اللغة الشعريّة في قصيدة “أقِمْ مِحْرَقَةَ أَقْمَارِكَ بِأَدْغَالِ مَائِي” للشاعرة آمال عوّاد رضوان
بقلم: عبد المجيد جابر اطميزه
أولا: النصّ
غَبَشَ شَهْقَةٍ
سَحَّها أَرِيجُ اللَّيْلِ عَلَى شَلاَّلِ غِيَابِكَ
فَاضَتْ شَجَنًا خَرِيفِيًّا عَلَى مَرْمَى وَطَنِي
هَا الْمَوْتُ
كَمْ تَاهَ فِي نَقْشِ مَجْهُولٍ
كَمْ هَدْهَدَتْهُ هَمَسَاتُ فُصُولِكَ
وَبِسِكِّينِ وَهْمِهِ الْمَاضِي
كَمْ قَصْقَصَ حِبَالَ ضَبَابِكَ!
يَااااااااااااه
كَمْ رَاوَغَهُ هَمْسُ تَأَوُّهِكَ:
أَقِمْ مِحْرَقَةَ أَقْمَارِكَ بِأَدْغَالِ مَائِي
بِرُفَاتِ طَيْفِي الْمَسْلُوبِ
وَتَبَدَّدْ بِفَرَاشِي الأَزَلِيِّ!
حَبِيبَتِي / قَمَرِيَّةَ الرُّوحِ
حَيْثُنِي أَنْتِهِ وَلاَ أَنْتَهِي
بُعْدُكِ الأَشْعَثُ.. تَنَكَّرَ لِصَدَى مِلْحِي
قَوَّسَ حِبْرِيَ بِعَتْمٍ.. يَحْتَدِمُ بِمَرِّ فَرَاغِكِ
قَوِّمِي كَبْوَةَ فَجْرٍ.. يَلْهَجُ بِفَوَانِيسِ الْوَفَاءِ !
يَا انْحِنَاءَةَ نَبْضٍ مَبْتُورٍ
يَدْرُجُ عَلَى غَفْوَةِ شَوَاطِئِي
زَغْرِدِينِي دَمْعَةَ عِنَاقٍ يُهَلْوِسُنِي
يَفِيــــــــــــــــــــضُنِي
ويَطْوِينِي بَحْرًا ظَامِئًا
فِي عَيْنَيْكِ اللَّيْلاَوَيْنِ!
بِتُقَى جَنَّةٍ مُقَمَّشَةٍ.. سَلْسِبِلِينِي
عِطْرِي الـْ غَامَ ضَوْؤُهُ فِي بَيَاضِ مَآتِمِي
زُفِّيهِ دَمْعَةً.. / زُفِّينِي شَمْعَةً..
وَفَرْدِسِي نَوَارِسَ اشْتِعَالِي الْمُقَدَّسِ
بِنَوَاقِيسِ صَوَامِعِكِ!
أَيَا دَرْوِيشُ
ضِحْكَةُ مَوْتٍ.. تَسَلَّلَ دُجَاهَا الْمُغْبَرُّ
إِلَى نُخَاعِ عَصَافِيرِ رُوحِكَ تَكْتُمُهَا
وَمَا ارْتَحَلْتَ
ارْتَجَّ الْمَوْتُ.. تَزَلْزَلَ ظِلُّهُ
حِينَ زَلّتْ قَدَمُهُ .. بِدَمْعَتِكَ الْبَحْرِيَّةِ
حِينَ عَلَوْتَ بِمَرْكَبَتِكَ النَّارِيَّةِ فَارًّا مِنْ قَبْضَتِهِ
تَدْحَضُ ضَبَابَ الْمَوْتِ.. بضَوْءِ حِبْرِكَ الْعَاشِقِ!
هَا الْكَرْمِلُ غَامَ فِي دُوَارِ صَيْحَةٍ:
يَا الْمُسْتَحِيلُ تَمَهَّلْ
دَرْوِيشُ بحَّةُ وَطَنٍ .. جَاوَزَتْ أَنْفَاسَ النُّوَاحِ
لاَ تُبِحْ فَيْضَ سَنَابِلِهِ.. فِي مَهَبِّ غَفْوَةٍ
لاَ تُثَرْثِرْ غِمَارَ حَصَادِهِ الْهَائِمِ
عَلَى حُفَرِ الرَّحِيلِ!
بَحْرُ حَيْفَا
جَاشَ موْجُهُ .. فِي مَآقِي الدَّوَاةِ غَيْمًا
لاَ يَرْدمُهُ لَظَى حُرْقَةٍ!
صَهِيلُ الدّمْعِ.. هَيَّجَهُ دَرْوِيشُ
وَذَابِلاً .. تَوَسَّدَ ذِكْرَاهُ
فَرَّ مِنْ نَوَافِيرِ الرِّيحِ.. نُعَاسَ وَجَعٍ
وتَرَنَّحَ .. عَلَى شِفَاهٍ غَائِرَةٍ
وناحت:
بِرَحِيقِ ظِلِّكَ الدَّرْوِيشيِّ
لَمْلَمَتْهُ حَقَائِبُ مَسَافَاتٍ لاَ تَؤُوبُ
وَتَوَارَيْتَ غَمَامَاتٍ مُسْرَجَةٍ .. فِي ثُقُوبِ الدُّمُوعِ!
هُوَ الأَسِيرُ الْحُرُّ .. فِي الْوَقْتِ الصِّفْرِ!
فَقِيدُ سِجْنِ حَيَاةٍ أُسْطُورِيَّةِ الْوَجَعِ!
وَلِيدُ حُرِّيَّةٍ هُو.. تَنْبضُهُ خُلُودًا أَخْضَرَ
يَا الْمُغْرِقُ فِي حُضُورِكَ الْبَهِيجِ أَبَدًا
وَإِنْ وَارَتْكَ لَحْظَةٌ كَفِيفَةٌ بَيْنَ جَفنّيّهَا
فَأَنْتَ الْعَابِرُ مِنَّا إِلَيْهَا شُعَاعًا
وَعَائِدٌ مِنْهَا إِلَيْنَا شَمْسًا
لاَ يَحْجُبُهَا غِرْبَالُ غِيَاب!
بِشَفَقِكَ الدَّرْوِيشِيِّ
أَسْمَعُ وَقْعَ خُطَى صَوْتِكَ
يَمْلأُ كَفَّيَّ بِكُلِّكَ
بِبَسْمَةِ حَرْفِكَ الْمَصْلُوبِ عَلَى دَمْعَةٍ؛
تَمْتَشِقُ حُلْمًا .. لاَ يَنْطَفِئُ
وَإِنْ .. بَاغَتَتْهُ رِيحُ الْمَوْتِ!
صَبَاحُنَا..
لَيْسَ مَحْمُودًا كَكُلِّ الصَّبَاحَاتِ
صَبَاحٌ.. يَطْفَحُ بِعَطَشٍ دَرْوِيشِيٍّ
وَشَّحَتْهُ أَسْرَابُ حُزْنٍ مَفْقُوءَةِ الْعُيُونِ
تُكَفِّنُكَ بِبَلَلِ صَفِيرِ نَشِيجِهَا
بِشِفَاهٍ حَارَّةٍ
لاَمَسَتْ كُؤُوسَ دَمْعٍ كَوْنِيٍّ!
نَعْشُ رِيحِكَ
تَنَاثَرَتْهُ مُدُنُ الْغُرْبَةِ
وَمَا اتَّسَعَتْ لِوَجَعِكَ/ نَا
كُلُّ أَضْرِحَةِ الإِنْسَانِيَّةِ!!
ثانياً: التحليل الأدبيّ
العنوان: “أقِمْ مِحْرَقَةَ أَقْمَارِكَ بِأَدْغَالِ مَائِي”: مُكوّنٌ مِن فعل أمر “أقِمْ”، وفاعل ومفعول به “مِحْرَقَةَ أَقْمَارِكَ”، وشبه جملة “بِأَدْغَالِ مَائِي”.
العنوانُ أسطوريّ، فجبلُ الكرمل يُعتبرُ أحدَ أكثر الأماكن قداسةً في المنطقة، فهو في الدرجةِ الأولى، جزءٌ من البلاد المُقدّسة الّتي مرّت فيها وعاشت غالبيّة الأنبياء، والّتي نادت بالديانات السماويّة المعروفة، بالإضافة إلى ذلك، يحتوي على أماكنَ مقدّسة ومواقعَ عاش فيها أنبياءٌ ورسُلٌ وأولياء، وفي مقدّمة الأنبياء الذين كان لهم “حضور” في الكرمل، نبيّ الله الخضر عليه السلام، الّذي واجهَ أنبياءَ البعل في القسم الشرقيّ من الكرمل، في موقع دير المحرقة اليوم، وهناك وقعت المعجزة، حيث طلبَ سيّدنا الخضر عليه السلام من أنبياء البعل أن يُشعلوا النّار في قرابينهم بواسطة صلوات آلهتهم، لكن النار لم تشتعل، وعندما جاء دورُه، صلّى فاشتعلت النّار في ثوان. لكن عبدة البعل لم يقتنعوا، وجرَت معركةٌ انتصرَ فيها سيّدنا الخضر عليه السلام. وأقيم في النصّف الثاني من القرن التاسع عشر دير المحرقة لذكرى هذه المعجزة. في تلك الفترة جاءتْ مجموعاتٌ دينيّة ألمانيّة، وبنَت الدير الكبير في رأس الكرمل، في المكان الّذي يُشْرفُ على البحر المتوسط في نهاية شارع ستيلا مارس، وذلك تخليدًا لذكرى نبيّ الله الخضر عليه السلام، الّذي عاش في المغارة المُشرفة على البحر جنوبيّ حيفا، والتي ما زالت قائمة حتّى اليوم، وبُني فوقها مزار ما زال مفتوحا.(1)
وهنا يتردّد صوتان أساسيّان في القصيدة: صوت حيفا والبلاد ترثي درويش، وصوت درويش الحيّ يَردّ، وهناك صوت ثالث لكنّه صامت، وهو صوت الموت.
