المأساة في ( في شمسي دوار) – رشاد أبوشاور
المأساة …. مأساة جيلنا المعاصر الذي ما فتىء يندب حظه العاثر متخبطا في كل التيارات المتضاربة، باحثا عن المنطلق، نقطة البدء لما يؤمل أن يحقق من صبوات ورغبات مضطرمة من، أهداف ومثل عليا تؤمن الخير والحب للناس جميعا من أبناء أرضنا المعطاء.
مأساة هذا الجيل انه جاء الحياة ليفتح عيونه على وطن مسلوب وخيرات منهوبة وقدرات ضائعة مبعثرة تسفحها كل قوى التأخر والانجرار إلى الخلف. هذا الجيل قد تمرد وأخذ يرفع صوته عاليا يرفض الزيف، يريد أن يصل إلى الحقيقة بصدق وبدروب شريفة دون مهادنة، الجيل المتمرد الخلاق هذا قد أنجب الشاعر: فواز عيد.
المأساة والهزيمة الكبرى التي تلوث وجدان هؤلاء الفرسان الذين نما في صدورهم اللألم فكان تمردا شق دربه أمامهم ساطعا في حلكة ظلمة العصور وبقاياها العفنة. هذا التمرد على الزيف، على الذل المتوارث الذي عشش في زوايا العيون، والذي طالما دوخ الرؤوس واستفحل خطره، ينفض الآن عن كواهل الجيل بكل عظمة واندفاع العربي الثائر الصادق.
أبناء هذا الجيل فرسان كبروا على حمحمة الخيل وصهيل الجياد في معركة النداء للتخلص من العار … هؤلاء الفرسان هم الذين قالوا:
“نعود ….. ولا نعود
كانوا صغارا
يكبرون على صهيل جيادهم في الليل
كانوا يكبرون”
لقد ندب الشاعر فواز هذا الجيل للواقع بكل ما فيه من تزمت، والقارىء للديوان لا بد وأن يلاحظ نمو خيط المأساة في وجدان الشاعر منذ فاتحة الديوان “الابواب” حتى القصيدة الاخيرة “لا نعش للغرباء”.. خيط المأساة هذا هو الذي يجعل من الديوان بكل قصائده قصيدة واحدة. انه في محاولته الاولى للهرب إنما يزداد اقترابا والتصاقا بالواقع بالرغم من ضباب الأقبية وبالرغم من محاولة الانطواء.
“الابواب” مفتاح الديوان وهي بحق من أجود وأروع قصائد الشعر الحديث من حيث قوة الشاعر الايحائية والبنائية، والقدرة على إعطاء وخلق الصورة المتينة “والحديثة” بكل ما فيها من جهد خلاق. الشاعر في “الابواب” التي هي ثلاثة أناشيد ذات بناء سيمفوني لا يمكن للقارىء أن يرتبط معها وأن يفهمها إلا بأن يقرأ كل النشيد بنفس واحد متتابع، ومن ثم يربط في ذهنه الأناشيد الثلاثة، فالشاعر يهرب بنفسه بعيدا عن عالم الواقع ويحاول أن يطرد عن بابه ذلك العاشق الذي يمثل في ذهنه تجربة الحب معجونة بالفشل والاحزان….
…وهنا بجانب موقدي كم قال …..
حدثني …عن المدن الحزينة …
عن غريق مات في الجزر البعيدة ….
عن حبيبته …
روى في الليل
حدق في الرماد
وقام …
أسلم نفسه للريح ….
سال مع الظلام …
مضى
ترى لو عاد …
لا تقرع ….
دروب التل تلهث عند أبوابي
وأبوابي مغلقة من العصر القديمة لم تزل.
ومن النشيد الثاني يرجع إلينا صدى النشيد الأول فيهمس بأسلوب خفي أن الشاعر هو ذلك العاشق لكنه حنط ذكرياته تمثالا، ومع ذلك فلا بأس من أن يضع أطفاله أماني غده على يدي التمثال .. هؤلاء الأطفال إنما هم براءة الاحلام التي ولدت في قلب الشاعر، والتي هي عبارة عن الحنين للبحث عما يسند إليه رأسه المتعب. وأروع ما في النشيد الثاني تلك “الحكاية” قصة البحار التي كانت ألسنة أهل المدينة تلهج بذكرها، ذلك الملاح الحزين كان يغيب أياما ليعود فيظهر من جديد حاملا معه إلى المدينة الحناء والطيب وبعض الحزن الغامض. غاب هذا الملاح ولكن لا ليعود بل ليختفي عن المدينة دون أمل بعودة أُخرى بعد أن غاب مركبه وتوارى في البحر.
