المثقف والسياسة والمواجهة
نضال حمد
لا يوجد ما يحير المثقف ويعيده إلى الوراء قليلا إلا وحل السياسة اليومية، فكم من المبدعين سلبتهم السياسة ثقافتهم الحقيقية وأخلاقهم الإنسانية وأعمالهم الإبداعية. لأن المثقف الذي ينشغل في اليوميات السياسية بدلا من انشغاله بالحالة الإنسانية والإبداعية يكون كمن يبحث عن الرمل في المنخل. فالسياسة لا تعطي الثقافة حقها لأن السياسة فن إدارة التحايل وفن صناعة النفاق، إذ لا يوجد شيء في السياسة اسمه الثقة ولا ثقة بأحد في العمل السياسي، فالثقة الوحيدة هي لا ثقة الذين لا يثقون بأحد، بأي احد، سواء كان الواثق سياسيا أميَا أم سياسيا مخضرما ومثقفا وواعيا وعارفا بمداخل السياسة وبمماسك الثقافة.
إن السياسة بحر من الأكاذيب والحِيّل التي يؤمن بها أصحابها كوسيلة من وسائل الهيمنة على السلطة والناس في منطقة ما أو مجتمع ما. فكيف للمثقف الذي يحمل هموم الناس إبداعا ويطرح مشاكلهم أدبا أو شعرا أو فكرا أن يقدر على السباحة عكس تيار السياسة المثقل بالوقاحة والمعروف بقلة الصراحة. لا يمكن للمثقف أن يبدل قلمه بمحبرة السلطة السياسية ورأسه بخوذة الجندي الباحث عن شهرة رامبو في الزمن الأمريكي الذي يعيد أمجاد الحروب الاستعمارية وذكريات المحارق التي اكتوت بنارها البشرية. فمحارق الأمس تتجدد هذه الأيام وتتكاثر في هذا الزمان، في بغداد التي تحترق بنار الذين خانوا تعاليم المسيح المخلص من أمثال بوش الابن، هذا الرئيس الذي ينفذ مآرب الشيطان من حيث يدري أو لا يدري، لأنه لا يجوز لإنسان طبيعي وعاقل أن يستغل الدين في قضايا إرهابية واستعمارية وعنصرية وبالذات في قضايا قتل الأبرياء وتحليل المذابح بحقهم.
نقول كلامنا هذا بعدما شاهدنا الذي حدث ويحدث في العراق وبعدما كنا شاهدنا الذي حدث قبل عام في فلسطين بشكل عام وفي مخيم جنين بشكل خاص، فملحمة مخيم جنين العظيمة تستحق منا تكريما عظيما يليق بالصمود الأسطوري الذي عَلَمَ الغزاة دروسا لا تنسى . فهناك في أزقة المخيم الصغير تحول كل شيء إلى قنابل ومتفجرات كانت تتطاير وكان صناعها يتسابقون على الشهادة والاستشهاد بعد أن يقوموا بحصد الجنود الغزاة… وهناك حيث قاتلت فئة صغيرة بأيمانها الكبير والمتفاني والمتعالي فئة كبيرة من لقطاء الجيش الغازي وآلة حربه التدميرية. فقاتلت تلك الفئة الصغيرة بروحها وقوة انتماءها جيش كرار، جرار، تسانده طيور الاباتشي والفانتوم المعدنية، الأمريكية الصنع والذخيرة، والأمريكية القنابل المحرمة دوليا وإنسانيا. قاتلت بعد أن صمدت صمود الجبال التي تغلي فيها البراكين. وبعد أن عجز الغزاة عن دحر المدافعين عن المخيم كان الانتقام وكانت الملحمة وكانت المذبحة، وكان الاستشهاد بعد نفاذ الذخيرة واستشهاد كل المدافعين عن المخيم.
إذا أردنا الاستفادة من ملحمة مخيم جنين يجب علينا أولا النظر للمعركة من زاوية أن الذين قاتلوا في المخيم كانوا يقاتلون بإرادة استشهادية عالية جدا. وبمعنويات فلسطينية مميزة وبقدرة فائقة على التمييز بين الموت والحياة، وبين الحديث السياسي والتنظير الثقافي والعمل المقاوم والفعل الميداني. وكان لشهداء مخيم جنين الدور الحاسم في إعادة هيبة فلسطين وثورتها وانتفاضتها ومقاومتها بعدما جعلت المفاوضات السياسية والنتائج التفاوضية من جانب الفلسطينيين أعجز من أن نصفهم بالعجزة.