الشاعرة تعشق حضور درويش الشعريّ وبموضوعيّة بحتة، وكأنّي بالشّاعرة ليلة سفره للعلاج وهو عاشق للحياة تُصلّي لأجله وتبكيه، وقد انبثقت القصيدة بحُرقةٍ مخذولة مرّةً واحدة، لحظة الإعلان عن وفاته في فصل الخريف الموافق 9-8-2008، وقبل أن يعيدوه للبلاد وللدفن، وهي ليست قصيدة رثاء بمعنى الرثاء، لأنّه لم يسبق للشاعرة أن رثت، ولأنّ درويش أحبّ حيفا كعشق الشاعرة لها، وبشكل خاصّ غابات وأدغال الكرمل بعليائه الشامخ المُطلّ على البحر، وكلاهما أحبّ البحرَ وشواطئَه وهواءَه، وهذه الطبيعة أحبّت كليهما، إذ كانت مَهربَهُ وملقاه بأحبّائه وأصدقائه الأدباء، لذلك صرخ درويش صرخته الأخيرة في وجه الموت، بكامل جبروته ودون تردّد أو خوف قائلًا: أنا لست أخشاك، هيّا “أقِمْ مِحْرَقَةَ أَقْمَارِكَ بِأَدْغَالِ مَائِي”! أقمارك الصناعيّة الراصدة لروحي والتي لا تنطفئ عن محاولاتها؟ وهل للماء أن يحترق؟ مفارقة بالغة في جمع النار والماء معًا وفي آن واحد، بمعنى أقِمِ أقمارك على صفحة مياهي وفي عمق أمواج بحري، واجعلها تشتعل داغلة بأوارها.
والمعنى الدلاليّ للعنوان أنّ موت الشاعر المعروف محمود درويش بمثابة حدَث جلل، كما أن مولده أيضًا حدث عظيم، تمامًا كمواجهة النبيّ الخضر لأنبياء البعل في الكرمل وحصول المحرقة، وقد وُفّقت الشاعرة في اختيارها للعنوان، ويُعدّ العنوان مرسلة لغويّةً تتّصلُ لحظة ميلادها بحبل سِرّيذ يربطها بالنصّ لحظة الكتابة والقراءة معًا، فتكون للنصّ بمثابة الرأس للجسد، نظرًا لِما يتمتّع به العنوان من خصائص تعبيريّة وجماليّة، كبساطة العبارة وكثافة الدلالة وأخرى إستراتيجيّة، إذ يحتلّ الصدارة في الفضاء النصّيّ للعمل الأدبيّ«(2).
وقد يتساءل متسائلٌ: هل العنوان “أقِم محرقةَ أقمارِكَ بأدغالِ مائي” هو استشرافٌ لحريق غابات الكرمل الهائل بتاريخ 2-12-2010، والذي امتدّ أيّامًا بجنونه بعد وفاة درويش، ولم تسعفه مياه البحر ولا النّجدات العالميّة، فأكلت نيرانه أكثر من خمسة آلاف دونم، و44 حارسًا من حرّاس سجن الدامون المحاذي؟
وفي كلمات العنوان نستشفّ هوْلَ الحدث من خلال وقع الألفاظ، ولنقفْ قليلًا عند كلّ كلمة من كلماته: “أقِمْ مِحْرَقَةَ أَقْمَارِكَ بِأَدْغَالِ مَائِي”: فالفعل “أقم” و”قام” يشتقّ منهما القيامة، ويوم القيامة يومٌ مَهول، والمصدر الميميّ “محرقة” مشتقّ من الفعل “حرق”، وفي الحرق تهويلٌ وتخويف، و”أقمار” جمع قلّة لـ “قمر”، والقمر سموٌّ وفي السموّ مكانةُ رفعةٍ لا تتأتّى إلّا بالقوّة، و”أدغال” جمع “دغل” وجاء في معجم الصحاح والدَغَلُ أيضًا: الشجرُ الكثيرُ المُلتفُّ، وقد أَدْغَلَتِ الأرضُ إدْغَالاً. والدَواغِلُ: الدّواهي.. و”أَدْغَالِ مَائِي” رمزٌ لبحر حيفا الصاخب، وكلّها ألفاظٌ تحمل في طيّاتها الوقعَ الشديد، كوقع موت الشاعر محمود درويش على النفوس، وتريد الشاعرة أن تتحوّل مأساة موت الشاعر الكبير لانتصار مُدَوٍّ في جبل الكرمل، بما خلًّفه وراءه من إرث حضاريّ.
وقد اعتنى علماء السيمياء عنايةً خاصّة بالعنوان، فيعتبر “نظامًا سيميائيًّا ذا أبعاد دلاليّة وأخرى رمزيّة، تُغري الباحثَ بتتبّع دلالاته ومحاولة فكّ شفرته الرامزة.” (3) “وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النصّ، وتُسمّيه وتُميّزه عن غيره، وهو كذلك من العناصر المجاورة والمحيطة بالنصّ الرئيس، إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدّمات والمقتبسات والأدلّة الأيقونيّة.” (4). ويكون العنوان دومًا “نصًّا مُختزَلًا ومُكثّفًا ومُختصَرا. (5)
موضوع القصيدة: رثاء الشاعر محمود درويش. تقول الشاعرة في مستهلّ نصّها: غَبَشُ شَهْقَةٍ/ سَحَّها أَرِيجُ اللَّيْلِ عَلَى شَلاَّلِ غِيَابِكَ/ فَاضَتْ شَجَنًا خَرِيفِيًّا عَلَى مَرْمَى وَطَنِي/ هَا الْمَوْتُ/ كَمْ تَاهَ فِي نَقْشِ مَجْهُولٍ/ كَمْ هَدْهَدَتْهُ هَمَسَاتُ فُصُولِكَ/ وَبِسِكِّينِ وَهْمِهِ الْمَاضِي/ كَمْ قَصْقَصَ حِبَالَ ضَبَابِكَ!
غَبَشُ شَهْقَةٍ: ومعنى “الغبش” بقيّةُ الليل وظلمةُ آخره، كنايةً عن ظلمة الليل ووحشته بفقدنا للشاعر الراحل محمود درويش، وهذه تجربة جديدة تُدشّنُها الشاعرة آمال عوّاد رضوان بقصيدة رثاء لشاعر كبير، تستثمر فيها قصيدة النثر وتقنيّاتها العديدة؛ لتمحو من ذاكرتها رحيله المُفجع، وفقْدَنا لقلمه الشاعريّ العذب، وهذه تجربة جديدة فعلًا، لأنّها تقاطع قصيدة الرثاء العربيّة بموسيقاها وصُورها ومجازاتها التي تندب وترثي وتُعدّدُ مناقبَ المُتوفّى، حين يكون صوت الشاعرة حاضرًا، وهي تتفجّع على الميت وتتأسّى وتبكي. وفي السطر انزياحٌ إضافيّ، “فالمُتلقّي عندما يسمع كلمة “غبش” يتوقّع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “ليلة” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “شَهْقَةٍ”، وهذا الانزياح يُولّدُ الإثارة في نفسه، وهو من جماليّات الانزياح بمختلف أشكاله، وذلك بخلخلة بُنية التوقّعات، ممّا يُكسبُ النصّ توتّرًا وعُمقًا دلاليّا خاصًّا، فقد تفجّر المُركَّب بالشعريّة باعتباره نقطة التحوّل ومنبع اللذّة.
سَحَّها أَرِيجُ اللَّيْلِ عَلَى شَلاَّلِ غِيَابِكَ: كناية عن فجيعة الرحيل، فالليل رمز للبؤس والتيه والضياع والتخبّط بفقد العزيز، وتتوالى الانزياحات الدلاليّة، فالأريج يسحّ كما تسحّ السماء المطر، وللّيلِ أريجٌ كما البرتقال، وللغياب شلّال.
فَاضَتْ شَجَنًا خَرِيفِيًّا عَلَى مَرْمَى وَطَنِي: كناية عن الحزن الكبير الذي لفّ فلسطين في فصل الخريف بفقد شاعرها الكبير. فها هي الشهقة تفيضُ شجنًا وحُزنًا على الفقيد، وللشجن مذاقٌ خريفيّ يفيض كما الماء.
هَا الْمَوْتُ: ها الموت؛ أي هذا الموت.
كَمْ تَاهَ فِي نَقْشِ مَجْهُولٍ: وفي قولها “نَقْشِ مَجْهُولٍ” انزياح دلاليّ.