“ويقال: إن ستارة زرقاء عابثها النسيم
هناك
فانحسرت
وظل القارب المسحور ينثر خلفها الحناء
ينثــــــر
ثم غاب ولم يعد.”
لقد توارى، غيبه البحر كما غيب كثيرا من الرجال قبله.. غاب الملاح .. رحل الشاعر، ابتنى لنفسه معبدا بعيدا عن الناس، هرب من الفشل إلى الحزن والبخور والمواقد والريح والعراء.
ويتجلى الهرب في النشيد الثالث الذي يسميه الشاعر “المطر” أو بعبارة أُخرى ما يغسل الحزن. في هذا النشيد خاتمة القصة وبداية المأساة. فمنذ البداية كان الشاعر “بطلا” يعترف بفشله وينعزل ليبحث عن تجربة جديدة، إنه يريد الانعزال ليراقب ثم لينحدر إلى مجرى الحياة ويتعذب مرة أُخرى، إن وحدته وانعزاله هنا الى درجة التصوف ليست انعزالا نهائيا.
“من يقرع القصدير !؟
أبوابي مغلقة من العصر القديمة
لم تزل
من يقرع القصدير!؟
جدراني مغبرة
وكهاني على وهج المواقد نائمون.”
الرعب في قلب الرجل والمرأة ابتنى لنفسه عشا توارثه الأبناء عن الآباء، وأبناء هذا الجيل بلا حب بلا حنان، الحب اتصال للحظات في زوايا هروبية وتحت وطأة الخوف من العقاب، الخوف يدفع هؤلاء الشباب للهرب، للتسكع في الحانات، في المقاهي، في الأقبية، يبحث الشاعر عن الحب، يفتش الجيل عن الاستقرار، ولكنهما مفقودان وهذا هو قدر الجيل.
أين هي شهرزاد، ومن تكون؟ ما لون عينيها؟ إنها ليست إلا في يوتوبيا حلما يخفق مثل ضوء صغير ويبتعد وينأى وإن وجدت فهي مأساة متجددة. لذا يلوذ الشاعر بنفسه في زاوية من زوايا الكهف حيث صراخ البوق، يلتفت حوله فلا يرى إلا رؤوسا دائخة وعيونا جامدة:
“ويرش الكهف في الأهداب ألوانا سخينة
توثق الأقدام بالبوق فلا تدري
متى كانت رزينة”
ليال صقيعية ليالي أبناء هذا الجيل، الدخان ضباب الحزن الشفاف، الليلة تتبع الأخرى.. عمرنا يفنى لا جديد غير مآس صغيرة مبعثرة تتفتح مع إشراقة كل صبح، لا بأس من أن تضيع هذه الليلة أيضا. لقد جئنا هنا للنسيان لأننا بلا شهرزاد بلا قرار، شهرزاد إحدى مشاكلنا وهي مشكلة كبيرة لأنها الطريق للاستقصاء والبحث، لأنها العون في الطريق الوعر. نمد أيدينا فنقبض على وهم يراوغ، على سراب مخادع، على لا شيء. العيون تحملق مشدوهة، الانغام تحلم، ولكن لقد فقدنا القدرة على الحلم … لقد انتهينا … انتهينا:
“تعبت أقدامنا
في الكهف ريح باردة
وارتمت منهارة في الليل عين جامدة.”
ها هي شهرزاد يحاول الشاعر الاقتراب منها ليهمس لها قائلا:
“شهرزاد
أنت يا شمعية يا صمت غابة
من ترى أضناك!؟
كلما قلت ” غدا ”
أجبن
والجبن صبابة.”
شهرزاد أيضا مثله صفراء كئيبة كزهرة بلا شذى، لا تستطيع أن تهبه شيئا، إنها لا تملك ما تعطي فمأساتهما واحدة.
هل ينسى الشاعر الخنجر المنتظر بصلف، خنجر مجتمع شرقي مغلق لا يأخذ ولا يعطي؟! لكن ها نحن هنا نتعرف على المشكلة أكثر وعلى جذورها البعيدة، ففي القصيدة الثالثة “القصب والمرايا” يقدّم الشاعر للقصيدة بكلمات نثرية قليلة: تروي العجائز انها أحبته وهربت معه حيث ذبحت كالشاة وكان صوتها يتأوه تحت رذاذ القمر”
لماذا اختار الشاعر هذه الاسطورة الريفية؟ ولماذا وضع روح الهاربة مع عاشقها والتي قتلت لانها تحب صورة أمام عيوننا، تلك التي تكاد دماؤها تنبجس من أحرف القصيدة على الورق؟ ها هوذا العاشق لم يقتل لأنه رجل لكنه هرب وما عاد يغني، لقد سرق منه اللحن، توارى ولم يرجع، خلف وراءه “مذبوحة” عصرت دماؤها في احمرار شقائق النعمان، مضى مع الليل دون أن يراه أحد بعد أن انقطع آخر خيط يشده إلى الحياة، وما زال النهر يبكي والعجائز يروين بكل بساطة وكأنها حلم مر.
