهم عن ممارسة أفعالها وتنتهي أحداث الحكاية بفشل الخصي أقام جبروت السلطان إذ يعلق رأسه على بوابة القصر، انتقاما من خيانته وتأديبا لغيره من الخصيان ص22 إن الدخول إلى عوالم – ارض الحكايا – لا يمكن الافلات منها دون إصابة القارئ بالمس أو الجنون بقدر تعالقها الشديد بهذه السحرية الضاجّة بالغرابة والسحر والجنون واسطر الحدث الحكائي المثقل بالإشارات الصريحة الحلمية الفنتازية والرومانتيكية المرقشة بالعلامة السوريالية – احياناً – في عوالم الحكايا، ثمة ضجيج كوني تتلاطم امواجه بهذا الوصف السردي الذي لا تكل عنه القاصة الوصف المتناغم مع سينمائية اللغة والجملة والمركب التكويني للحدث الحكائي هو نتاج عدسات السرد في غرائبيته، عدسات مقعرة ومحدبة ولاصقة ومتضادة ومتوازية، عدسات تختلط فيها أفكار السارد في منطقة السرد تتشاكل فيما بينها لتكوّن عالماً متداخلاً من الرؤى المتغايرة في الزمان والمكان عالماً يجمع فيه النسق الحكائي مسروداته التخيلية التي تكشف عن تسيّد المخيال الشخصي للذات القاصة البارعة في كشوفاتها وصياغاتها السردية المعاصرة.. في حكايتها.. أكاذيب البحر – ص33 -، تتحقق عناصر الحكي في الوصف المتماهي مع الحال القصصي والمغامرة الجمالية التي تدفع بها القاصة إلى إشغال طاقة اللعب في الموقعة الحكائية، فلو أمعنا النظر والرؤية في البؤر الحكائية سنجد اتساع مديات الرؤية والتقاط مستطيلات البؤر القصصية من التفاعل والتجانس واللاتجانس على نحوٍ تدفع بهذه المعادلة القاصة في دفعها للشخصية المحورية إلى استدعاء الأحداث وتشظّيها، وضخها الوصفي الجميل الممتليء: (البحر مليء بالحكايا، ستحبين حكاياه) (البحر مليء بالأكاذيب، ستحب أكاذيبه) (البحر يزخر بحكايا من انتحروا لأجلهِ) (البحر يزخر بحكايا من قتلهم) وعلى لسان الراوي أو السارد يقول: (إني أحب البحر إلى حدّ إني لأجله ضحيت بالعمامة السوداء) قصة – أكاذيب البحر- إلى اسلوب الحوار ماذا عني؟ سأل بابتسامة هادئة – “أنت أكذوبة البحر الكبرى” – “اي بحر؟!” “بحر قلبي” “إذن انا أكذوبة؟!” – دعنا من الأكاذيب، عندي لك مفاجأة – “وما هي هذه المفاجأة؟” – “خمن… ” تؤول بنية الحوار إلى منظومة تساؤلات تتخفى في طبقات من المعنى في سيل الألفاظ التي تجترح لها أنظمة حكائية تقول ماتراه الشخصية المحورية وعلاقتها بالعالم المحيط بها إلى أن تنتهي إلى الإقرار بالجمال الذي هو المعادل الموضوعي للحكاية وأنساقها الكلية: ((ولكنك قلت لي انك صياد)) ((متى كان ذلك؟!)) – ((لي ساعة أكذوبة الجزر)) – ((كلّ ما يقال في زمن الجزر هو كذب)) – ((ولكنني اعشقك!!)) – ((وأنا أعشقك، اقسم على ذلك)).. وتتشظى عنونات أكاذيب البحر إلى أكاذيب محتويات البحر وكائناته وعناصره الجوّانية الخفية، وتمتد العنوان قي التشظي إلى أكذوبة اللؤلؤ، وأكذوبة الأمواج وأكذوبة المد والمرجان وأكذوبة الأصداف… تقول القاصة والكاتبة سناء شعلان في دراستها للقصة القصيرة في الأردن، المنشورة في كتابها “السرد الغرائبي والعجائبي” وان كان السرد العجائبي قد وهب الحياة من العدم لحجر، فهو قادر على إبقاء المقتولين أحياء وهم أموات، في مداخلة عميقة دراسة لقصة “لن يصدقه احد” للكاتب محمود الريماوي هكذا تشتغل القاصة سناء شعلان في اسطرة حكاياتها في كتابها – ارض الحكايا – إذ تحقق للقارئ ما يراه لذيذا، كأنه يرى ماضيه وأوهامه وتاريخه في سطر ما من سطور أية حكاية من حكاياها، تتوزع همومه وتنبثّ ذكرياته بين السّرد الغرائبي والعجائبي على امتداد أطوار حياته، حتّى لتغدوا الحكاية بنية سلوكية تتوازى مع النزوع الفردي لتأصيل الحدث الحكائي إن كتاب – ارض الحكايا – يتكثّف في سلسلة حكايات تكتنز بطاقة التلغيز والترميز والغموض الذي يُشهد حساسيته الجديدة في ميتا سحرية اللغة والمعنى ويقترح لسيميائية تؤول إلى مقتربات جمالية عالية في اللعب على وتر المغامرة الجمالية وتعددية البنى النصية، في المغاورة مع مصورات الحكي والانتقال من زمن إلى آخر ومن مكان إلى آخر في تداخل غريب مستخدمة آليات تصوير سينمائية حاذقة تكشف أفعال الشخصية في حركاتها الاحتفالية، وتلاحق الدوائر الراشحة عن حركة الكاميرا وعدستها المكبرة لمستويات العمق الأسطوري، وقد تحقق كل هذا في معظم قصص الكتاب – ارض الحكايا -.
شاكر مجيد سيفو
قراءة: شاعر وكاتب وناقد/ العراق