كَمْ هَدْهَدَتْهُ هَمَسَاتُ فُصُولِكَ: وفي السطر انزياحان إضافيّان، فالهمساتُ تهدهد كما المرأة تهدهد وليدها، وللفصول همسات. صورٌ فنّيّة مُشرقة توسّعت الشاعرة في بسْطِها، وأصبحت تشمل على كلّ الأدوات التي تستخدم للتعبير من عِلم بيان وبديع ومعانٍ وسردٍ، فطوّعتها لتصبح شكلًا فنّيّا، مُستخدِمةً طاقاتِ اللغة من ألفاظٍ وعباراتٍ وإيقاعات، وتراكيبَ ودلالاتٍ ومقابلاتٍ وتضادٍّ وترادُفٍ، ممّا جعلها تخرُجُ من نطاق الجانب البلاغيّ، إلى عالم الشعور والوجدان والتعابير الحسّيّة؛ حيث أصبح مفهومها لا يقتصر على الجانب البلاغيّ فقط، بل توسّع وشمول جوانب أخرى كالتجسيد.
وَبِسِكِّينِ وَهْمِهِ الْمَاضِي: ولِوَهْم الموت سكين عند الشاعرة الذي حاول مرّات كثيرة أن يقطع أنفاس درويش! صورةٌ فنّيّة مُشرقة، “فالصورة الشعريّة وسيلةُ الشعر الأولى التي يمتاز بها، فالأفكار والمعاني موجودة في الفلسفة وأجناس الأدب الأخرى التي من الممكن أن تستعين بالصور، ولكن تظلّ الصورة الشعريّة هي المجال للتعبير الشعريّ المُتقن، ولكن الصورة لدى كتّاب قصائد النثر ونتيجة لتبنيهم الاتّجاه السرياليّ، أصبحت في مُجملِها لا ترسم لوحةً جماليّة، ولا تعكس دلالة فنّيّة مثلما نرى في الشعر العربيّ الحديث، “ذلك أنّها مُكوّنة من عناصر بعيدةٍ لا انسجامَ بينها، أُكرهت على النزول في غير موضعها.” (6)
و”قد أدركت نازك أنّ تطوّر اللغة وحياتها إنَّما ينبع من حياة الشاعر وتجربته وليس من الكلمات ذاتها، فالشاعر قادر من خلال إحساسه الجديد بالمفردات وتجربته في الحياة، أن يعطي لها دلالات شعريّة من خلال توظيفها في سياقٍ جديد. الشعر ليس صناعة بل تجربة، والشاعر يستطيع أن يُقدّمَ للّغةِ ما يعجز النُّحاةُ عنه. إنّه قادرٌ على إحياء الألفاظ بفضل حسّهِ المرهف واطّلاعه على الأدب القديم والحديث العربيّ والأجنبيّ، ويستطيع أن يضيفَ لونًا إلى كلمة ويصنع تعبيرًا جديدًا وإن خرق قاعدة استطاع أن يخلق البديل ليصبح ما أبدعه قاعدة جديدة(7).
كَمْ قَصْقَصَ حِبَالَ ضَبَابِكَ!: كناية عن أنّ الموت حاول مرّات عديدةً التقرُّب من درويش وفشل، وتُكرّر الشاعرة هنا “كم” التكثيريّة، وتكرار حرف بعينه في الكلام يعطي الألفاظ التي ترد فيها تلك الحروف أبعادًا، تكشف عن حالة الشاعرة النفسيّة، وهذا التكرار يعمل على تعميق دلالة الألفاظ وإكسابها قوّة تأثيريّة، فالوَهْم الماضي كثيرًا ما قصقص حبال الضباب، فلِلوَهْم سكّينٌ يُقصقص، وللضّباب حبالٌ تُقَصقَص.
وتستمر الشاعرة في شدوها الحزين: يَااااااااااااه/ كَمْ رَاوَغَهُ هَمْسُ تَأَوُّهِكَ:/ أَقِمْ مِحْرَقَةَ أَقْمَارِكَ/ بِرُفَاتِ طَيْفِي الْمَسْلُوبِ/ وَتَبَدَّدْ بِفَرَاشِي الأَزَلِيِّ!
يَااااااااااااه: ويحصل التنغيم في نطق هذه اللفظة المتمثّلة في زيادة زمن نطق الصائت “الألف الطويلة”، وهي عاملٌ مُهمٌّ في أداء المعنى، وتتوقّف النغمة على عدد ذبذبات الأوتار الصوتيّة في الثانية، وهذا العدد يعتمد على درجة توتّر الأوتار الصوتيّة، وللنّغمة أربعة مستويات، ومستواها هنا من نوع النغمة فوق العالية، والتي تأتي مع الانفعال والتعجّب أو الأمر. ومعنى “ياه” الكائن بذاته والأبديّ، وقد تأثرت الشاعرة بالكتاب المقدس: (مز 68: 4)، وهذا تناصّ دينيّ، “فالكتب السماويّة وغيرها من المصادر الدينيّة تُعَدُّ من أهمّ روافد القصيدة الحديثة من ناحيتي الشكل والمضمون، لما تمتاز به من خصوبة في هذين الجانبيْن. وشاعرتنا استندت إلى مصادرَ وجوانبَ متفرّقةٍ من تلك المصادر، بحيث أثّرت في شعرها فنّيّا ومضمونًا.
بِرُفَاتِ طَيْفِي الْمَسْلُوبِ: والطلب هنا أن تتمّ محرقة في جبل الكرمل بموت الشاعر الكبير، لتبرز الحقّ والعدل، فللطّيفِ المسلوب رفات تُسلب.
هَا الْمَوْتُ: ها الموت؛ أي هذا الموت.
وَتَبَدَّدْ بِفَرَاشِي الأَزَلِيِّ!: ولتكن المحرقة أبديّة محفوظة على طول المدى، وفي عبارة “بِفَرَاشِي الأَزَلِيِّ” انزياح دلاليّ يثير مكامن إثارة المُتلقّي.
وتستمر الشاعرة قائلة: حَبِيبَتِي/ قَمَرِيَّةَ الرُّوحِ/ حَيْثُنِي أَنْتِهِ وَلاَ أَنْتَهِي/ بُعْدُكِ الأَشْعَثُ تَنَكَّرَ لِصَدَى مِلْحِي/ قَوَّسَ حِبْرِيَ بِعَتْمٍ.. يَحْتَدِمُ بِمَرِّ فَرَاغِكِ/ قَوِّمِي كَبْوَةَ فَجْرٍ.. يَلْهَجُ بِفَوَانِيسِ الْوَفَاءِ!/ يَا انْحِنَاءَةَ نَبْضٍ مَبْتُورٍ/ يَدْرُجُ عَلَى غَفْوَةِ شَوَاطِئِي/ زَغْرِدِينِي دَمْعَةَ عِنَاقٍ يُهَلْوِسُنِي/ يَفِيــــــــــــــــــــضُنِي/ ويَطْوِينِي بَحْرًا ظَامِئًا/ فِي عَيْنَيْكِ اللَّيْلاَوَيْنِ!
حَبِيبَتِي قَمَرِيَّةَ الرُّوحِ: وتنتقل الشاعرة للأسلوب الخبريّ مخاطبة الوطن المسلوب، والحبيبة رمز للوطن، والنداء يفيد التحبُّب والتقرُّب، وفي السطر استعارة تنافريّة، وهي صورة بلاغيّة تقوم على الجمع بين متنافريّن لا علاقة جامعة بينهما؛ لخلق منظومة شعريّة ذات دلالة ومغزى يحقّق الملاءمة الإسناديّة للموصوفات، كأنْ تسند الألوان أو الصفات إلى موصوفاتها، فليس للروح لون، لكن الشاعرة جمعت بين الروح واللون القَمريّ الذي يسطع في روابي وجبال الكرمل؛ وبهذه الاستعارة حقّقت الشاعرة التنافر المطلوب والابتداع الشعريّ التخيّليّ البحت، وهذه المفارقة هي من صنعت الشعريّة المطلوبة من هذه الجملة، وكأنّي بصوت درويش يخاطب حيفاه ومُطمْئِنًا بلادَه مِن أمريكا البعيدة عند إجراء العمليّة، راثيا روحه التي فاضت في البُعد الجريح عند الفجر. قمريّة الروح وصدى مِلحي: هي نور آماله في الليالي الحالكة، تعود بنا إلى آيات الإنجيل حين قال السيد المسيح لتلاميذه المبشرين برسالة الإنسانيّة الأمميّة (متى5: 13-14): اِذهبوا وتلمذوا الأمم، فأنتم ملحُ الأرض وأنتم نورُ العالم، وهُما استعارتان ورمزان مُهمّان في الرسالة، ودرويش أيضًا حمَلَ رسالةً شعريّة إنسانيّة نورانيّة إصلاحيّة ليست تغشاها الظلمات، كالملح الذي لا يفسد.
