المثقف التابع يتطاول على (نزيه أبوعفش) – رشاد أبوشاور
أحسب أن كثيرين في الوطن العربي يعرفون الشاعر السوري نزيه أبي عفش، وأن كثيرين جدا في بلده سورية يعرفونه شاعرا وإنسانا كبيرا، يتمتع بالشعور العالي بالكرامة التي هجس بها دائما، منحازا لكل إنسان على هذه الأرض، لا انطلاقا من شعور ديني، وهو متوفر في شعره، وسلوكه، ورؤيته، ولكن من منظور إنساني أكثر رحابة وتسامحا وعمقا فلسفيا وأخلاقيا.
من عرف نزيها، واطلع على جوانب من حياته، يعرف أنه عاش وأسرته متقشفا، متواضعا، حيث عاش مع أسرته الصغيرة في بيت من غرفة وشبه غرفة، تقع لصق بناية في حي المزرعة، ووظيفيا عمل نزيه معلما، ولأنه عانى من متاعب صحيّة فقد نُقل إلى عمل وظيفي في مؤسسة مكافحة التسوّل..أي والله!!
حدث هذا رغم أن شهرة نزيه أبي عفش فاضت عن سورية إلى الوطن العربي الكبير، ومع زوجته المعلمة، وولديه عمر وكنان، كابد حياته بكبرياء، وترفّع، دون شكوى، ولم يلتمس المعونة من أحد في سورية، لا شعرا ولا نثرا، وهو لم يكن مقربا، أو محسوبا، أو مدعوما..بل إنه ضويق، ولكنه لم يتاجر بما عاناه من ( تضييق) وتهديد ووعيد أحيانا لعلو صوته الغاضب، وبقي الشاعر محب الموسيقى، التشكيلي، هاوي الصيد، ليس لرغبة في ( القتل)، ولكن ليتواصل مع الطبيعة، فهو فلاّح من ( مرمريتا) القريبة من حمص، وهو نشأ في كنف عائلة تقدمية، فوالدها كان شيوعيا، ومع تفتح وعيه، وتعمقه ثقافيا، مزج بين المسيح ودوستويفسكي ونيتشه وماركس، وكره الاستبداد، وامتلأت حنجرته بغضب يوحنا المعمدان…
أعتز بصداقة نزيه أبي عفش، وبأنني اقتربت منه، هو المثقل بالحزن والغضب، والحامل لصليب إنساني..صليب البشر المسحوقين المهانين المذلين على كل أرض.
في البيت المتواضع جدا، والضيّق جدا، والذي جعلته لمسات رفيقة عمره ناديا ( أم عمر) أقل بؤسا، وبلمساتها أكثر حميمية، سواء للعائلة الصغيرة، أم للأصدقاء، اعتكف نزيه ، لا عن ترفّع على الناس، ولكن بعيدا عن صخب العلاقات، والصراعات السطحية البائسة بين المثقفين، فهو لم يسع لموقع، ولكنه بنى لنفسه مكانة، جعلته واحدا من أبرز وأهم الأصوات الشعرية العربيّة في زمننا.
حين رأى نزيه أبوعفش ما يحيق ببلده سورية، نفر من القتل والإرهاب، ومن التكفيريين بكل أنواعهم وأسمائهم وتمويلاتهم، ومن احتضان القوى الرجعية لهم، فاختار وطنه، وإنسان وطنه، وما كان هذا غريبا على نزيه…
مبكرا نبتت أصوات ( متثاقفين) بشّروا بالديمقراطية، وتجاهلوا تفشي التكفيريين القتلة، والدعم الخليجي النفطي، وبروز قوى مسلحة ترفع شعارات التكفير، وتمارس الذبح على الهوية، و..قفزوا إلى خارج سورية، ولعلعت أصواتهم مبشرة بالديمقراطية…
نزيه الإنسان والشاعر الكبير لم يمنح صوته إلاّ لوطنه سورية، ورفض هذا التزوير، واحتضن جراح بلده ، وصاح محذرا من هجوم الخراب، وفساد الوعي، وموسم بيع ( مثقفين) لكلماتهم التي تغطي اجتياح سورية بخراب مدمّر بشع.