في حصار المخيم كانت طيور الموت والخراب والدمار الصهيونية تمارس بشاعتها في وضح النهار وبقلب اليوم وبلا خوف أو خشية وحتى رجفة من عين كاميرا أوروبية أوعربية. فالسياسة المتبعة هي سياسة المسح الشامل والابادة التامة لكل ما هو عكس رياح التغيير الشارونية. فقام الغزاة العتاة بتعميم القصف وتشريع الإعدام والخراب وبتدمير المخيم
وقاموا بقصف الأحياء السكنية وجرفها بعد هدمها على من فيها من بشر وأحياء. فقتلوا الناس مدنيين وغير مدنيين، لكنهم لم يقتلوا الإصرار في قلوب أطفال مخيم جنين، لأن المخيم الذي اسمه جنين بقي ولازال كالخبر اليقين عند كل طفل يكبر وينمو على صوت القنابل وأزيز الرصاص وهدير الطائرات في جنين وفي كل فلسطين. لم يقتلوا الانتماء والارادة عند الطفل الفلسطيني الذي يسأل عن والديه، عند الطفل الفلسطيني الذي سيرسم للمثقف الفلسطيني طريقة الإبداع في زمن العيش على أعتاب جهنم وبالقرب من أبليس، لأنه طفل المعاناة الذي يكبر في أعين الناس، وهذا الشبل هو الذي سيحدد ملامح الطريق الفلسطيني الجديد، وهو الذي سيخطط للسياسي الفلسطيني سياسته، وما على المثقف إلا أن يستمد الزاد والوقود من أطفال وأشبال المخيمات ليواصل إبداعه بعيدا عن السياسة العفنة وقذارة العهر السياسي المنتشرة.
الثقافة شيء أكبر وأطهر وأنقى من عفن وعهر السياسة، أما السياسة فهي للذين لا يجيدون غيرها من الفنون الجميلة، هذا إن صح وكان فيها ما هو جميل. فقبح السياسة هو الذي ولد ثقافة المذبحة والمجزرة، حيث أصبح الثقافي يرى صورته في مرآة السياسي والعكس كذلك صحيح.
يحضرني الآن وأنا أكتب هذه الكلمات البيان العتيد الذي صدر عن مجموعة من الشخصيات الفلسطينية و(الإسرائيلية) التي سمت نفسها” مجموعة العمل من أجل السلام (الإسرائيلي) – الفلسطيني” ولاحظت أن معظم الذين وقعوها من الجانب الفلسطيني هم من الذين يحسبون على ما اتفق في قديم الزمان الفلسطيني، نقصد زمان التفرقة العقائدية، بمعسكر اليسار الفلسطيني، وهؤلاء يُكثرون دائما من المواقف التي تعبر عن اندفاعهم نحو الجانب (الإسرائيلي)، وهذه الظاهرة لم نستطع بعد إيجاد تفسير دقيق لها، فهي لا تعبر عن انشغال هؤلاء الناس بالهم الوطني العام فقط بل أيضا بالضوئية السياسية وبالنجومية الثقافية التي تستمد وجودها من وجودية الذين حرموها وجودها. وبعيدا عن الخوض في البيان الذي وقعته تلك الشخصيات نرى أنه من الضروري لتلك الفئة المثقفة من الفلسطينيين الذين يتسابقون فيما بينهم على توقيع البيانات الشبيهة أن يلتفتوا حولهم ويشاهدوا دائرتهم بدقة. وأن يتصرفوا بموضوعية وبأمانة تليق بأمانة الثقافي في زمن المذابح والطروحات المسوخية الطابع والسوداوية اللون والعلقمية الطعم. فالشعب الفلسطيني بحاجة للمزيد من العمل لا للكم الهائل من البيانات والتوقيعات والسياسات التي لا تقدم شيئا لجياع المخيمات ولا تعيد بناء البيوت التي هدمتها جرافات الاحتلال ولا زالت تهدمها في فلسطين المستباحة.
نقول كلامنا هذا حرصا منا على مهمة الثقافي الفلسطيني في زمن السياسي الذي لم يترك شيئاً إلا ودخل فيه ولم يخرج منه كي يبقينا فيه بلا بوصلة و كي لا يخرجنا منه ببوصلة تحدد مسارنا بعدما ضاقت بنا الحياة.
قد يقول قائل أن هؤلاء الذين وقعوا البيان جلهم محاصر بالموت والجنود الأوباش والاحتلال فلا تزايدوا عليهم أو تثقلوا من همهم. نعم هم في الوطن المحتل منهم من هم محاصرون وكيفما اتفق يمارسون دورا في صد الغزوة عن بلادنا. ومنهم من يمارس سياسة تعزز الحصار. وليس مجرد أنهم في فلسطين يعني أنهم يواجهون الاحتلال وحياتهم صعبة ومعقدة ولا تقارن بحياتنا بعيدا عن الحرب والويلات في أوسلو النائية والهادئة. لقد عشنا أيضا الحروب والحصارات والمواجهات، ونعلم أن الذي في النار ليس كالذي خارجها. لكن الذي في النار هو شعبنا لذا نقول له عذرا ونحن معك بما نستطيع من حب وتضامن ومشاعر لكننا نقول للموقعين على البيان أن الدرب واحد حين تلتزمون بثوابت شعبكم فالمسألة أكبر من بيانكم لأن معاداة الاحتلال ودعم المقاومة لتحرير فلسطين هم المعيار والميزان.
المثقف والسياسة والمواجهة
نضال حمد
1 نيسان 2004