“حَيْثُنِي أَنْتِهِ وَلاَ أَنْتَهِي”: كنايةً عن توحّد روح الشاعر بحيفا وببلده، وقد أضافت الشاعرة إلى “حيث” نون الوقاية وياء المتكلم في كلمة “حَيْثُنِي”، وفي جملة “أَنْتِهِ”؛ أي “أنتِ هيَ”، وصّلَت الكلمتيْن معًا وحذفت هاء “هي”، لإحداث الجناس ولخلق إيقاعٍ يجري في نبض القصيدة، و”الشعر له لغته الخاصّة به، وإنّ الحكمَ على لغة الشعر ينبغي أن ينبثقَ من إدراكٍ لطبيعة هذه اللغة، دونما تحكيمٍ لمعايير لغة الكلام العاديّ، لأنّ مثل هذا الحكم يؤدّي إلى أن تفقد اللغة الشعريّة كثيرًا من سِماتها(8)، فلغة الكلام اليوميّ تهدف فيما تهدف إليه الإفهامَ والتوصيل، ولا تَستخدمُ من عناصر النظام اللغويّ إلّا القدْرَ الضروريَّ الذي يُحقّقُ لها هدفها، في حين إنّ اللغة في الآداب تتجاوز تلك المُهمّة إلى تحقيق مواصفات جماليّة. (9)، والشاعر في النصّ الشعريّ “لا يُدمّرُ اللغة العاديّة إلّا لكي يعيدَ بناءَها على مستوًى أعلى، فعقبَ فكِّ البنية الذي يقوم به الشكل البلاغيّ، تحدُثُ عمليّةُ إعادة بنيةٍ أخرى في نظام جديد.(10)
لقد “قَرَّ في النقد الأدبيّ، منذ أن أبرز الشكليّون الرّوس الفروقَ الجوهريّة بين لغتي النثر والشعر، أنّ هذه اللغة الثانية لغة الشعر تتشكَّل على السطح الأملس المُحايد للغة النثر، وتُمارس فوقه تنظيم نسيجها ورسومها وخواصّها التعبيريّة والتصويريّة المُتميّزة. ومنذ أن طرح هؤلاء الشكليّون مفهوم الانتظام بوصفه خصيصة أساسيّة لِلُغَة الشعر، ثمّ طوّر “رومان ياكوبسن” مفهومَ الأنساق باعتباره أوّلًا: خصيصة للغة الشعر، وثانيًا: الآليّة الرئيسيّة لخلق ما سمّاه “ريان موكار وفسكي”: التأريض الأمامي Foregrounding، حاولت دراسات متعدّدة اكتناه التجلّيات المختلفة المُحتملة للأنساق، وقد جَسَّد المُحْدِثون هذه المفاهيم والفروق التي تُمَيِّز لغة الشعر بمصطلح الانحراف الذي يعني أنّ شعريّة اللغة تقتضي خروجَها الفاضحَ على العُرف النثريّ المعتاد، وكسر قواعد الأداء المألوفة لابتداع وسائلها الخاصّة في التعبير، عمَّا لا يستطيع النثر تحقيقه من قيم جماليّة(11).
“إنّ قصيدة النثر عبارة عن قالب شعريّ، عُرف في الأدب العربيّ الحديث منذ منتصف القرن العشرين، وهذا النوع من الشعر متحرّرٌ كلّيًّا من الوزن والقافية التقليديّيْن، ويتبنّى نوعًا من الأخيلة الشعريّة المعتمدة على صياغات لغويّة مستحدثة، لا تعبّر عن مدلولات محدّدة، وإنما تتّخذ أسلوبًا ومضمونًا يشيع جوًا من الغموض ذي الأفكار المبتدعة.
وكان أوّل من حمل لواء هذه الصيغة من الشعر جماعةُ مجلة “شعر” في بيروت عام 1957. ومن أفرادها أدونيس، ويوسف الخال، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج وتوفيق صايغ. لقد كانت قصيدة النثر في بداياتها صدى لشكل أدبيّ رسمه وأشاعه عددٌ من الشعراء المعروفين في الأدب العربيّ الحديث منذ أوائل القرن العشرين، وعُرف باسم “الشعر المنثور”، وقد تميّز هذا الشعر بالغموض المعتدل، والرهافة الأسلوبيّة، والتأمّلات الروحيّة الوجدانيّة الرومانسيّة، ومع ذلك لم يعتبره أصحابه بأنّه شعرٌ ذو طابعٍ معتمد. وانطلاقًا من هذه المفاهيم، يمكن القول إن كتابة قصيدة النثر حالةٌ شعريّة ذاتُ خصوصيّة، يتوجّب على كاتبها أن يبتكر لغة وصورة، وأن يبتعد عن كلّ ما هو مألوف. والواقع أنّ المشكلة في الشعر المنثور ليست في قصيدة النثر أو قصيدة التفعيلة أو القصيدة التقليديّة، وإنّما هي في الجيّد والرديء مَهْما كان نوع وشكل هذا الشعر، وبالتالي فإنّ الشعرَ الجيّد ليس مقصورًا على القديم، وليس الحديث بعيدًا عن الجمال والجودة، فهناك الجيّد والرديء في القديم والحديث، حيث إنّ قيمة الأدب والشعر في الإبداع، سواءً أكان هذا النوع أم ذاك من القصيدة الكلاسيكيّة التقليديّة أم قصيدة التفعيلة أم قصيدة النثر. إنَّ أهمّ ما يُميّز قصيدة النثر هو الإيجاز والتكثيف، وهذا لا يعني قصر القصيدة، فقد تكون طويلة أو قصيرة، ولكن المُهمّ فيها هو أسلوب الإيجاز والتكثيف اللغويّ في التعبير.(12)\
بُعْدُكِ الأَشْعَثُ تَنَكَّرَ لِصَدَى مِلْحِي: ويبرز هنا صوت درويش مُخاطبًا بلاده حين غادرها للعلاج، فيرى أنّ بعدَه عن بلده بُعدٌ أغبرُ وأشعثُ قد تنكًر للشاعر، والسطر كناية عن أنّ بُعد الشاعر عن موطنه قد أفسد طعم حياته، فالبعد أشعث ويتنكر لصدى ملح الشاعر، صورٌ فنّيّة متتابعة.
قَوَّسَ حِبْرِيَ بِعَتْمٍ.. يَحْتَدِمُ بِمَرِّ فَرَاغِكِ: ويظهر صوت درويش مُخاطِبًا بلاده متسائلًا: هل متّ وانتهيت وشعري، وانحنى وتقوّس قلمي في عتم اللحد والتغييب؟ كناية عن الأسى واللوعة اللّتيْن رافقتا مرض الشاعر محمود درويش. وهنا مجموعةٌ من الانزياحات المثيرة للدّهشة تتوالى، فللحبر قوس يحتدم، وللمرارات فراغ.
قَوِّمِي كَبْوَةَ فَجْرٍ.. يَلْهَجُ بِفَوَانِيسِ الْوَفَاءِ!: ويوصي درويش بلادَهُ بالوفاء له ولشعره كما كان لها وفيّا، وألّا تفقدَ الأمل بفجرٍ آتٍ وإن كان مُعوَجّا، وأن تسعى إلى تقويمه بإيمان ووفاء، والشاعرة تنتقل للأسلوب الإنشائيّ والأمر يفيد التمنّي، فتتمنّى الشاعرة على لسان درويش أن تُخلِص الأمة للشاعر ولوفائه لها، وأن تفوق الأمّة من كبوتها وينتشر الوفاء ومعانيه خلال نسيج الأمّة الاجتماعيّ المتهتّك.
يَا انْحِنَاءَةَ نَبْضٍ مَبْتُورٍ/ يَدْرُجُ عَلَى غَفْوَةِ شَوَاطِئِي/ زَغْرِدِينِي دَمْعَةَ عِنَاقٍ يُهَلْوِسُنِي: ويوصي درويش مُخاطبًا بلادَه أن ترعاه في مواراته التراب وحتّى بعد مماته، والنداء هنا يفيد التمنّي بأن ترعى البلاد ذكرى الوفاء للفقيد، وتتوالى الصور الفنّيّة والانزياحات المثيرة لدهشة المُتلقّي: فللنبض انحناءةٌ كما القامة، والنبضُ يُبتَر كما غصن الشجرة، والنبضُ أيضًا يَدرجُ كطفل، وللشاعر شاطئٌ يغفو وينام كما الإنسان، وتُعدّ الصورةُ الشعريّة “المحوري الذي تُبنى عليه القصيدة المعاصرة بأسرها، وتعتبر من ناحية أخرى جزءًا حيويًّا في عمليّة الخلق الفنّيّ.” (13)
“والشعر معنى ومبنى، لا سبق لأحدهما على الآخر، وهما ينتظمان في الصورة الفنّيّة، و”أنّ أهمّ ما يميّز الصورة في الشعر القديم هو التقريريّة والمباشرة والتعميم، وأنّ وظائف الصورة في الشعر الحديث تقوم بمهمَتيْ: التأثير والإيحاء، وفرق بين المفهومين.” (14)
يَفِيــــــــــــــــــــضُنِي: كناية عن أنّ الشاعرةَ تريد لحالة الحزن أن تنقشع وتزول، ليحلّ محلّها الفرح.
ويَطْوِينِي بَحْرًا ظَامِئًا: كناية عن تلهُّف الشاعرة لزوال الأسى والحزن، وفي عبارة “بَحْرًا ظَامِئًا” انزياحٌ يُثير دهشة المُتلقّي ويُشعره باللذة.
ونلحظ في كلمتي”يَفِيــــــــــــــــــــضُنِي” و “يَطْوِينِي”: تكرار كلّ من أصوات الياء الصامتة مرّتيْن، والياء الصائتة أربع مرّات، ولم يأت التكرار هنا عبثًا، “والتكرار أحد الأدوات الفنّيّة الأساسيّة للنصّ، وهو يستعمل في التأليف الموسيقي والرسم والشعر والنثر. والتكرار يحدث تيار التوقع ويساعد في إعطاء وحدة للعمل الفنّيّ، ومن الأدوات التي تبنى على التكرار في الشعر: اللازمة، العنصر المكرر، الجناس الاستهلاليّ، التجانس الصوتيّ والأنماط العروضيّة.” (15).