إلى بلدته، مسقط رأسه، مرمريتا، عاد نزيه أبوعفش ورفيقته نادية، وترك الشقة التي امتلكها بعد كد سنوات، وأقساط اقتطعها وزوجته من خبزهم لدفع أقساطها، لعمر ابنه البك ليتزوج فيها، موفرا شيئا من الاستقرار لأحد ابنيه، ومجنبا له ولزوجته عناء رحلة مستنسخة عن الأب الشاعر، الذي عمل لسنوات طويلة معلما، وتلك كانت مهنته الوحيدة…
صبحي حديدي كاتب سوري، يعيش في فرنسا منذ عقود، ويحمل الجنسية الفرنسية، ويقدم نفسه كاتبا يساريا ( جذريا)، كتب في صحيفة القدس العربي، الصحيفة الفلسطينية المنشأ، والتي كنت من كتابها على امتداد 24 عاما، وتوقفت عن ذلك بعد بيعها واستحواذ قطر عليها، ليتم توظيفها في خدمة المؤامرة على سورية،..كتب مقالة تفيض بالكذب والوقاحة في القدس العربي، بعنوان( حلب / والمثقف الحشوة)، جاء فيها: وأبوعفش صاحب سلسلة مواقف شهيرة محابية للنظام السوري، أو ساكتة عن جرائمه، أو مؤيدة لشركائه في الإجرام …
يعرف كتاب وشعراء وفنانو سورية، وكثيرون في الوطن العربي أن الشاعر نزيه أبوعفش أخلاقي كبير، وأن هذه الصفة تنبع من عمق رؤيته لدور المثقف، ولأن هذه رؤيته فإنه أبدا لم يؤجّر صوته، لا مدح، ولا تزلّف، ولا انتظر الجوائز، ولا أقيمت له حفلات التكريم التي لم يسع لها…
سر هجمة صبحي البائسة راجع إلى فشل استقطاب نزيه، والتأثير عليه، وجذبه وإغوائه لمغادرة سورية، وطنه، وأهله، وتأجير صوته واسمه الكبير لأعداء وطنه، ولكرامته، ولمصداقيته..والمثقف مصداقية يا صبحي حديدي!
لم يؤثر تزوير وكذب صبحي حديدي على حضور نزيه أبي عفش، ومع افتضاح مشروع ديمقراطية قطر والسعودية وتركيا بالرعاية الأمريكية الصهيونية، ومع تحرير المدن والقرى السورية، ودرّتها حلب، فإن مقالة تافهة في منبر كان لفلسطين يوما، وكان للثقافة المبشّرة بالمقاومة، وآل لخدمة مشيخة قطر، فسيكون مفهوما هذا السعار الذي هدف النيل من أحد ألمع شعراء العرب المعاصرين، وأكثرهم نقاء سيرة، ومصداقية، وتطابقا بين القول والممارسة…
لا، ليس دفاعا عن نزيه أبي عفش ما أكتب، فهو ليس في موقع المتهم، فالمتهم هو من يوظف نفسه لشيوخ قطر، و( للدور الفرنسي) المفضوح ..وما هذا بخاف يا صبحي، وما يمكن أن يقال عن توظيف ( مثقفين) في خدمة أعداء الأوطان التي أنجبتهم فعقّوها كثير جدا..جدا يا صبحي!
المثقف التابع، المؤجّر لصوته يتطاول على المثقف الأصيل الكبير..هذا ما أردت أن أنبه إليه، مع إن التابعين خبا حضورهم بأسرع مما توقعوا، لأن مؤامرة مشغليهم في المؤامرة على سورية تُفتضح، وتبوء بالفشل يوما إثر يوم…
* جريدة القدس العربي، العدد 8681 بتاريخ 19 كانون الأول 2016