“قيل في الضفة ما عاد يغني
قيل قد يرجع يوما
قيل مجنون مضى في الليل
مات
قيل ما قيل
وقد القصب المتعب يلوي
وتجوس الريح أقواس السكينة
وتروي من جرار الليل قامات القصب
ويدق النهر في الشطآن أجراسا حزينة.”
“الطريق الى المقبرة” هي القصيد الضحية، فبالرغم مما فيها من جمال إلا أنها قد قتلت بتأثر الشاعر بالموجة الجديدة. لقد أجاد الشاعر في إعطاء صورة للمدينة حيث لا صلة تربط ولا بساطة تجمع بل سيارات وفولاذ يندفع بهمجية، ولكن كما قلت إن موجة “اليوت” أثرت في الكثيرين ومن بينهم شاعرنا هذا في قصيدته هذه.
إننا لم نصل بعد إلى التعقيدات الحضارية كأوروبا، بل إننا ما زلنا في بداية الطريق، فلماذا هذا الرعب وهذا التصوير لشيء غير موجود؟ أين هي المعامل في بلادنا؟ إننا ما زلنا في بداية الشوط ولم نقطع شيئا بعد، ودمشق هي مثل الريف بالرغم من هذا “البهرج”، بالرغم من السيارات والترام والسرعة في السير وعدم الالتفات.
“يتملظ الفولاذ طعم دمائنا شبقا
وتزفر من قتار جسومنا
سحب الدخان
ان موجة التأثر او “الاستيراد” التي لا أصالة فيها قد طغت على معظم نتاجنا الحديث، ولم يسلم منها حتى شاعرنا بالرغم من كونها طفيفة عنده، ومع ذلك أرجو أن تمحو أصالة العربي في شاعرنا هذا التأثر، فحياتنا ما زالت بكرا.
المدينة، الضياع، التسكع، أقدام المتعبين الهاربين تدق وجه الشارع ودونما هدف، ولكن أخيرا وبعد هذا التطواف الممل تحدو الرغبة شاعرنا فيحاول العودة إلى شهرزاد علّها تشعل جذوة حياته الخامدة، ولكن شهرزاد ما زالت هي هي محاصرة خطفت الجدران لونها بالرغم من حروف الشاعر الملتهبة، وبالرغم من طهر مداده المصبوغ بدمه.
لنعد ولنرتم في الزمن في صراخ البوق في ليل الأقبية لأن الهزيمة ما زالت باقية موطدة الأركان، فوداعا ايها الاصدقاء، أيها المهزومون:
“عم مساء يا صديقي
وافترقنا في الطريق
وتلفتنا
اذا: لا بأس … أمضي
خلفي السور
وقدامي تعاريج المضيق.”
ويصل الشاعر إلى :
“أصدقائي
ذبل البوق ومات اللحن
مات
وتمطت في الزوايا من ليالينا الرفات.”
هذه الصورة الصادقة عن أبناء الجيل هي ما يحلو لبعضهم أن يتهم الجيل بها “إنهم لا شيء، إنهم السلبيون الهروبيون”، ولكن ها هوذا الشاعر يرد عليهم بكل عظمة الجيل.
“يا صديقي
من هنا نبدأ في الغربة من حيث انتهينا.”
الى “من مراسي أغنيات لم يذعها الوتر.”
أبناء هذا الجيل كالأطفال في إلحاحهم يريدون جوابا عن كل شيء، أطفال في طيبتهم وصفاء قلوبهم، وفرسان في بطولتهم، في قوة اختراق حواجز الواقع إلى هناك، إلى الأمل الكبير الموعود. إنهم اختاروا مصيرهم، حملوا العبء على أكتافهم ليحرروا إنساننا العربي من كل القيود، ومن كل ما في الماضي من صقيع ومرارة. إن امتنا على موعد مع النصر، على موعد مع الفارس الذي مضى ليعود يحمل معه إشراقة الفجر وحرارة المستقبل.
“يا فارسي
يا بوح أغنية على شفة حزينة
يا موعدا أرجوه من سنة ضنينة..”