“وللشعر نَواحٍ عدّةٌ للجَمال أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس الألفاظ، وانسجام توالي المقاطع، وتردُّدِ بعضها بقدر معين، وكلّ هذا ما نسمّيه بموسيقى الشعر(16). وفي هذا المعنى يرى الناقد ريتشاردز “الإيقاع يعتمد كما يعتمد على الوزن الذي هو صورته الخاصّة على التكرار والتوقّع، فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقّعنا، سواء كان ما نتوقّع حدوثه يحدث أو لا يحدث.(17) ونلحظ في الفعليْن السابقيْن أنّهما فعلان مضارعان، لتجسيد المأساة واستمراريّة الأسى والحزن لدى الشاعرة.
فِي عَيْنَيْكِ اللَّيْلاَوَيْنِ!: ويستمرُّ هنا ظهور صوتُ درويش مُخاطِبًا بلادَهُ بشقّيْها وبعينيْها اللّيلاوَيْن السّوداويْن: الضفّة والداخل شقّيْ فلسطين، والسطرُ كنايةً عن الحزن والأسى الذي خيّم على الجليل خاصّة وفلسطين عامّة، والليل رمزٌ للسواد. وتستمرُّ الشاعرة في قصيدتها بصوتِ درويش موصيًا بلادَهُ أن تذكرَهُ في الصلواتِ والصوامعِ ومَحافلِ الخير كشهيد:
بِتُقَى جَنَّةٍ مُقَمَّشَةٍ سَلْسِبِلِينِي/ عِطْرِي الـْ غَامَ ضَوْؤُهُ فِي بَيَاضِ مَآتِمِي/ زُفِّيهِ دَمْعَةً../ زُفِّينِي شَمْعَةً../ وَفَرْدِسِي نَوَارِسَ اشْتِعَالِي الْمُقَدَّسِ/ بِنَوَاقِيسِ صَوَامِعِكِ!/ أَيَا دَرْوِيشُ/ ضِحْكَةُ مَوْتٍ.. تَسَلَّلَ دُجَاهَا الْمُغْبَرِّ/ إلَى نُخَاعِ عَصَافِيرِ رُوحِكَ تَكْتُمُهَا/ وَمَا ارْتَحَلَتَ/ ارْتَجَّ الْمَوْتُ.. تَزَلْزَلَ ظِلُّهُ/ حِينَ زَلّتْ قَدَمُهُ.. بِدَمْعَتِكَ الْبَحْرِيَّةِ/ حِينَ عَلَوْتَ بِمَرْكَبَتِكَ النَّارِيَّةِ فَارًّا مِنْ قَبْضَتِهِ/ تَدْحَضُ ضَبَابَ الْمَوْتِ.. بضَوْءِ حِبْرِكَ الْعَاشِقِ!
بِتُقَى جَنَّةٍ مُقَمَّشَةٍ سَلْسِبِلِينِي: وتشتقُّ الشاعرة الفعل “سَلْسِبِلِينِي” من الاسم “السلسبيل”: كنايةً عمّا تشعر به من غصّةٍ وحزن ، فهي تطلب على لسان الشاعر درويش ومن أرض بلادها زواَل هذه الغصّة من الحلق، وأن تستسيغ الشرابَ. و”السَّلْسَبِيلُ: الشرابُ سهلُ المرورِ في الحلقِ لعذوبته، والجمع: سلاسب وسلاسيب، كما جاء في المعجم الوسيط. وتتوالى الصورُ الشعريّة والانزياحات في هذا السطر، في عباراتِ كلٍّ مِن: “بِتُقَى جَنَّةٍ” و “بِتُقَى جَنَّةٍ مُقَمَّشَةٍ”
عِطْرِي الـْ غَامَ ضَوْؤُهُ فِي بَيَاضِ مَآتِمِي: هنا تتساوى الجُمل، وقد أضافت الشاعرة أل التعريف على الفعل “غام” في قولها “الـْ غَامَ”، والسطر كنايةً عن فقد الشاعرة للبهجة بموت الشاعر. والصور الشعريّة تتعدّد: فللعطر ضوءٌ يُغَيمِّه ويُغطّيه السحابُ، وللمأتم بياضٌ، وهي أيضًا استعارة تنافريّة، فقد قامت الشاعرة بخلق صورة بلاغيّة جمعت فيها بين متنافريّن لا علاقةَ جامعةَ بينهما؛ لخلق منظومةٍ شعريّة ذات دلالة ومغزى، فقد أسندت اللون الأبيض للمأتم، ولا لون للمأتم من ناحية فعليّة، لكن الشاعرة جمعت بين اللون والمأتم؛ وبهذه الاستعارة حقّقت التنافر المطلوب، والابتداع الشعريّ التخيُّليَّ البحت الذي يُحْدث الدهشةَ في ذهن المُتلقّي.
زُفِّيهِ دَمْعَةً../ زُفِّينِي شَمْعَةً..: وتتساوى الجملتان، والأمر في الجملتين يفيد التمنّي.
وَفَرْدِسِي نَوَارِسَ اشْتِعَالِي الْمُقَدَّسِ: ويستمرُّ ظهورُ صوت درويش موصيًا بلادَه بتخليدِ اشتعالاتِهِ الشعريّة، وتشتقّ الشاعرة الفعل “فَرْدِسِي” من الاسم “الفردوس”، والأمر يفيد هنا أيضًا التمنّي، فتتمنّى الشاعرة أن تزول عن روحها الغُمّة والحزن بموت الشاعر الكبير، وأن تتلمسها ظلال سكينة مقدّسة تجلب لروحها السعادة وتُذهِبُ عنها الكآبة والحزن، وتتزاحم الانزياحات الإضافيّة في عبارات كل: “نَوَارِسَ اشْتِعَالِي” و”اشتعالي” و”اشتعالي الْمُقَدَّسِ”، وتلجأ الشاعرة كثيرًا لتحقيق الانزياح، لِما تنتجنه هذه السّمة من شعريّة وجماليّة، وذلك من خلال رصْدِ الظواهر الصوتيّة والتركيبيّة والاستبداليّة التي خرجت على المعيار، وكسرت المألوف في شعْرها، لاستكناهِ شعريّتها في النصّ، وعلينا الوقوف والنظر صوب اللغة الشعريّة وتحليلها في شعرها؛ وذلك بتقصِّي الظواهر الأسلوبيّة التي انزاحت عن المعيار، وأحدثتْ خلخلةً في التركيب.
وتهدف الشاعرة إلى خلق «الشعريّة» في نّصِّها الأدبيّ، حيثُ أنّ هذه السمة تكشفُ عن قدرة المُبدِعِ في استخدام اللغة وطاقاتها، وتوليد دلالاتها، وما تمارسُه من دورٍ إيحائيٍّ يصبُو إليه المبدعُ في وعيِه أو النصّ في لغتِه.
بِنَوَاقِيسِ صَوَامِعِكِ!: وهنا أيضًا انزياحٌ، إضافيّ، فالمُتلقّي عندما يسمع كلمة “نواقيس” يتبادر لذهنه أن تضاف لكلمة مناسبة ككلمة “الكنيسة” مثلًا، لكنه يتفاجأ بإضافتها لكلمة “صوامع” فتحصل المفاجأة في خلد المُتلقّي، وتظهر اللغة الشعريّة في النصّ لخلخلة الشاعرة في مناحي البنية التركيبيّة.
ويظهر صوت حيفا وبلاده تردّ عليه: أَيَا دَرْوِيشُ: الشاعرة تنادي الشاعر محمود درويش على لسان حيفا وبلاده، مُستخدِمةً حرف النداء “أيا”، و”أيا” حرفُ نداء للمنادى البعيد وهو الشاعر الذي أبعده الموت، والنداء يفيد التحبُّب والتقرُّب.
