القمقم الفلسطيني… وثلاثة صواعق للانفجار – عبد اللطيف مهنا
هل الراهن الفلسطيني في الداخل المحتل قد شارف على لحظة انفجار؟ لسنا هنا قيد توقع، ولا ترجيح لاحتمال، بل ازاء مستحق موضوعي تأخر وطرأت مستجدات تحثه وتستعجله. أمامنا حدثان راهنان وثالث منتظر وموشك على الحدوث، وكل واحد من ثلاثتهن كاف لوحده لإشعال فتائل هذا الانفجار، فما بالك وقد اجتمعن، اضف اليهن، التهويد والقمع الاحتلالي الباطش.
الأول: مفاقمة الضغط على قمقم قطاع غزة المحتقن والمحاصر والمُضيَّق عليه لعقد خلا، براً وبحراً وجواً، من قبل العدو والشقيق والسلطة وكل ما يندرج تحت عباءة ما يدعى “المجتمع الدولي”، حيث يُحشر مليونان من البشر في مساحة لا تزيد على 150 ميلاً مربَّعاً، أو ما يعادل معتقلاً كبيراً، تعرَّض لثلاث حروب عدوانية مدمِّرة، ولم يعاد إعمار إلا نزر مما دُمِّر. وباختصار، هو، وحتى بدون الضغط المستجد عليه، مرجل يغلي بما يعتمل في داخله من إحساس بالقهر والظلم والتخلي البارد عنه، بل وتجويعه المتعمَّد ومحاولة تركيعه. إذ تزيد نسبة البطالة فيه عن 60%، وحيث لا عمل ولا دواء ولا ماء نظيف ولا خدمات، زاد توقف محطة الكهرباء الوحيدة بسبب من عدم القدرة على توفير الوقود لها الحال سوءاً أكثر مما هي عليه.
مفاقمة الضغط المتعمَّد على مرجل غزة المضغوط المغلق جاءت عبر قرار حكومة السلطة حسم 30% من رواتب موظفي القطاع البالغ عددهم 58 الفاً، يعيلون مئات الألوف من الأفواه التي يعاني أغلبها املاقاً وعوزاً أصلاً. وحيث أن نصف رواتب هؤلاء تذهب في الغالب للبنوك تسديداً لقروض أكثرها إعادة إعمار بيوتهم التي دمرتها الحرب، فإن حسم ما يقارب ثلث الراتب يعني عملياً أنه يأتي على ثلاثة ارباع الدخل الشهري الفعلي للموظف، والأخطر أن هذه الرواتب تعد المورد المالي الرئيس المحرِّك لعجلة اقتصاد القطاع المحاصرة والمتهالكة، وبذا يمكن لنا تخيل خطورة هكذا قرار تذرَّع آخذيه بنقص في موارد السلطة المالية، في حين أن رواتب الغزيين لا تزد على 12% فقط من موازنة موظفي السلطة، ولم يشمل الحسم موظفيها في الضفة والبالغين ضعف موظفي غزة، كما يتم التلويح بقانون تقاعد مبكِّر لموظفي القطاع، والذي يعني حسم 30% أخرى من الراتب الذي تم حسمه، في حين يتم الإعلان في الضفة عن عمليات توظيف جديدة!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تم رفع ضريبة القيمة المضافة 156% على أسعار الوقود المشغِّل لمحطة الكهرباء الوحيدة في القطاع، الأمر الذي كان كافياً لإيقافها، لأن عوائد الجباية لا تكفي لسداد ثمن الوقود الذي تحتاجه، اضف إليه، توعُّد رئيس السلطة الغزيين ب”اجراءات غير مسبوقة”، بالتوازي مع إشارات حول احتمالات إيقاف للتسهيلات المصرية العشوائية الشحيحة المتعلقة بمعبر رفح، بمعنى إغلاقة…بل حتى نيكولاي ملادينوف…هل سمعتم به؟! وزير خارجية بلغاريا المتصهين الأسبق، ومنِّسق الأمم المتحدة ل”عملية السلام في الشرق الأوسط”، قد ظهر فجأة داخلاً على خط محطة الكهرباء المتوقفة واجداً فيها ما ينسِّقه!
الثاني: هناك اجماع فلسطيني على أن هذه محض إجراءات سياسية، واتُّخذت للضغط على حماس ، وتهدف لإعادة بسط سيطرة السلطة على غزة، وكله مرتبط بما يشيعه الأميركان حول ما يطيب لهم نعته ب”صفقة القرن” التسووية، وبالتالي، فهي تأتي استعداداً للقاء ترامب المنتظر بأبي مازن في الثالث من الشهر القادم، ولوازم التهيئةً لصفقته الغامضة وغير المتضحة المعالم، غير ما تسرِّبه المصادر من اشتراطات غرينبلت مبعوث ترامب مؤخراً، التي تلاها على أبي مازن، لأحياء ما تدعى “عملية التسوية”، ومن بينها العودة للمفاوضات دون شروط مسبقة، أي وفق الشرط العتيد لنتنياهو، بمعنى تجاوز شرط وقف التهويد، والقبول بحضور عربي كانت رام الله ترفضه باعتباره وسيلة ضغط عليها، ورفع مستوى التنسيق الأمني مع الاحتلال، ومنع التحريض عليه، وقطع رواتب أسر الشهداء والأسرى، وصولاً إلى تدجين غزة وإخضاعها، وكله، حتى الآن، فاتورة إبداء حسن نوايا تسووية قد تصرف ترامبوياً…وأخيراً هناك من يرد “مجزرة الرواتب” من قبل حكومة “الوفاق الوطني”، التي تقول إنها ليست “حكومة صرَّاف آلي”، لاستجابتها لطلب المانحين كخطوة باتجاه ترسيخ الفصل بين الضفة والقطاع كمطلب احتلالي دائم.
الثالث: هو اضراب الأسرى الذي اربك المحتلين وأقلقهم من احتمالات تحريكه لبراكين الغضب الشعبي الفلسطيني الكامنة التي لا يكتمون خشيتهم من تحريكها ويحذِّر منه معلقوهم عبر وسائل إعلامهم، لما للأسرى من تأثير كبير على الشارع الفلسطيني، هذا الذي ينظر عادةً لشهدائه وأسراه على أنهم قيادات نضاله الوحيدين الذين لا من خلاف معهم ولا عليهم، وهو الإضراب الأوسع والمجمع عليه خلف القضبان، والذي يرى المحتلون أنه يشكل رافداً ورديفاً لانتفاضة الفدائيين، ومحركاً للشارع يتحسبون أيما تحسب لرجع صداه في ساحة حبلى بعوامل الاتقاد.
الضغط على قمقم غزة الذي يعتمل أصلاً بكل دواعي ومحفزات الانفجار، والأوهام التصفوية التي انتعشت واستيقظت على دوي فقاعة “صفقة القرن” الترامبوية، وإضراب الأسرى، ثلاث فتائل، بل صواعق، كل واحد منها، إلى جانب البطش الاحتلالي والتهويد الزاحف، كافٍ لوحده لإشعال الانفجار الذي تأخر ويبدو الآن أن هناك من المستجدات ما يستعجلنه.