الشعر ما عاد تصفيقا وصراخا للحظة ثم ينتهي مفعوله، إن الشعر الحديث لا يحتاج للتصفيق والهتاف بل هو غناء لأرض الإنسان لوطنه، إنه إغناء لحياتنا لكن دون تجح وتطبيل.
الشاعر الآن بدأ يعي رسالته أكثر من ذي قبل، والاتصال وثيق بالرغم من محاولة المتخلفين إبعاد الشاعر الحديث واتهامه.
إذا الشاعر الآن لا يقف على منبر الخطابة من أجل نفخ المستمع للحظة، بل أصبح ثمة اختلاف، فالشاعر الحديث في وسط المعركة ومع الشعب، رفيق الجماهير الصامت والمتوقد في آن واحد، إنه الصدق والحرارة والخلق.
لقد غنى فواز لبردى ولم يغن لشخص معين أو لجماعة. غنى للجماهير والعرب جميعا، وكان في كل حرف من حروفه بوحا عن شوق بعيد الغور، بوحا عن صمت تفجر.
“وإن قلنا
متى تهوي الثلوج؟
متى يفيض النهر
قلت”غدا.”
الوعد في حبات ماء النهر، في طيبة أرضنا المعطاء، الشاعر مع بردى في الحاضر ومع الأندلس مع ماضي أجدادنا المجيد، يتسكع الشاعر في شوارع دمشق ولكن العربي يثور فيه، ينتفض بجبروت لتفيق معه الجماهير على الوجه النير للماضي بما فيه من طاقات واندفاع.
“رجّعي
في الصدر أنفاس
وفي الليل بقية
فعزائي في ليالي مطر الغربة أنت
ما انتهى الخصب بعينيك
ولا أنت انتهيت.”
سؤال يطرح من خلال أبيات القصيدة: ترى هل نضب الإنسان العربي؟ أم أن هناك أملا لإنهاء تسكعه الذهني وتشرده الروحي؟ سؤال يفجّر الشاعر له جوابا رائعا: إن ذلك الإنسان الذي خرج من الصحراء فأنهى عهد الفوضى في الفكر الإنساني في عصره لم ينته، بل إنه ما زال أملا جديدا مرة ثانية. انه يفيق في ليل الغربة، في ليل التشرد، والعزاء العودة للأخذ من الماضي إلى ما يربط حاضره بماضيه دون مغالاة وتحجر.. فمنذ أن جاءنا البرص من روما.. الغزاة
Kونحن نزداد تشردا وغربة في وطننا.
“وداهمنا الغزاة البرص من روما
وعاثت أوجه الأغراب في الساحات
فما أبقت…
لقد داهمنا الغزاة، سرقوا فلسطيننا … فمتى تعود أرضنا حرة من جديد؟! عندها لا نعود نحس بالغربة …. عندما يصبح هناك للغرباء نقش.. عندما يشمخ العربي برأسه عاليا فيحمل من جديد الرسالة للإنسان والحب والخير.
رشاد أبو شاور – دمشق
تنويه:
هذه المقالة نشرت عام 1964 في مجلة ( الآداب) البيروتية، عن المجموعة الشعرية الأولى للشاعر فواز عيد التي صدرت عن منشورات دار الآداب- بيروت.
عندما قرأ بعض الشعراء والكتاب الشباب(عصبة جامعة دمشق) المقالة أشاعوا بمكر أن كاتب المقالة هو فواز عيد نفسه، لأنهم لم يسمعوا من قبل بكاتب اسمه رشاد أبوشاور. لهذا أصر فواز على اصطحابي معه إلى الجامعة، وفي ( البوفيه) _ وكان موئلاً لشعراء وكتاب الجامعة -عرّف أولئك الشعراء والكتاب بي..ومن يومها تعمقت علاقتي ببعضهم وبتنا أصدقاء.
كنا، فواز وأنا، نعيش آنذاك في جوبر. كان هو في جامعة دمشق يدرس الأدب العربي، وكان قد اشتهر كشاعر من شعراء الجامعة الذين لمعوا آنذاك: ممدوح عدوان، فايز خضور، علي كنعان، تيسير السبول، كريم كاصد…
أعيد نشر المقالة تحية للتذكير بالبدايات، ولذكرى صديقي الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل فواز عيد، ولعلها تفيد في التعرّف على بدايات نعتز بها..مع تحية وفاء للآداب ولمؤسسها الكبير الدكتور سهيل إدريس رحمه الله، ولرفيقة عمره أمد الله في عمرها الأستاذة عايدة مطرجي إدريس.