ضِحْكَةُ مَوْتٍ.. تَسَلَّلَ دُجَاهَا الْمُغْبَرُّ: وفي عبارة “ضِحْكَةُ مَوْتٍ” استعارة تنافريّة، وهنا نتساءل وهل للموت ضحكة في الواقع؟ ونقول: نعم، فيحصل مثل هذا في التعبير الشعريّ الخلّاق، كونه يزيح المفردة عن معناها القار بوساطة المجازات والاستعارات وغيرها من أدوات الفعل الشعريّ، و”تُعدّ الاستعارة التنافريّة تقانة من تقانات الكتابة الحداثيّة التي يوظّفها الشعراء لغرض خلق التوازن الداخليّ الذي يفتقدونه خارجيّا، فهي لا تولد من فراغ، وإنّما هي وليدة موقف نفسيّ وثقافيّ. (18)
وتقوم في جزء كبير منها على المفارقة، ونجدها تقرّب المتنافرات، وتجبر أبعد الأشياء عن بعضها على التقارب والترابط في سياق فنّيّ جديد يُثير المتعة والدهشة والجمال. (19) ويهدف الشعراء الحداثيّون في نصوصهم للحصول على “مزج المتناقضات في كيان واحد يعانق في إطاره الشيء نقيضه، ويمتزج به مُستمِدًّا منه بعض خصائصه، ومضيفًا إليه بعضَ سماته، تعبيرًا عن الحالات النفسيّة والأحاسيس الغامضة المُبهمة، التي تتعانق فيها المشاعر المتضادّة وتتفاعل.”(20)
إِلَى نُخَاعِ عَصَافِيرِ رُوحِكَ تَكْتُمُهَا: وتتزاحم الصور الشعريّة في السطر، فللروح عصافير، وللعصافير نخاع، والروح تُكتم، و”إنّ الشعر العذب الذي يشنَّف الأسماع ويُسكر الألباب، ويأخذ بمجامع القلوب، هو الشعر الذي يموج موجًا بالصور الشعريّة الحافلة التي تشكّل نواة القصيدة، فالشاعر المتصرّف في فنون الشعر، والذي يتّسم شعره بدقّة المعاني ولطافةِ التخيّل وملاحة الديباجة، هو الشاعر الذي يدمغ شعره المهفهف في دخائل كلّ نفس، ويوطّد دعائمَ أبياته المطَهّمة العتاق في مدارج كلّ حسّ، والأشعار التي تفتقد لهذه الصور البديعة يتخطّفها الموت ويكتنفها الظلام، ولا يترنّم بها الناس في دروب الحياة ومتعرّجاتها. لأجل ذلك أضحت الصورة الشعريّة هي جوهر الشعر وأساس الحكم عليه، ولقد اهتمّ النقّاد بجانب التصوير منذ قديم الأزل، وقدّموا جهودهم في هذا الصدد، وإن اقتصرت جهودهم على حدود الصور البلاغيّة كالتشبيه والمجاز، ولم تتعدّاها لتشمل الصور: الذهنيّة، النفسيّة، الرمزيّة والبلاغيّة، التي تتبلور وتتناغم في وجدان الشاعر. ولعلّ الحقيقة التي يجب عليّ بسطها هنا، أنّ الصور التي يُعدّها أصحاب الحسّ المرهف أغلى من أقبية الديباج المخوص بالذهب ليست قاصرة على الشعر، بل نجدها منثورة في حوايا النثر، والتفاتات أذهان كُتّابه.(21)
وَمَا ارْتَحَلْتَ: كناية عن أنّ ذكرى الشاعر لا زالت في القلوب حتى بعد موته.
ارْتَجَّ الْمَوْتُ.. تَزَلْزَلَ ظِلُّهُ/ حِينَ زَلّتْ قَدَمُهُ.. بِدَمْعَتِكَ الْبَحْرِيَّةِ: وصوت البلاد يقول: لم يكن موتك سهلًا، فحتّى الموت ارتجّ وتزلزل في محاولاتك التحايل عليه والتهرّب منه. وأيضًا كناية عن الرجّة والصخب اللذيْن رافقا خبر موت الشاعر، والسطران يتّسمان بالصور الشعريّة أيضًا، فللموت رجّة وارتجاج، كما له تابع وظلّ يرافقه، والظلّ يعتريه الزلزال، وللموت قدم تتزلزل، وللشاعر دموعٌ بَحريّة.
حِينَ عَلَوْتَ بِمَرْكَبَتِكَ النَّارِيَّةِ فَارًّا مِنْ قَبْضَتِهِ: وهنا تستحضر الشاعرة الموروثّ الدينيَّ كقناع، متمثّلة بقصّة إيليا مار إلياس النبيّ ومركبته الناريّة، والتي تنصّ على أنّ الله شاء أن يحجبه عن شعبه، فلجأ إلى وسيلة مدهشة لم يألفها الناس، ذكَرها سفر الملوك الرابع بقوله: “وبينما كان إيليّا سائرًا مع تلميذه أليشاع يتحدّثان، إذا مركبة ناريّة وخيلٌ ناريّة قد فرّقت بينهما، وطلع إيليّا بالعاصفة نحو السماء، وأليشاع ناظر وهو يصرخ: يا أبي! يا أبي! لكنه توارى.. وامتلأ أليشاع من روحه مضاعفًا”.
ولمّا أراد يسوع أن يمدح القدّيس يوحنا المعمدان دعاه باسم إيليّا، وشبّهه به حيث قال: “إنّه إيليّا المزمع أن يأتي” (متى 14:11).
وفِعْلُ شاعرتنا كفعل السيّاب والبيّاتي بتوظيفها للرمز والأسطورة، “ويذكر السيَّاب أنّه لجأ إلى الرمز والأسطورة بدافع سياسيّ أوّل الأمر، لمقاومة حكم نوري السعيد وعبد الكريم قاسم، ويَذكر البيّاتي الظروف الجديدة التي دفعته إلى التوجّه إلى أسلوب الأقنعة فيقول: (هذا وغيره قادني إلى إيجاد الأسلوب الشعريّ الجديد الذي أعبِّر به. لقد حاولت أن أوفّق بين ما يموت وما لا يموت، بين المُتناهي واللّامتناهي، بين الحاضر وتجاوز الحاضر. وتطلَّب هذا منّي معاناة طويلة في البحث عن الأقنعة الفتيّة. ولقد وجدت هذه الأقنعة في التاريخ والرمز والأسطورة.” (22).
والسيّاب يُعلّل توظيفه في شعره للأسطورة: “فنحن نعيش في عالمٍ لا شعرَ فيه، أعني أنّ القيم التي تسوده قيمٌ لا شعريّة، والكلمة العليا فيه للمادّة لا للروح. وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها، أن يُحوّلها إلى جزء من نفسه تتحطّم واحدًا فواحدًا، أو تنسحب إلى هامش الحياة. إذن فالتعبير المباشر عن اللّا شعر لن يكون شعرًا، فماذا يفعل الشاعر إذن؟ عاد إلى الأساطير، إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها؛ لأنّها ليست جزءًا من هذا العالم، عاد إليها ليستعملها رموزًا، وليبني منها عوالم يتحدّى بها منطق الذهب والحديد”(23)
وبهذا وظّفت شاعرتنا الأسطورة كما وظّفها الرومانسيّون من قبل، أمثال شللّي الذي يذهب إلى أنّ الشعر “يكشف القناع عن الجمال الخفيّ في الدنيا، ويجعل الشعريّة المألوفة تبدو وكأنّها غير مألوفة. إنه يُعيد خلق الأشياء التي يعرضها.” (24)
تَدْحَضُ ضَبَابَ الْمَوْتِ.. بضَوْءِ حِبْرِكَ الْعَاشِقِ!: تتوالى الصور الفنّيّة والانزياحات، فللموت ضباب يُدْحض، وللحبر ضوء يَدْحض ويعشق.
هَا الْكَرْمِلُ غَامَ فِي دُوَارِ صَيْحَةٍ: “ها” حرف تنبيه، والسطر كناية عن حزن أهل الكرمل خاّصة وفلسطين عامّة على فقد الشاعر، وقد ذكرت الشاعرة الكرمل “المكان” وأرادت أهله، مجاز مرسل علاقته المكانية.
وتكمل الشاعرة شدوها: يَا الْمُسْتَحِيلُ تَمَهَّلْ/ دَرْوِيشُ بحَّةُ وَطَنٍ.. جَاوَزَتْ أَنْفَاسَ النُّوَاحِ/ لاَ تُبِحْ فَيْضَ سَنَابِلِهِ.. فِي مَهَبِّ غَفْوَةٍ/ لاَ تُثَرْثِرْ غِمَارَ حَصَادِهِ الْهَائِمِ/ عَلَى حُفَرِ الرَّحِيلِ! بَحْرُ حَيْفَا/ جَاشَ موْجُهُ.. فِي مَآقِي الدَّوَاةِ غَيْمًا/ لاَ يَرْدمُهُ لَظَى حُرْقَةٍ! صَهِيلُ الدّمْعِ.. هَيَّجَهُ دَرْوِيشُ/ وَذَابِلًا.. تَوَسَّدَ ذِكْرَاهُ/ فَرَّ مِنْ نَوَافِيرِ الرِّيحِ.. نُعَاسَ وَجَعٍ/ وتَرَنَّحَ.. عَلَى شِفَاهٍ غَائِرَةٍ.
يَا الْمُسْتَحِيلُ تَمَهَّلْ: وفي السطر انزياح بالحذف والتقدير: “يَا هذا الْمُسْتَحِيلُ تَمَهَّل”: وقد لجأت الشاعرة للأسلوب الإنشائيّ، والمنادى المستحيل وهو رمز موت الشاعر درويش، والنداء يفيد التمنّي، فتتمنّى تأخُّرَ موت الشاعر وإطالة عمره، والأمر “تمهّلْ” أيضًا يفيد التمنّي هو الآخر.
دَرْوِيشُ بحَّةُ وَطَنٍ.. جَاوَزَتْ أَنْفَاسَ النُّوَاحِ: وفي السطر انزياحٌ بالحذف، وهو حذف ياء المنادى، والمنادى يفيد التحبُّب، وتنتقل الشاعرة للأسلوب الخبريّ، لتأكيد الذات وتبيان الأثر النفسيّ الذي خلّفه الموت في داخل أقبية قلبها، وترى أنّ موته فاق النواح، وذكرت الشاعرة الوطن “المكان” وأرادت من فيه “المواطن”، مجاز مرسل علاقته المكانيّة.
لاَ تُبِحْ فَيْضَ سَنَابِلِهِ.. فِي مَهَبِّ غَفْوَةٍ: وتعود الشاعرة للأسلوب الإنشائيّ، والنهي هنا يفيد الالتماس، والسنابل رمز للخير والعطاء.
لاَ تُثَرْثِرْ غِمَارَ حَصَادِهِ الْهَائِمِ: وتستمرّ الشاعرة في استخدامها للأسلوب الإنشائيّ، والنهي هنا أيضًا يفيد الالتماس.
عَلَى حُفَرِ الرَّحِيلِ!: كناية عن فَقْدنا للشاعر محمود درويش.
بَحْرُ حَيْفَا/ جَاشَ موْجُهُ.. فِي مَآقِي الدَّوَاةِ غَيْمًا: ذكرت الشاعرة “بحر حيفا”، وأرادت مجاوريه وأهله العرب، مجاز مرسل علاقته المجاورة. كناية عن أنّ البحر؛ أي الطبيعة شاركت الشاعرة آلامها الوجدانيّة وحزنها ومصابها على طريقة الرومانسيّين، فالبحر ثارت أمواجه حزنًا، كما يتجلّى في الشِّعْرِ الرُّومانِسيِّ الاندياحُ في عالم الطبيعة الواسع، والركون إلى أحضانها واستشعار حنانها وجمالها وروعتها ومناجاتها كأمّ وكَمُلْهِمَة، والتماس العزاء لديها من آلام الانكسارات الحادّة، والوصول إلى فلسفة طبيعية قوامها ثنائيّة البشر والطبيعة. الشاعرة تُعبِّر عن عاطفتها الصادقة، فأحاسيسها متجاوبة مع الطبيعة متفاعلة معها ممتزجة بها، والطبيعة هي أيضًا كذلك. وفي عبارة “فِي مَآقِي الدَّوَاةِ غَيْمًا” انزياحٌ إضافيّ وصورة فنّيّة، فللدواة مآقٍ تبكي كما الإنسان، وكل ما يخطّ بها أسود كالحزن.
لاَ يَرْدمُهُ لَظَى حُرْقَةٍ!: كناية عن أنّ بكاء المصاب لا يكفي تعبيره عّما في الروح من حرقة وألم.
صَهِيلُ الدّمْعِ.. هَيَّجَهُ دَرْوِيشُ: وفي عبارة “صَهِيلُ الدّمْعِ” انزياحٌ إضافيّ، وصورة شعريّة، فللدمع صهيل يٌهيِّجه الموت.
وَذَابِلًا.. تَوَسَّدَ ذِكْرَاهُ: وفي السطر انزياحٌ تركيبيّ، حيث تقدّم الحال “ذَابِلاً” على صاحب الحال وفعله، وللانزياح التركيبيّ أَثَرُهُ في التراكيب وفي نسيج العمل الأدبيّ ككلّ، فعن طريق الانزياح تتحقّق للنصّ أدبيّته، وتأثيره في المُتلقّي. وفي استجلاء الانزياح، وجماليّّاته في ضوء المنهج الأسلوبي الحديث. وله دوره في بيان المعاني وتوضيحها، وفي الكشف عن تعدد تقنيات النظم وأساليبه الفنّيّة، التي تفرد بها.
فَرَّ مِنْ نَوَافِيرِ الرِّيحِ.. نُعَاسَ وَجَعٍ: كنايةً عن شدّة الحزن والأسى على موت الشاعر درويش، وتتابع الصور الشعريّة والانزياحات الإضافيّة والتركيبيّة، فللريح نوافير يفرّ منها نعاس الوجع، وللوجع نعاس.
وتَرَنَّحَ.. عَلَى شِفَاهٍ غَائِرَةٍ: ونعاس الوجع يترنح والشفاه تغور! صور شعريّة تصوّر حالة الأسى والحزن الذي رافق موت الشاعر، ونلاحظ أن الشاعرة توظف الصور الشعريّة كثيرا في نصها، و”تعد الصورة الشعريّة عنصرًا بنائيًّا بالغ الأهمّيّة في بنية النصّ الشعريّ، وهي تجيء في قمة الهرم البنائيّ للقصيدة الشعريّة، ذلك الذي يبدأ من البنية الصوتيّة ومرورًا بالبنى الصرفيّة والمعجميّة والتركيبيّة؛ ولذلك كانت دراستها في النصّ الشعريّ من الأهمّيّة بمكان، وهي دراسة تتوخّى الإشارة إلى مفهومها وأهمّيّتها ووظيفتها التي لا تقف عند حدّ الدور البنائيّ في النصّ الشعريّ، وإنّما تتعدّاه إلى التمايز بين الشعراء في كيفيّة بنائها، “باعتبارها عنصرًا حيويًّا من عناصر التكوين النفسيّ للتجربة الشعريّة “(25)
والصورة الشعريّة “تختلف من مبدع إلى آخر، ومن ثمّ يكون بناؤها عند كلٍّ منهم متضمّنًا لعناصر التميّز والتفرّد، وتغدو الصورة من ثمّ مقياسًا تقاس به موهبة الشاعر، وموضعَ الحكم عليه.” (26)، و”إنّ نجاحَ الشاعر وفشله قرينُ ما يتمتع به من قدرات تصويريّة، تُمكّنه من نقل تجاربه وأحاسيسه إلى المُتلقّي بواسطة مَلَكةِ الخيال” (27).
وتستمر الشاعرة في شدوها، فتقول: بِرَحِيقِ ظِلِّكَ الدَّرْوِيشيِّ/ لَمْلَمَتْهُ حَقَائِبُ مَسَافَاتٍ لاَ تَؤُوبُ/ وَتَوَارَيْتَ غَمَامَاتٍ مُسْرَجَةٍ.. فِي ثُقُوبِ الدُّمُوعِ!/ هُوَ الأَسِيرُ الْحُرُّ .. فِي الْوَقْتِ الصِّفْرِ!/ فَقِيدُ سِجْنِ حَيَاةٍ أُسْطُورِيَّةِ الْوَجَعِ!/ وَلِيدُ حُرِّيَّةٍ هُو.. تَنْبضُهُ خُلُودًا أَخْضَرَ
بِرَحِيقِ ظِلِّكَ الدَّرْوِيشيِّ: ولظلّ الشاعر درويش رحيقٌ كرحيق الأزهار.
لَمْلَمَتْهُ حَقَائِبُ مَسَافَاتٍ لاَ تَؤُوبُ/ وَتَوَارَيْتَ غَمَامَاتٍ مُسْرَجَةٍ.. فِي ثُقُوبِ الدُّمُوعِ!: كنايةً عن موت الشاعر، وللمسافات حقائب لا تعود وتُلملم، وللغمامات سروجٌ كما الحصان، وللدموع ثقوب. انزياحاتٌ وصور شعريّة متتالية.
هُوَ الأَسِيرُ الْحُرُّ.. فِي الْوَقْتِ الصِّفْرِ!: وقد استهلّت الشاعرة هذا السطر بضمير الشأن “هو”، ونرى “أنّ العرب الفصحاء ومن يحاكيهم اليوم، إذا أرادوا أن يذكروا جملة اسميّة أو فعليّة تشتمل على معنى هامّ أو غرض فخم، لم يذكروها مباشرة خالية، ممّا يدلّ على تلك الأهمّيّة والمكانة، وإنّما يُقدّمون لها بضمير يسبقها، فتجيءُ الجملة بعده والنفس متلهّفة لها، مُقبلة عليها في حرص ورغبة. فتقديم الضمير ليس إلّا تمهيدًا لهذه الجملة الهامّة”. (28)، فالضمير جاء هنا لتفخيم الشاعر ومكانته، فطالما سجن من أجل القضيّة، جاء في وقت اشتدّت فيه ظلمة ليل فلسطين ونكبتها ونكستها.
فَقِيدُ سِجْنِ حَيَاةٍ أُسْطُورِيَّةِ الْوَجَعِ!: كنايةً عن حياة السجن والحياة الأسطوريّة التي عاشها الشاعر من أجل خدمة بلده، المتخمة بالنكبات والانتكاسات، وفي السطر انزياحاتٌ متعددة، انزياحتان إضافيّتان وواحدة بالحذف، والانزياح بالحذف تقديره “هو”. وقد أكسب مفهوم الانزياح الأسلوبيّةَ ثراءً في التحليل، إذ تتعامل المقاييسُ الاختياريَّة والتّوزيعيّة علی مبدئه، فتتكاثف السّمات الأسلوبيّة، وفي ضوئه يمكن إعادة وصفِ كثيرٍ من التحليلات البلاغية العربيّة، أمّا بالنسبة إلی الانزياح التركيبيّ وتحديدًا ظاهرة الحذف، فالشاعرة تحذف المسند إليه من بعض السطور، خاصّة تلك التي أنشدتها في وصف المرثيّ، فأرادت أن تستغني عن ذكره، لأنّه حيٌّ في ذهن المُخاطب ولا داعي لذكره.
وَلِيدُ حُرِّيَّةٍ هُو.. تَنْبضُهُ خُلُودًا أَخْضَرَ: كناية عن أن الراحل كان يسعى للحرية وتحرير وطنه، والصور الشعريّة تتوالى، فللحرية وليد نبض خالد، وللنبض لون أخضر، وهي استعارة تنافريّة، وهي نوع من أنواع الانزياح تُحْدث خلخلة عميقة في روع المُتلقّي، وتدخله في لذة الجديد المفاجئ المدهش، من خلال قدرة الشاعرة في التعبير عن مشاعرها بلغة جديدة مدهشة.
وتستمرّ الشاعرة في تعداد مناقب الشاعر المرثيّ: يَا الْمُغْرِقُ فِي حُضُورِكَ الْبَهِيجِ أَبَدًا/ وَإِنْ وَارَتْكَ لَحْظَةٌ كَفِيفَةٌ بَيْنَ جَفنّيّهَا/ فَأَنْتَ الْعَابِرُ مِنَّا إِلَيْهَا شُعَاعًا/ وَعَائِدٌ مِنْهَا إِلَيْنَا شَمْسًا/ لاَ يَحْجُبُهَا غِرْبَالُ غِيَاب!/ بِشَفَقِكَ الدَّرْوِيشِيّ/ أَسْمَعُ وَقْعَ خُطَى صَوْتِكَ/ يَمْلأُ كَفَّيَّ بِكُلِّكَ/ بِبَسْمَةِ حَرْفِكَ الْمَصْلُوبِ عَلَى دَمْعَةٍ؛/ تَمْتَشِقُ حُلْمًا.. لاَ يَنْطَفِئُ/ وَإِنْ .. بَاغَتَتْهُ رِيحُ الْمَوْتِ!
يَا الْمُغْرِقُ فِي حُضُورِكَ الْبَهِيجِ أَبَدًا: كنايةً عن ذكرى الشاعر التي ما زالت حيّة بهيجة خالدة في قلوبنا، وفي السطر انزياحٌ بالحذف يولِّد الدهشة في ذهن المُتلقّي، والتقدير: “يَا أيها الْمُغْرِقُ فِي حُضُورِكَ الْبَهِيجِ أَبَدًا”.
وَإِنْ وَارَتْكَ لَحْظَةٌ كَفِيفَةٌ بَيْنَ جَفنّيّهَا: وفي السطر تتّكئ الشاعرة على أسلوب الشرط للإتيان بالحجّة والدليل ولتوليد الإقناع.
فَأَنْتَ الْعَابِرُ مِنَّا إِلَيْهَا شُعَاعًا: كناية عن مآثر الفقيد وما تركه من مجد. والشعاع رمز للمجد، “والرمز يوحي ويومئ ولا يحدّد أو يصف. وعلى هذا الأساس يمكن أن نميّز بين الإشارة والرمز، لأنَّ الإشارة تحديد للشيء، والرمز إيحاء بشيء ما دون تحديد.”(29)
وَعَائِدٌ مِنْهَا إِلَيْنَا شَمْسًا: كناية عن عودة الشاعر الميمونة إلى أرض الوطن من المنفى، والشمس رمز رفعة وإباء. وفي السطر انزياح بالحذف والتقدير: “وَأنت عَائِدٌ مِنْهَا إِلَيْنَا شَمْسًا”.
لاَ يَحْجُبُهَا غِرْبَالُ غِيَاب!/ بِشَفَقِكَ الدَّرْوِيشِيِّ: كناية عن مآثر الشاعر محمود درويش الجليّة في غربته، وللغياب عند الشاعرة غربال لا يحجب، وللشاعر شفق كما للسماء.
أَسْمَعُ وَقْعَ خُطَى صَوْتِكَ: تصوّر الشاعرة الصوت بإنسان له وقع خطى….استعارة مكنية. وكناية عن مآثر الشاعر الخالدة في النفوس.
يَمْلأُ كَفَّيَّ بِكُلِّكَ: كناية عن تلمس الشاعرة لتلك المآثر بنفسها، وذكرت الشاعرة “الكف”؛ أي الجزء وأرادت نفسها، مجاز مرسل علاقته الجزئيّة.
بِبَسْمَةِ حَرْفِكَ الْمَصْلُوبِ عَلَى دَمْعَةٍ؛: كناية عن شعر الشاعر المتفائل رغم وجود الاحتلال وأفعاله الشنيعة. وللحرف بسمة، حيث صوّرت الشاعرة الحرف بإنسان يبتسم، وصوّرته مرة أخرى بالإنسان المصلوب! استعارتان مكنيّتان، والصلب رمز لقيد المحتل، والدمعة رمز لأثر المحتل على من احتلّت بلاده.
تَمْتَشِقُ حُلْمًا.. لاَ يَنْطَفِئُ: كناية عن أحلام الشاعر لوطنه، وقد شبّهت الشاعرة الحلم بشيئين، يُمتشق ويُستلّ كما السيف.. استعارة مكنيّة.
وَإِنْ.. بَاغَتَتْهُ رِيحُ الْمَوْتِ!: وتوظف الشاعرة أسلوبَ الشرط للإقناع، وفي السطر انزياحٌ إضافيّ، فالمُتلقّي عندما يسمع كلمة “ريح” يتوقّع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “الصبا” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “الموت”، وهذا الانزياحُ يولّد الإثارة في نفسه، وهو من جماليّات الانزياح بمختلف أشكاله، وذلك بخلخلة بنية التوّقعات وإحداث فجوة تعمّق حسّ الشعريّة في نفس المُتلقّي، ممّا يكسب النصّ توتّرًا وعمقًا دلاليًّا خاصّا، باعتباره نقطة التحوّل ومنبع الإمتاع.
وتستمرّ الشاعرة في نصِّها: صَبَاحُنَا لَيْسَ مَحْمُودًا كَكُلِّ الصَّبَاحَاتِ/ صَبَاحٌ يَطْفَحُ بِعَطَشٍ دَرْوِيشِيٍّ/ وَشَّحَتْهُ أَسْرَابُ حُزْنٍ مَفْقُوءَةِ الْعُيُونِ/ تُكَفِّنُكَ بِبَلَلِ صَفِيرِ نَشِيجِهَا/ بِشِفَاهٍ حَارَّةٍ/ لاَمَسَتْ كُؤُوسَ دَمْعٍ كَوْنِيٍّ!
صَبَاحُنَا لَيْسَ مَحْمُودًا كَكُلِّ الصَّبَاحَاتِ: كناية عمّا اعترى النفوس من أسى وحزن على روح الفقيد، وذكرت الصباحات “الزمن”، وأرادت ما جرى فيها من حزن، مجاز مرسل علاقته الزمانيّة.
صَبَاحٌ يَطْفَحُ بِعَطَشٍ دَرْوِيشِيٍّ: كناية عن فقدنا للشاعر الكبير، وفي السطر أيضًا مجاز مرسل علاقته الزمانيّة، وتتوالى الصور الشعريّة، فالصباحات تطفح بالعطش، والعطش رمز للفقد والغياب والموت.
وَشَّحَتْهُ أَسْرَابُ حُزْنٍ مَفْقُوءَةِ الْعُيُونِ: كناية عن البكاء على المرثي، فللصباح وشاح، وللحزن أسرابٌ لها عيون مفقوءة من أثر البكاء. صورٌ شعريّة وانزياحاتٌ تثير دهشة المُتلقّي.
تُكَفِّنُكَ بِبَلَلِ صَفِيرِ نَشِيجِهَا: كناية عن البكاء. والنشيج: صوت الإنسان المرتفع المتردّد عند البكاء من غير انتحاب.
بِشِفَاهٍ حَارَّةٍ: كناية عن التأثر بصدق على المتوفّى.
لاَمَسَتْ كُؤُوسَ دَمْعٍ كَوْنِيٍّ!: وفي السطر انزياح إضافيّ،”فالمُتلقّي عندما يسمع كلمة “كؤوس” يتوقع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “شراب” مثلًا، لكنه يتفاجأ بمضاف إليه “دمع”، وهذا الانزياح يولد الإثارة في نفسه، وهو من جماليّات الانزياح، والسطر كنايةً عن الحزن الإنسانيّ.
وتختتم الشاعرة قصيدتها بقولها: نَعْشُ رِيحِكَ/ تَنَاثَرَتْهُ مُدُنُ الْغُرْبَةِ/ وَمَا اتَّسَعَتْ لِوَجَعِكَ/ نَا/ كُلُّ أَضْرِحَةِ الإِنْسَانِيَّةِ!!
نَعْشُ رِيحِكَ”/ “تَنَاثَرَتْهُ مُدُنُ الْغُرْبَةِ: فللنعش ريح وللغربة مدن…صور شعريّة جميلة، كناية عن نفي الشاعر وغربته في حياته لالتزامه.
وَمَا اتَّسَعَتْ لِوَجَعِكَ/ نَا”/”كُلُّ أَضْرِحَةِ الإِنْسَانِيَّةِ: وتتّحِدُ الشاعرة في فكر الشاعر، فالوجع واحد والمصيبة واحدة يتمثّلان بضياع وطن فاق وجع الإنسانيّة جمعاء.!!!!
وتتقن شاعرتنا بسطورها توظيف فنّ الشاعرية، “فالشاعرية في شكلها المنظوم أو المنثور سيرورة إنسانيّة مُطَّرِدة، لها دلالاتها وإيقاعاتها ولغتها ورؤاها وفق حركةِ هذه السيرورة حضاريًّا وثقافيّا. إنّ لكلّ مجتمع وعصر وحضارة شاعريّته وقصيدته التي تنبع من مجمل ثقافته وحضارته وقدرته الإبداعيّة أيضًا ودوْمًا، في كلّ زمان ومجتمع ثمّة شاعر أو أكثر يتجاوز حاضره في نصّه الشعريّ، بما يشبه الرؤيا والنبوءة والإشارة إلى المستقبل.
الشعر بعض تنفّس الورد، والشاعريّة جدليّة فيزيائيّة بين الطبيعة بعناصرها وكائناتها، وبين الكائن الإنساني، وفي هذه الجدليّة ينكشف للشاعر سرَّ العناصر وسحرها، وثراءَ الكون والحياة.”(30)